أصلان مهمان في الاستدلال
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإن إِحكامَ الأصولِ في الاستدلال مهم؛ لأن الفروع تنتج وتتفرع منه، وهاهنا أصلان مهمان لا يستقيمان مع الفقه الظاهري المُحدَثِ [1] والمنسوبِ زورًا لأهل الحديث كما اشتكى من ذلك ابن رجب في كتابه (فضل علم السلف على الخلف) [2].
الأصل الأول: ألّا يتكلم أحد في مسألة إلا وله سلف وإمام، فلا يُحدِث قولًا جديدًا مخالفًا لأقوال السلف؛ وذلك أن الله أمرنا بالرجوع إلى السلف والاحتكام إلى أفهامهم، قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115] وقال سبحانه: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: 100] وقال: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ [البقرة: 137] وهذا عام في الشريعة كلها عقيدةً وفقهًا وغير ذلك.
قال الإمام أحمد: “إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام” [3].
ونقل ابن نجار في (شرح الكوكب) عن الإمام أحمد فيمن يفتي أنه قال: “وينبغي أن يكون عالمًا بقول من تقدم” [4].
وذكر الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه) عند ذكر شروط من يصلح للفتوى، ومما قال: “والثالث: العلم بأقاويل السلف فيما أجمعوا عليه، واختلفوا فيه، ليتبع الإجماع، ويجتهد في الرأي مع الاختلاف” [5].
قال الحليمي: “ومعرفة أقاويل السلف من الصحابة والتابعين ومن دونهم وتمييز الاجتماع والاختلاف“. – ثم قال – “وينبغي لمن أراد طلب العلم ولم يكن من أهل لسان العرب أن يتعلم اللسان أولًا ويتدرب فيه ثم يطلب علم القرآن الكريم فلن تتضح له معاني القرآن إلا بالآثار والسنن ولا معاني السنن والآثار إلا بأخبار الصحابة ولا أخبار الصحابة إلا بما جاء عن التابعين. فإن علم الدين هكذا أدى إلينا“، ونقله عنه البيهقي وأقره [6].
الأصل الثاني: أنه إذا لم يُعرف للمتقدمين قول إلا قول فلان من التابعين أو أتباعهم، فالأصل متابعتهم؛ لأنه أرفع ما في هذه المسألة من أقوال السابقين، ولأننا مأمورون باتباع السلف وألا نُحدث قولًا جديدًا.
قال الإمام أحمد: “فإذا اختلفوا، نظر في الكتاب: باي قولهم كان أشبه بالكتاب أخذ به، أو كان أشبه بقول رسول الله ﷺ أخذ به، فإن لم يأت عن النبي ﷺ ولا عن أحد من أصحاب النبي ﷺ: نظر في قول التابعين، فأي قولهم كان أشبه بالكتاب والسنة أخذ به، وترك ما أحدث الناس بعدهم” [7].
وفي هذا احتجاج الإمام أحمد بأقوال التابعين كما هي إحدى الروايتين عنه؛ لأنهم أخذوا العلم من الصحابة فقال: “لا يكاد يجيء الشيء عن التابعين إلا ويوجد فيه عن أصحاب النبي ﷺ، يعني: عندي ما يمثل عليه ذلك الشيء” [8].
وقال الإمام أحمد: “ما أجبت في مسألة إلا بحديث عن رسول الله ﷺ إذا وجدت في ذلك السبيل إليه أو عن الصحابة أو عن التابعين فاذا وجدت عن رسول الله ﷺ لم أعدل إلى غيره، فإذا لم أجد عن رسول الله ﷺ فعن الخلفاء الاربعة الراشدين المهديين فإذا لم أجد عن الخلفاء فعن أصحاب رسول الله ﷺ الأكابر فالأكابر من أصحاب رسول الله ﷺ فإذا لم أجد فعن التابعين وعن تابعي التابعين” [9]
وفي هذا -والله أعلم- الاحتجاج بالتابعين ومن بعدهم لأنهم أرفع الأقوال في هذه المسائل.
والمستدل يراعي ألا يحدث قولًا فإذا علم أرفع وأعلى ما في المسألة صار إلى قوله، وقد طبق ذلك الإمام أحمد عمليًّا في أقل الحيض وعلل بأنه أرفع ما في الباب، قال الميموني: “قلت لأحمد بن حنبل: أيصح عن رسول الله ﷺ شيء في أقل الحيض وأكثره؟ قال: لا، قلت: أفيصح عن أحد من أصحاب رسول الله ﷺ؟ قال: لا، قلت: فحديث أنس؟ قال: ليس بشيء أو قال: ليس يصح، قلت: فأعلى شيء في هذا الباب؟ فذكر حديث معقل عن عطاء: الحيض يوم وليلة” [10].
إن مراعاة هذين الأصلين مفيدان في أن يستقيم حال الدارس والمجتهد والفقيه على ما عليه الأولون، فيكون أثريًّا بعيدًا عن أهل الرأي -كما هو الشائع من فقه الأحناف-، وعن بدعة التعصب للمذاهب الأربعة، وبعيدًا عن أهل الظاهر كما شاع هذا المذهب بين محبي الدليل والحديث بدافع تعظيم الحديث واتباع الرسول ﷺ، وهذا خطأ؛ لأنه كما يشترط للاستدلال بالحديث صحة الإسناد فكذلك يشترط إسناد الفهم بأن نفهم كما فهم من سبقنا؛ لعموم الأدلة السابقة.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يبصرنا وأن يهدينا، وهو أرحم الراحمين.
د. عبد العزيز بن ريس الريس
26 / 1 / 1447هـ
_______________________
[1] الاعتصام (1/220). ت الهلالي ط1.
[2] بيان فضل علم السلف على علم الخلف (ص 24) دار الفاروق الحديثة – ط1.
[3] مناقب الإمام أحمد (ص 45) دار هجر – ط2.
[4] شرح الكوكب المنير (4 / 557) مكتبة العبيكان – ط2.
[5] الفقيه والمتفقه (2 / 331) دار ابن الجوزي – ط2.
[6] شعب الإيمان» (2/ 251 ت زغلول)
[7] طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (2/ 16) ت الفقي
[8] مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني» (ص368) مكتبة ابن تيمية
[9] المسودة في أصول الفقه» (ص336) مطبعة المدني
[10] «الأوسط لابن المنذر» (2/ 229) دار طيبة