« نزول الغيث »
محمد بن سليمان المهوس /جامع الحمادي بالدمام
28/6/1447
الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيْحَكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، بَعَثَهُ رَبُّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ عَدَدَ قَطْرِ الأَمْطَارِ، وَعَدَدَ وَرَقِ الأَشْجَارِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَمَّنْ تَبِعَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلا فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 102]
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ » قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ، قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا. [ حسنه شيخ الإسلام ابن تيمية والألباني رحمهم الله ].
فِي هَذَا الْحَدِيثِ يُخْبِرُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – عَنْ عَجَبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ عِنْدَ احْتِبَاسِ الْقَطْرِ عَنْهُمْ ،وَقُنُوطِهِمْ وَيَأْسِهِمْ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقَدِ اقْتَرَبَ وَقْتُ فَرَجِهِ وَرَحْمَتِهِ لِعِبَادِهِ، بِإِنْزَالِ الْغَيْثِ عَلَيْهِمْ، وَتَغَيُّرِهِ لِحَالِهِمْ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ.
فَرَبُّنَا عَظِيمُ الْفَضْلِ، كَثِيرُ الإِحْسَانِ، وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، عَمَّتْ رَحْمَتُهُ جَمِيعَ عِبَادِهِ، وَأَنْزَلَ رِزْقَهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ؛ ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ [الشورى: 12].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: نُزُولُ الْغَيْثِ دَلِيلٌ بَاهِرٌ وَبَيَانٌ قَاهِرٌ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21، 22].
تَأَمَّلُوا -عِبَادَ اللَّهِ- السَّحَابَ الْكَثِيفَ الْمُظْلِمَ ، يَجْتَمِعُ مَتَى شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ مَعَ لِينِهِ وَرَخَاوَتِهِ، حَامِلٌ لِلْمَاءِ الثَّقِيلِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ فِي إِرْسَالِ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ؛ فَيُرْسِلُهُ وَيُنْزِلُهُ مِنْهُ مُقَطَّعًا بِالْقَطَرَاتِ كُلُّ قَطْرَةٍ بِقَدَرٍ مَخْصُوصٍ؛ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ، فَيَرُشُّ السَّحَابُ الْمَاءَ عَلَى الأَرْضِ رَشًّا، وَيُرْسِلُهُ قَطَرَاتٍ مُفَصَّلَةً لاَ تَخْتَلِطُ قَطْرَةٌ مِنْهَا بِأُخْرَى، وَلاَ يَتَقَدَّمُ مُتَأَخِّرُهَا وَلاَ يَتَأَخَّرُ مُتَقَدِّمُهَا، وَلاَ تُدْرِكُ الْقَطْرَةُ صَاحِبَتَهَا فَتُمْزَجُ بِهَا؛ بَلْ تَنْزِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي رُسِمَ لَهَا، لاَ تَعْدِلُ عَنْهُ، حَتَّى تُصِيبَ الأَرْضَ قَطْرَةً قَطْرَةً، قَدْ عُيِّنَتْ كُلُّ قَطْرَةٍ مِنْهَا لِجُزْءٍ مِنَ الأَرْضِ لاَ تَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ! فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ يَخْلُقُوا مِنْهَا قَطْرَةً وَاحِدَةً أَوْ يُحْصُوا عَدَدَ الْقَطْرِ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ لَعَجَزُوا عَنْهُ؛ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ يَسُوقُهُ سُبْحَانَهُ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ! يَسُوقُهُ رِزْقًا لِلْحَيَوَانِ الْفُلانِيِّ فِي الأَرْضِ الْفُلاَنِيَّةِ بِجَانِبِ الْجَبَلِ الْفُلاَنِيِّ، فَيَصِلُ إلَيْهِ عَلَى شِدَّةٍ مِنَ الْحَاجَةِ وَالْعَطَشِ فِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا، فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. [انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم].
فَاشْكُرُوا رَبَّكُمُ الْمُنْعِمَ سُبْحَانَهُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْغَيْثَ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ، وَيَزِيدُ النِّعَمَ عِنْدَ شُكْرِهَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7]،
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96].
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ، قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ»، قَالَتْ: وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ، سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: «لَعَلَّهُ، يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأحقاف: 24] »، فَهَذَا حَالُ رَسُولِنَا – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – إِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَرَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي يَخْشَى عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ – أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ – وَأَحْسِنُوا العَمَلَ قَبْلَ حُلُولِ الأَجَلِ، وَسَلُوا رَبَّكُمْ قَبُولَ أَعْمَالِكُمْ، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِينَ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْقَائِلُ سُبْحَانَه: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَ الدِّينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ، وَالاعْتِصَامَ بِالْحَبْلِ الْمَتِينِ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ .
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَمِّنْ حُدُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، وَجَمِيعَ وُلاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.