أحداث غزة (طوفان الأقصى) وقاعدة أحكام الوقوع تختلف عن أحكام الشروع


بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد:

فإن القواعد الفقهية مفيدة في ضبط العلم ومعرفته، مع التنبُّه إلى التفريق بين القواعد المستمدة من النصوص الشرعية وبين القواعد المذهبية، ومن القواعد الفقهية ما يردُّ، فليس كل ما ذكر بعض أهل العلم أنه قاعدة فقهية يُقبل، كما بينه ابن القيم في (أعلام الموقعين) والشوكاني في (أدب الطلب ومنتهى الأرب).

وما أكثر الأدلة الشرعية التي رُدَّت بما يزعم أنه قاعدة فقهية، فيجب على طالب العلم أن يكون وسطًا في هذا الباب، وحذِرًا، وصاحب بيِّنةٍ، وبرهان.

إن من القواعد الفقهية: (أحكام الوقوع غير أحكام الشروع) وقد أُطلقت بأسماء أخرى كأحكام الابتداء غير أحكام الدوام، وهكذا… -على أني لم أقف على من ذكرها بلفظ أحكام الوقوع غير أحكام الشروع- وهذه القاعدة وإن كانت صحيحة لكنها خلاف الأكثر شرعًا كما ذكره الونشريسي في كتابه المعيار المعرب (2/165).

وإن لهذه القاعدة شواهد شرعية وفروعًا فقهية تدل عليها فمن ذلك:

الأول: وجوب اتمام الحجة الثانية لمن شرع فيها.

إن ما زاد على حَجَّة الإسلام الأولى فهي حجة مستحبة، لكن من شرع فيها وجب عليه الإتمام؛ لقوله تعالى: ﴿‌وَأَتِمُّوا ‌الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196] وللإجماع الذي حكاه ابن قدامة.

الثاني: وجوب استمرار قتال العدو عند لقائه في الجهاد المستحب.

ومن ذلك جهاد الكفار، ففي بعض صوره مستحب وليس واجبًا، لكن عند لقاء الكفار يجب الاستمرار وعدم التولِّي- بضوابطه الشرعية-؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ ‌يُوَلِّهِمْ ‌يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الأنفال: 16].

الثالث: عدم الإنكار على الأعرابي الذي قد بال في المسجد مع أن الابتداء محرم.

ومن ذلك ما أخرج الشيخان من حديث أنس في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فابتداء وشروع البول محرم، لكن لمَّا وقع في التبول بالمسجد لم يُنكر عليه الرسول ﷺ، بل نهى الصحابة أن ينكروا عليه لما يترتب عليه من مفاسد.

وقاعدة أحكام الوقوع غير أحكام الشروع خلاف الأصل ولا تطرد في كل شيء، فمن ابتدأ محرمًا كالزنا أو شرب الخمر أو الربا، فلا يُترَك الإنكار عليه بحُجة أن أحكام الوقوع تختلف عن أحكام الشروع، ومن جامع زوجه قُبيل طلوع الفجر الصادق فيجب عليه ألا يستمر إذا طلع الفجر الصادق، ولا يصح أن يستمر بحجة أن أحكام الوقوع تختلف عن أحكام الشروع.

ومن ذلك من ابتدأ فعلًا يترتب على الاستمرار فيه مفاسد أكبر لم يجز الاستمرار فيه، كالجهاد الذي يترتب عليه مفاسد أكبر وأعظم كسفك دماء المسلمين وانتهاك أعراضهم وإهلاك أموالهم، فإنه لا يجوز الاستمرار فيه.

إذا تبين ما تقدم فإن المختلفين والمتنازعين في إنكار فعل حماس الإخوانية لاستعداء اليهود الغاصبين الكافرين لا يُنازعون في صحة القاعدة، وإنما ينازعون في صحة تنزيلها على الواقع وهو المسمى عند علماء الأصول والفقه بـ(تحقيق المناط).

فمن يرى أن حماسًا أخطأت في استعداء اليهود لما يجرُّ على إخواننا في غزة من الويلات والنكبات ومن مفاسد عظيمة ومهالك جسيمة خطَّأهم وخطَّأ استمرارهم وأنكر عليهم؛ لأن المفاسد أعظم، والدين قائم على جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، وقرر أنه لا يصح تنزيل قاعدة (أحكام الوقوع …) على فعل حماس التهوري.

