دعاة السنة والابتلاء


بسم الله الرحمن الرحيم

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:

فإنَّ المسيرة الدعوية لأهل السنة والجماعة محفوفة بالابتلاءات، وممزوجة بالاختبارات، والمرء يُبتلى بقدر دينه، ولهذا البلاء حِكم ومصالح عظيمة؛ قد يُدرِك العبد بعضَها، وقد يخفى عليه أكثرها.

وقد قضى الله قضاءً كونيًّا أن يمتحن أولياءه من المرسلين والأنبياء والصالحين والمجددين ودعاة الحقِّ بما يلقون من ابتلاءات، وهذا مذكورٌ بوضوح في كتاب الله وسنة نبيِّه ﷺ، وشواهده في التاريخ والواقع ظاهرة لا تخفى.

والابتلاء في أصله ليس شرًّا محضًا، بل فيه من المصالح ما يزيد المؤمن ثباتًا وقوةً، ويقيه من الضعف والانكسار أمام الشامتين والمعاندين، قال تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [آل عمران: 186].

تأمل هذه الآية: فقد بيَّنت سنَّة الله الكونية، وأرشدت إلى الموقف الشرعي، وهو الصبر على البلاء مع زيادة التقوى بفعل الواجبات وترك المحرمات، بل والترقي إلى فعل المستحبات وترك المكروهات، فذلك –كما قال الله– من عزم الأمور، وهكذا يجمع المؤمن في حال البلاء بين أمرين عظيمين: الصبر، وزيادة الطاعة.

وقد سلَّى الله نبيه ﷺ بذكر حال الأنبياء قبله، وما لاقَوه من ابتلاء ومحن، حتى يكون في ذلك تسلية للمؤمنين من بعده، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35] وقال ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [آل عمران: 184] وجاء في صحيح مسلم من حديث صهيب الرومي أن النبي ﷺ قال: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».

وبهذا يتضح أن المؤمن الحقيقي يجعل هدفه اللهَ والدار الآخرة في حال السراء والضراء على السواء، فالتعبد لله في الرخاء بالشكر، وفي البلاء بالصبر، ومع ذلك يزداد إقبالًا على الله وحرصًا على مرضاته.

ومن الوسائل التي تعين المؤمن في هذا الطريق ما يلي:

الأمر الأول: الإكثار من الدعاء، والإلحاح في التضرع إلى الله بالأذكار الشرعية.

كقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد ثبت أن إبراهيم -عليه السلام- قالها حين ألقي في النار، وأن نبينا ﷺ قالها حين اجتمع عليه المشركون، أخرج البخاري عن ابن عباس: “{‌حسبنا ‌الله ‌ونعم الوكيل} قالها إبراهيم -عليه السلام- حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قالوا: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا ‌حسبنا ‌الله ‌ونعم الوكيل}”.

وهي كلمات عظيمة تردّ عن العبد المخاوف، وتقلب المحن منحًا، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 173-174]

الأمر الثاني: التوبة وترك الذنوب.

ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ [المائدة: 49] وقال: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30].

والعباد مطالبون بالفزع إلى الله بالتوبة قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31] ومهما بلغ العبد فإنه خطّاء مقصِّر، يحتاج إلى تجديد توبته، واستغفاره، وتصحيح نيته في ابتغاء وجه الله والدار الآخرة دون التفات إلى مدحٍ أو ثناء.

الأمر الثالث: استحضار ما لقيه الأنبياء والمرسلون والمصلحون من قبل.

وفي مقدمتهم نبينا ﷺ، فقد اجتمعت عليه صور متنوعة من البلاء: أذاه قومه، وفقد أعز الناس عليه كزوجه خديجة وعمه أبي طالب، ورفض الناس لدعوته كما وقع في الطائف، بل وتعرَّض في المعارك للجراح والهزائم، كما في يوم أُحد حيث شُجَّ رأسه وكُسرت رباعيته، وقد تعجب الصحابة من وقوع ذلك رغم وجود النبي ﷺ معهم، فقال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165] وفقد كل أولاده ذكورًا وإناثًا في حياته إلا فاطمة -رضي الله عنها-، وإن فقد الواحد من الأولاد محرق للقلب فكيف بفقدهم جميعهم!! وعاش فقيرًا حتى ربط حجرين على بطنه من الجوع، إلى غير ذلك.

الأمر الرابع: التفكر في حقيقة الدنيا؛ فهي دار ابتلاء وكدر وهمٍّ وحزن.

قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4] وقد قيل:

طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها *** صفوًا من الأقذاء والأقدارِ

ومكلِّف الأيام ضدَّ طباعها *** متطلب في الماء جذوة نارِ

ولهذا كان ابن تيمية -رحمه الله- يردد هذين البيتين، إقرارًا بحقيقة الدنيا وأنها لا تُطلب بصفاء عيش وبال، فيجب أن يتعبد لله بالاستعانة به في الصبر على مصائبها وكدرها وهمومها.

الأمر الخامس: عدم الاكتراث بشماتة الأعداء، لا سيما أعداء التوحيد والسنة.

الأيام دول، والغلبة الظاهرة للكفار أو أهل البدع ليست دليلًا على صدقهم، وإنما هي ابتلاء للمؤمنين، وواجب المؤمن ألا يلتفت إلى فرحهم أو حزنهم، وإنما يقصد رضا الله وحده، وإن شماتة الأعداء في أهل السنة علامة على أثرهم فيهم، وكما قيل: الصراخ على قدر الألم.

وعلى المؤمنين إذا ابتُلي أحد إخوانهم أن يثبتوا معه، ويشدوا أزره بالكلمة الطيبة، والتذكير بالآيات القرآنية والسنة النبوية، وألا يزيدوا همَّه بنقل كلام الشامتين، فقد كان النبي ﷺ يحب الفأل الحسن، كما أخرج الشيخان عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: «ويعجبني ‌الفأل»، قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الطيبة».

فالنصر والتمكين مشروطان بأن يكون المؤمن على بيّنة من ربه، متمسكًا بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، وهو طريق أهل السنة السلفيين خاصة، لا غيرهم.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

د. عبد العزيز بن ريس الريس


شارك المحتوى:
0