أغنية ( أم الغيث ) … والحقيقة الغائبة


أغنية ( أم الغيث ) .. والحقيقة الغائبة

هذه العادة كانت في الكويت، ولكنها انقطعت تقريبًا في الخمسينات، كما أخبر بذلك أحمد البشر الرومي (كما في كتاب الدكتور يعقوب يوسف الغانم).

بداية هذا المعتقد:

بعض المعتقدات والطقوس قد تكون خفية البداية، بحيث لا يعرف سبب بدايتها أو من ابتدأها أو كيف بدأت.

وهنا يتساءل أحمد حسين [في (التراث العربي) العدد (٦٦) (ص٩٥) تحت عنوان: (طقوس المطر في الجزيرة السورية)] :

(والسؤال الأساسي يتمحور حول (أم الغيث)، فمن هي؟! والواقع أننا لا نجد إجابة لدى أجيال الآباء والأمهات والأجداد والجدات، فهولاء كانوا يمارسون هذا الطقس لاعتقادهم أنه يجلب المطر دون معرفة المقصود بأم الغيث..).

هذه من العادات التي لعلها مستقاة من عادات وتقاليد دول وحضارات أخرى، وليست من عادات أهل الكويت؛ وإنما بسبب نزوح بعض القبائل والعوائل من مختلف البلدان، والتي غالبًا ما يحملون معهم بعض المعتقدات الخاطئة والشركيات المخالفة (لدين الله، ولسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم)، فبسبب ممارستهم لبعض طقوسهم وعاداتهم، وكان الجهل منتشراً والعلم قليل؛ فيحصل اكتساب ما عند الآخر من باب تبادل الثقافات أحياناً، والتقاء الحضارات أحياناً أخرى، إلا أن هذا لا يغير من الواقع شيئاً، فالشرك يبقى شركاً مهما كان مقصد صاحبه، كما أن الخمر تبقى خمراً محرمة!

والذي يظهر لي -والله أعلم- أن هذه العادة مأخوذة من أهل العراق، وذلك لقربها من الكويت وللإتصال الكبير بين أهالي البلدين، وموجودة أيضاً في بلاد الشام، ولعل المسلمين أخذوها من النصارى، كما سَيَمر معنا أن النصارى كانوا يفعلون هذه الطقوس ويسمونها (أم الغيض)، ويصنعون هيكلًا ينبئ عن مريم العذراء، ومثل هذه الطقوس من جعل المستغاث به على شكل صليب، وجعل المستغاث به أيضاً عبارة عن (امرأة)، مع ما يصاحب ذلك من أناشيد وترانيم؛ فإن هذا أقرب ما يكون للنصارى، فتلقف ذلك منهم المسلمون لمّا عم الجهل وقل العلم!

ولا يمنع هذا أن يكون لـ(أم الغيث) امتداد تاريخي أسطوري يستخدم هذا الطقس لحالات الجدب.

فيقول أحمد حسين [المرجع السابق] :

(وللإجابة عن هذا السؤال نجد أنفسنا بحاجة إلى الاتكاء على الموروث الأسطوري وقراءة طقوس الخصب القديمة التي كانت منتشرة في بلاد ما بين الرافدين؛ ولأن الطقس ذو طبيعة أنثوية، فإن الإفتراض الأولى لطبيعة (أم الغيث) أنها من ربات الخصب، حيث يمكن القول: إن (أم الغيث) تمثل (أنانا) السومرية أو (عشتار) البابلية، ولكن في عصور غامضة بعيدة الحضور في الذهن، ولا شك عندئذ أن هذا الطقس استمرار لطقوس الخصب القديمة.