ويدل على هذا ما نشاهده من دمار عظيم وفساد جسيم على إخواننا المستضعفين في غزة -هذا كله على افتراض حسن نية حماس الإخوانية أما مع ما يؤكده الواقع الحالي، وتاريخ حماس، وتاريخ الإخوان الماضي من أن الأمر مؤامرة أمريكية يهودية رافضية إخوانية، وأنها مؤامرة مكررة بصور مختلفة كما سبق قبل سنوات فيما يسمى بالربيع العربي، فلا ينبغي أن يُختلَف في حرمة ابتداء حماس واستمرارها، وأنه يجب الاجتهاد في إنكاره-.

ومن الخطأ الفاحش أن يُقِرَّ أحدٌ بأنه يترتب على الاستمرار أضرار أكبر ثم يستدل بقاعدة (أحكام الوقوع …).

والخلاصة المعتصرة: أن الاستدلال بقاعدة (أحكام الوقوع …) خارج مورد النزاع، وإنما يكون البحث والاستدلال في صحة استمرار حماس (على تقدير أنهم أخطأوا بحسن نية) فحنانيك حنانيك يا من جعلت القاعدة مفزعًا ودرعًا وحجةً للرد على من يخالفك في السكوت عن إنكار استمرار حماس في جر الويلات على المستضعفين في غزة، وأشد من ذلك وأشنع من يجعل الإنكار على حماس من دلائل مودة اليهود وحبهم كما زلت في ذلك أقدام بعض شبيبة السلفيين متابعة للإخوانيين بحماسة وبجهل -هداهم الله وأنقذهم من شباك الإخوان-.

أيها الفضلاء، إن دماء المسلمين وأعراضهم وأمنهم واستقرارهم عظيم، وإن المشاركة في تشريع السكوت عن الإنكار على من يفسدها كبير، وإن وَقْعَ اللسان -أحيانًا- أشدُّ من وقع النبال والسهام، فالمرجو من -فضلاء إخواننا- الذين نزَّلوا هذا التقعيد على هذا الواقع العنيد أن يُعيدوا النظر والتصعيد، فقد يفتحون باب شر لتكرار تنزيل هذا التقعيد على مؤامرات مستقبلية مدبرة أو تهورات عاطفية مكررة، فأول ما سمعت تنزيل هذا التقعيد على واقع حماس وغزة قبل سنوات ثم استمر، إلا أنه فيما يسمى بطوفان الأقصى شاع وذاع أكثر.

بل من أخطر ما حصل فيما يسمى بطوفان الأقصى -فيما نحن بصدده- أن كثيرًا من الشباب السلفي غلبته عاطفته فضم صوته للإخوان المفسدين، وصار يطرح كطرحهم، بل بعضهم ركب مركب الإخوان، وبعضهم رجع على إخوانه السلفيين بألقاب السوء والتحذير.

أيها المشايخ الفضلاء، تداركوا السلفيين، واجمعوا كلمتهم ولو اختلفوا في أحداث غزة الجاري، وأقطعوا الطريق على الإخوان ومن تميع وقاربهم، وركب ركابهم، وصوب سهامه المكسورة معهم.

أيها المشايخ الفضلاء، إن واجبكم عظيم، والسلفيين أمانة في أعناقكم، وأنتم ربان سفينة الإصلاح فقودوا السلفين إلى بر أمان السنة والسلفية لينجو من الإخوان ومكرهم، ومن العاطفة المفرطة وإهلاكها.

وقد كتبتُ مقالًا قبل أيام له علاقة بهذا المقال وعنوانه: ” سلفيون خدعوا في أحداث غزة (طوفان الأقصى) “.

اللهم اهدنا وإخواننا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم اغفر لنا ولإخواننا واجعلنا وإياهم متعاونين على البر والتقوى، اللهم سلم إخواننا في غزة من اليهود المجرمين إخوان القردة والخنازير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

د.عبدالعزيز بن ريس الريس

المشرف على موقع الإسلام العتيق

14 / شوال / 1445هـ


شارك المحتوى:
0