« حقوق كبار السن »
محمد بن سليمان المهوس /جامع الحمادي بالدمام
13/3/ 1447
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: دِينُ الإسْلامِ هُوَ الدِّينُ القَيِّمُ الذِّي فِيهِ صَلاحُ الْعِبادِ وَالْبِلادِ، وَهُوَ أعْظَمُ المنَنِ مِنَ الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ، وَلا َيْقبَلُ اللهُ مِنَ الْعِبادِ سِواهُ، وَقَدْ تَكَفَّلَ لِسَالِكِهِ بِخَيْرِ دِينِهِ ودُنياهِ، لأَنَّ فِيهِ مِنَ الْمَبادِئِ السَّاميةِ، وَالأخْلاقِ الْعَاليَةِ، وَالْقِيَمِ النَّبِيلَةِ، مَا لا يَصْعُبُ حَصْرهُ؛ وَمِنْ ذَلكَ:
إِكْرامُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلمِ، وَجَعْلُهُ مِنْ إِجْلالِ اللهِ وَتِعْظِيمِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ التَّكَافُلِ الاجْتِمَاعِيِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينِ؛ فَعَنْ أَبِيِ مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ»
[ رواه أبو داود، وصححه الألباني].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : نَقِفُ اليَوْمَ مَعَ كِبَارِ السِّنِّ، وَمَعَ حُقُوقُهِمُ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا الإِسْلامُ وَحَثَّ عَلَيْهَا وَرَغَّبَ فِيِهَا ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الأَجْرَ الْعَظِيِمَ فِي الْعَاجِلِ وِالآجِلِ، وَالَّتِي مِنْ أَهَمِّهَا:
الْبِرُّ والإِحْسانُ إِلَيْهِمْ، وَرِعايَةُ حُقوقِهِمْ، وَالْقِيامُ بِوَاجِبَاتِهِمْ، وَتَعاهُدُ مُشْكِلاتِهِمْ، والسَّعْيُ فِي إِزالَةِ هُمُومِهِمْ وَأَحْزَانِهِمْ، لأَنَّهُمْ أَهْلُ الخِبْرَةِ والحِكْمَةِ والقدْوةِ ؛ عِلْمًا وخُلُقًا وسُلُوكًا، فَهُمُ التَّارِيخُ والإِطْلالَةُ عَلَى الزَّمَنِ الْمَاضِي بمَوَاعِظِهِ ودُرُوسِهِ وعَطَائِهِ الَّتِي تتَعَلَّمُ مِنْهَا الأَجْيَالُ اللاَّحِقَةُ، وهُمْ أَصْحابُ الفَضْلِ بَعْدَ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى الْقَائِلِ: ﴿وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾[ البقرة : 237 ]
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» [ رواه الترمذي، وصححه الألباني ]
وَمِنْ حُقوقِ كِبَارِ السِّنِّ: تَوْقيرُهُمْ وَإِكْرامُهُمْ بِأَنْ يَكونَ لَهُمُ الْمَكانَةُ فِي النُّفوسِ، وَالْمَنْزِلَةُ فِي القُلوبِ ؛ كَاَلْجُلوسِ مَعَهُمْ، والتَّحَدُّثِ إِلَيْهِمْ، وَسَماعِ كَلامِهِمْ ؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ – رَحِمَهُ اللهُ – : « لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ، فَاتِحًا، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، أَتَى أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِأَبِيهِ يَقُودُهُ، فلمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «هَلاَّ تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ؟ » – انْظُرْ إلَى هَذا التَّوْقِيِرِ وَالإِكْرَامِ – قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إِلَيْهِ؛ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- صَدْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَسْلِمْ»، فَأَسْلَمَ. [رواه أحمد بسند حسن].
وَمِن حُقوقِ كِبَارِ السِّنِّ: مُناداتُهُمْ بِأَحَبِّ الأَسْماءِ وَالأَلْقَابِ، وَأَجْمَلِ الكُنَى وَأَلْطَفِ الْخِطَابِ ؛ قَالَ أَبُو أُمَامَةُ بْنُ سَهْلٍ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: «صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدالَعْزيزِ الظُّهْرَ ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مالِكٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي العَصْرَ، فَقُلْتُ: يَا عَمَّ، مَا هَذِهِ الصَّلاةُ اَلَّتِي صَلَّيْتَ؟ – انْظُرْ إلَى هَذا التَّلَطُّفِ وِالاحْتِرَامِ – قَالَ: العَصْرُ، وَهَذِهِ صَلاةُ رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهُ وَسَلَّمَ- الَّتِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ» [رواه البخاري].
وَمِن حُقوقِ كِبَارِ السِّنِّ : أَنْ نُقَدِّمَهُمْ فِي الكَلامِ فِي الْـمَجالِسِ، وَفِي الطَّعامِ والشَّرابِ، والدُّخُولِ والْخُروجِ، فَقَدْ وَرَدَ مِنْ تَوْصِياتِ النَّبيِّ الْـمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- البَداءَةُ بِالْكَبيرِ قَبْلَ الصَّغيرِ فِي الجُلوسِ، والتَّحَدُّثِ احْتِرَامًا لَهُ وَتَوْقيرًا.
اللَّهُمَّ اخْتِمْ لَنَا بِخَيْرٍ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَالِنَا أَوَاخِرَهَا، وَخَيْرَهَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّـامِنَا يَوْمَ نَلْقَاكَ .
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ حُقُوقِ كِبَارِ السِّنِّ: مُراعاةَ صِحَّتِهِمْ، وَوَضْعِهِمْ البَدَنيِّ والنَّفْسِيِّ بِسَبَبِ الكِبَرِ والتَّجاوُزِ فِي العُمِرِ؛ فَهُمْ يَرْقُدُونَ لَكِنْ قَدْ لا يَنَامُونَ، وَقَدْ يَضْحَكُونَ وَلَكِن لا يَفْرَحُونَ، وَقَدْ يُخْفُونَ دَمْعَتَهُمْ تَحْتَ بَسْمَتِهِمْ، فَاجْعَلْهُمْ – يَا رَعَاكَ اللهُ – يَعِيشُونَ أَيَّامًا سَعِيدَةً وَلَيَالِيَ مُشْرِقَةً مَعَكَ، وَيَخْتِمُونَ حَيَاتَهُمْ بِصَفَحَاتٍ مِنَ الاطْمِئْنانِ وَالسَّعادَةِ وَالرِّضَا.
فَعَلَيْنَا أَنْ نَصْبِرَ عَلَيْهِمْ، وَنَرْفُقَ بِهِمْ؛ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْنَا رِعايَةُ حَقِّهِمْ إِذَا كَانُوا آبَاءً وَأُمَّهاتٍ، وَذَلِكَ لإِحْسانِهِمْ عَلَيْنَا عِنْدَمَا كُنَّا صِغَارًا ضُعَفاءَ؛ حَيْثُ تَحَمَّلُوا أَعْباءَنا وَمَشَاقَّنَا، وَاهْتَمُّوا بِرِعَايَتِنَا كُلَّ الاهْتِمَامِ حَتَّى كَبِرْنَا.
فَعَلَيْنَا أَنْ نُدْرِكَ أَنَّ كِبَارَ السِّنِّ خَيْرٌ لَنَا، وَبَرَكَةٌ فِي حَياتِنا، وَازْديادٌ فِي أَرْزاقِنا، وَفِي أَعْمارِنا، وَأَنَّ الإِسَاءَةَ إِلَيْهِمْ وَسوءَ مُعامَلَتِهِمْ قَدْ نُجَازَى بِهِ فِي أَواخِرِ أَعْمَارِنَا، فَاَلْجَزاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، وَجَزاءُ الإِحْسانِ إِحْسانٌ مِثْلُهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].
وَمِن حُقوقِ كِبَارِ السِّنِّ: الدُّعاءُ لَهُمْ بِطُولِ العُمُرِ، وَالاِزْديادِ فِي طاعَةِ اللَّهِ، والتَّوْفِيقِ فِي حُسْنِ الْخِتَامِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾[الإسراء: 23-24].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَواهُ مُسْلِمٌ].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَ الدِّينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ.
اَللَّهُمَّ ارْحَمْ كِبَارَنَا، وُوَفِّقْ لِلخَيْرِ صِغَارَنَا، وَخُذْ بِنَوَاصِينَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَمِّنْ حُدُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، وَجَمِيعَ وُلاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.