ومما يزيد هذا الاعتقاد أن المرأة شكلت ركيزة أساسية في طقوس الخصب لدى مختلف الشعوب والحضارات، حيث يتحدث علماء الأساطير والآنتربولوجيا من تصورات للقوة الإلهية في شكل وماهية أنثوية، هي الأم الكبرى للكون، وذلك في العصر الباليوليتي الأعلى (١٠٠٠٠-٣٠٠٠٠ قبل الميلاد) والديانة الباليوليتية ديانة زراعية في اعتقادها وطقسها، والأسطورة الأولى هي أسطورة زراعية تتكن حولها آلهة واحدة هي سيدة الطبية،

وذلك في مرحلة ما قبل بزوغ الكتابة ونشوء المدن، وقد علقت الأم الكبرى بأسماء كثيرة في الحضارات المتعاقبة، فهي على سبيل المثال: (نمو، وأنانا السومريكتان، وعشتار البابلية، وهناة الكنمائية، وعشتروت الفينيتيـة، وإينيس المصرية، وافروديت الافريقية). وفي هذا المعنى يقول الباحث في…….) [(ص٩٩)].

ثم يختم ذلك بقوله : «وهذا ما يؤكد أن بنية طقس (أم الغيث) تحمل موروثات أسطورية تسربت إلى الذاكرة الشعبية….).

وهذه العادة منتشرة في الشام كثيراً والعراق وعلى أنواع مختلفة، إلا أنها كلها تجتمع على مشهد واحد وهو طلب المطر!

فيقول حسان عباس [في كتاب (الموسيقى التقليدية)] :

(تجتمع المحتفلات في ساحة الحي وتظل (أم الغيث) مرفوعة…. فيظلون إلى ساعة متأخرة من الليل في العراء ينتظرون هطول المطر، فإن نزل عادوا إلى بيوتهم، وإلا يعاد تمثيل المشهد من جديد حتى تستجيب السماء لدعواتهم ولتوسلاتهم!).

ثم يكمل فيقول:

(تقول أغنية (أم الغيث):

أم الغيث غيثينا

بلي بشت راعينا

راعينا حمد أكرع

لو سنتين ما يزرع

أم الغيث ياريه

عبي الحوايه ميه

أم الغيث زعلانه

تجيب المطر من عانه) انتهى.

وهذا كما هو ظاهر شرك واضح!

ويقول عمر الساريسي [في كتاب (الوعي الفلكلوري في الأردن وفلسطين) (ص٢٠٥)] – وهو يعدد لهجات البدو-:

(وبعض أفعالهم « أغنية أم الغيث»).

ويقول حسن أمين [في كتابه (العادات والتقاليد في لبنان)] :

(من أناشيد استسقاء بدو شرق الأردن ما يرد فيها مناشدة (أم الغيث)، ومن أناشيد استسقاء فتيان النصارى مناشدة (أم الغيض) ).

ثم ذكر تفسيرين لهذين الإسمين فقال الكاتب مبين معنى (أم الغيض) و(أم الغيث) بأن معناها: (السيدة العذراء، أو آلهة وثنية اسمها (أم الغيث) ).

ويقول بندر ناصر [في كتابه (صالحة) (ص١٤)] موضحاً شكل (أم الغيث):

(وهي مصنوعة من عصوين على شكل صليب مغطى بثوب فتاة، فحملته أجمل بنات القبيلة… وهي تغني:

يا أم الغيث غيثينا

بلي بشت راعينا

يا أم الغيث غيثينا

من المطر الزينا…).

ويقول علي عفيفي [في كتابه (بدو العراق والجزيرة) ناقلًا ذلك عن ألويس موزل في كتابه (أخلاق عرب الرواة)] وهو يتكلم عن مشهد (أم الغيث) وكيفيته:

(تؤلف بنات البدو وزوجاتهم موكبًا مع (أم الغيث)، فيمد ثوب امرأة على عصوين…..

يا أم الغيث أغيثينا

بلي عباءة راعينا).

ويقول أحد رجالات الكويت أحمد البشر الرومي [كما ذكره الدكتور يعقوب يوسف الغنيم في كتابه (أحمد البشر الرومي قراءة في أوراقه الخاصة) (ص١٨٩)] :

( (أم الغيث) وهذه عادة أخرى من العادات التي كانت موجودة في الكويت، ومعنى (أم الغيث) (أم المطر)، ويقوم بهذه العادة بنات الحي الصغار….. يضعون صليباً من الخشب يصنعون له رأسًا ووجهًا من الخرق البالية، ويرسمن على الوجه الأنف والعينين والأذنين، ويلبسنه ثوبًا، وهذا الهيكل المسمى بـ(أم الغيث)…. وينشدن:

يا أم الغيث غيثينا .. بلي ابشيت راعينا).

ثم يكمل مبَيِّنًا هذه الطقوس وفيها يظهر الشرك البين الواضح:

(ومعهن ماء يرششن به وجه وجسم هذا الهيكل… وباعتقاد هؤلاء البنات أن المطر ينزل بمثل هذه العادة، حيث إنهن أشعرن (أم الغيث) بحاجتهن إلى الغيث) !!

وهذا يدل على تعلق القلوب بهذا الهيكل في إنزال المطر، حيث أنهن بهذه الأفعال يشعرن الهيكل بحاجتهن إلى المطر= فهذا هو الشرك الذي لا خلاف فيه!

ويزيد الأمر وضوحًا في كونه شركًا أكبر وأن بدايات هذا المعتقد هو جعل (أم الغيث) الرب! :

ما ذكره الكاتب الروائي أحمد الطراونة [في كتابه (الصفصافة) (ص١٠٢) وهو على شكل مشاهد درامية] يقول وهو يحكي قصة شيخ أنكر على النساء هذا الشرك وجعله استغاثة بغير الله:

(همت النساء وهن يرددن (يا أم الغيث يا ربي)… اعتدل الشيخ عبد الله في جلسته: من يستغيث بغير الله ضال… خلونا أنصلي صلاة الاستسقاء أحسن من خشبة عجائز العرب خلونا ندعي ربنا…).

ويقول أحمد حسين [في (التراث العربي) العدد (٦٦) (ص٩٥) تحت عنوان (طقوس المطر في الجزيرة السورية)] :

( (أم الغيث) من أشهر طقوس المطر، تقوم به النساء ويجمع بين الغناء والرقص، ويمتد أثره إلى بلاد الشام وفلسطين والعراق…).

وهذا يدل على أن هذا المعتقد كانت بداياته في العراق والشام، وأن الجزيرة العربية لا تعرفه؛ وإنما انتقل إليها بسبب الاختلاط والرحلات والنزوح والسفر.

الخاتمة:

تبين أن هذا الطقس كان في الكويت وانقطع، وأنه مأخوذ من العراق، وأنه استغاثة صريحة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا شرك واضح!

النتيجة:

١- هذا المعتقد إنما هو دخيل على أهل الكويت.

٢- أن هذا المعتقد إنما كانت بداياته في العراق والشام، وقد يكون له امتداد تاريخي قديم أسطوري.

٣- أن هذا المعتقد قد انقطع من الكويت في الخمسينات كما أخبر بذلك أحمد البشر الرومي، ولعل ذلك بسبب قيام دعوة التوحيد وقيام المصلحين بما أوجبه الله عليهم من إنكار المنكر.

٤- أن هذا المعتقد وهذه الطقوس شرك أكبر، وأنه استغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.

٥- أن الذين كتبوا عن هذا المعتقد قد ذكروا أنه عبارة عن طلب المطر من هذا الهيكل، وأنهم يشعرون هذا الهيكل بحاجتهم للمطر، وهؤلاء الكتاب ليس لهم بُعد سلفي حتى يكونوا محل تهمة عند من كان في قلبه مرض.

٦- أن هذا المعتقد الأقرب أنه مأخوذ من النصارى، فقد كانوا يجعلون ذلك على صليب بهيئة امرأة ويدعونها (أم الغيض)، وينشدون ويترنمون عنده، فتلقف ذلك عنهم المسلمون.

والله أعلم .

كتبه: د. حسن بن صنيدح العجمي.


شارك المحتوى: