أخطاء بعض المسلمين في رجب


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي أنعَمَ عَلَيْنا بالإسلامِ الذي كَمَّلَهُ حَتَّى بَلَغَ التمامَ، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ الأنامِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ ﷺ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

أما بعد:

فإنَّنا في شهرِ رجبٍ الذي كانَ أهلُ الجاهليَّةِ يُعظِّمونَهُ، ثبتَ عندَ ابنِ أبي شيبةَ أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ -رضي الله عنه- كانَ يضرِبُ أَكُفَّ الناسِ في رجبٍ، حتَّى يضَعُوهَا في الجِفَانِ، ويقولُ: ” كُلُوا، فإنَّمَا هوَ شهرٌ كانَ يُعَظِّمُهُ أهلُ الجاهليَّةِ”.

وَمِنْ أُصُولِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ مُخَالَفَةُ مَا عليهِ أهلُ الجاهليَّةِ، فَفِي صحيحِ مسلمٍ عَن أبي مالكٍ الأشعريِّ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ».

وَقَدْ أَلَّفَ الإمامُ المُجَدِّدُ محمدُ بنِ عبدِ الوهابِ -رَحِمَهُ اللهُ- رِسَالةً مُفِيدَةً في بيانِ الأمورِ التي خالَفَتْ الشريعةُ المحمديةُ مَا عليهِ أهلُ الجاهليةِ، فَحَبَّذَا قِرَاءَتُها فإنَّهَا جَمَعَتْ بينَ الاختصارِ وسهولةِ العبارةِ وغزارَةِ العلمِ.

وَقَدْ وَقَعَ كثيرٌ مِن المسلمينَ في بدعٍ في شهرِ رجبٍ، والبِدَعُ مِن أبغَضِ الأعمالِ إلى اللهِ؛ لأنَّ حقيقَتَهَا استِدْرَاكٌ على الشرعِ، وتَقَدُّمٌ بينَ يدي اللهِ ورسولِهِ ﷺ، فاحذَروهَا وَحَذِّرُوا مِنْهَا طاعةً للهٍ وابتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ.

وَمِنْ هذهِ البدعِ مَا يلِي:

البدعةُ الأولى: الاجتِهَادُ في الصيامِ برجبٍ، والإِكْثَارُ حتَّى إنَّ بعضَهُم يصومُ شهرَ رجبٍ كُلَّهُ، وهذا مِن البدعِ المُنكرةِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ عُمَرَ بنَ الخطابِ -رضي الله عنه- كانَ يَنْهَى عَن صيامِهِ؛ لأنهُ شهرٌ كانَتْ تُعَظِّمُهُ أهلُ الجاهليةِ، وَثَبَتَ عِندَ عبدِ الرزاقِ أنَّ عبدَ اللهِ بنِ عباسٍ -رضي الله عنهما- كانَ ينهَى عَن صيامِ رجبٍ كُلِّهِ؛ لِئَلَّا يُتَّخَذَ عِيدًا.

وإنَّمَا شهرُ رجبٍ كغيرِهِ مِن الشهورِ يُصَامُ فيهِ يومُ الاثنينِ والخميسِ وأيامُ البيضِ وَمَا تَيَسَّرَ صِيامُهُ، لكِنْ لَا يُخَصُّ بمزيدِ صيامٍ، فإنَّ هذا مِن البدعِ المنكرةِ.

إلَّا أنَّ مَن صامَ الأشهُرَ الحُرُمَ كُلَّهَا -وَهِيَ مُحَرَّمٌ وَرَجَبٌ وَذُو القِعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ- فَيُستَحَبُّ لهُ صِيامُ رَجَبٍ تَبَعًا، كَمَا ثبتَ عندَ عبدِ الرزاقِ عن ابنِ عمرَ، وإلى هذا ذهبَ جمعٌ مِن أهلِ العلمِ كالحسنِ البصريِّ وأبي إسحاقَ السَّبِيعيِّ والثوريِّ، وغيرِهِم، لكن لا يُصامُ رَجَبٌ وحدَهُ.

البدعةُ الثانيةُ: صلاةُ الرَّغَائِبِ، يعتقدُ بعضُ المسلمينَ أنهُ يُستَحَبُّ أنْ يُحيىَ مَا بينَ المغربِ والعشاءِ بالصلاةِ في الليلةِ الأولى مِن ليالي الجمعةِ في شهرِ رجبٍ، وَسَمَّاها مُحدِثُوهَا بصلاةِ الرَّغَائِبِ، وَلَمْ يَصِحْ فيها حديثٌ عَن رسولِ اللهِ ﷺ بإجماعِ أهلِ العلمِ، كَمَا بَيَّنَ ذلكَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ، والعِزُّ بنُ عبدِ السلامِ، والنوويُّ وجماعةٌ كثيرةٌ مِن أهلِ العلمِ.

بَلْ إنَّ هذِهِ الصلاةَ لَمْ تحدُثْ في الأمةِ إلَّا في القرنِ الخامسِ، ذَكَرَ هذا الطرطوشيُّ عَن شيخِهِ أبي محمدٍ المقدسيِّ، فَلَمْ يفعَلْهَا رسولُ اللهِ ﷺ وَلَا الصَّحابةُ الكِرَامِ وَلَا التَّابِعُونَ لَهُمْ بإحسانٍ، وَلَا أئمَّةُ الإسلامِ كالأئمةِ الأربعةِ.

فَدَلَّ هذا على أنَّ هذِهِ الصلاةَ مِن البدعِ المحدثةِ التي يجبُ أنْ يُنكِرَها المسلمونَ.

البدعةُ الثالثةُ: إِحْيَاءُ ليلةِ الإسراءِ والمِعراجِ في السابعِ والعشرينَ مِن رَجَبٍ بصلاةٍ أو احتفالٍ، وهذا مِن البدعِ المُنكرَةِ؛ لأنهُ لَمْ يثبُتْ تحديدُ الإسراءِ باليومِ السابعِ والعشرينَ مِن رجبٍ، كمَا بَيَّنَ ذلكَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمه الله-، ثُمَّ لو ثَبَتَ أنهُ أُسْرِيَ بِهِ ﷺ في اليومِ السابعِ والعشرينَ مِن رَجَبٍ فإنهُ لا يَصِحُّ الاحتفالُ بِهِ، وَلَا تخصِيصُهُ بمزيدِ عبادةٍ؛ لأنهُ لو كانَ تخصيصُهُ بمزيدِ عبادةٍ مُستَحَبًّا لَفَعَلَهُ رسولُ اللهِ ﷺ والصحابةُ الكِرامُ والتابعونَ لهم بإحسانٍ.

اتَّقُوا اللهَ أيُّها المسلمونَ، وَكُونُوا مُتَّبِعينَ لَا مُبْتَدِعينَ، فإنَّ الدِّينَ مَا كَانَ مَبْنِيًّا على الكتابِ والسُّنةِ وَمَا عليهِ سلَفُ الأُمَّةِ، لَا ما شاعَ وانتشَرَ مِن عاداتِ الناسِ المُخالفةِ للكتابِ والسُّنةِ.

أقولُ مَا تسمعونَ، وأستغفِرُ اللهَ لي وَلَكُمْ فاستغفِروهُ؛ إنهُ هُوَ الغفورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أما بعدُ:

فَمَا أكثَرَ البدعَ التي انتَشَرَتْ بينَ المسلمينَ بِحُجَّةِ أنَّهَا بدعَةٌ حَسَنَةٌ، يا سُبْحَانَ اللهِ! كيفَ تكونُ حَسَنَةً وَلَمْ يفعَلْهَا رسولُ اللهِ ﷺ وَلَا الصحابةُ الكِرَامُ وَلَا التابِعُونَ لَهُم بإحسانٍ؟ رَوَى الإمامُ مسلمٌ عَن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».

وَثَبَتَ عِندَ الخمسةِ إلَّا النسائيَّ عَن العرباضِ بنِ ساريةَ –رضي الله عنه-أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُوْرِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ».

وَثَبَتَ عِندَ المروزيِّ عَن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنهُ قالَ: ” كُلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وإنْ رآها الناسُ حسنةً “.

فإيَّاكُم أنْ تَتَعبَّدُوا اللهَ إلَّا بدليلٍ مِن كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِهِ ﷺ بفهمِ سلفِ هذهِ الأمةِ، فَلَا عبادةَ بمُقْتَضَى فهمِ الآباءِ والأجدادِ، ولا عبادةَ بتحسيناتِ العقولِ، وَلَا عبادةَ بِمَا يرجِعُ إلى أهوائِنَا وأذواقِنَا، وإنَّمَا العبادةُ دينٌ والدِّينُ يُؤخَذُ عَن اللهِ وَعَن رسولِهِ ﷺ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153].

قالَ الإمامُ مالكٌ -رحمه الله تعالى-: كُلُّ مَن أحدَثَ في الدِّينِ بدعةً فَقَد زعَمَ أنَّ محمدًا ﷺ خانَ الرِّسالةَ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.

أيُّها المسلمونَ، إنَّ شهرَ رجَبٍ مِن الأشهُرِ الحُرُمِ، وفي الأشهُرِ الحُرُمِ يَعظُمُ الإثْمُ، قالَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: ﴿‌إِنَّ ‌عِدَّةَ ‌الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ الآية [التوبة: 36].

فاحْذَروا معصيةَ اللهِ في السنةِ كُلِّها ليلًا ونهارًا، صباحًا ومساءً، وزيدُوا الحذَرَ حَذَرًا في الأزمانِ التي يُعظَّمُ فيها جُرْمُ الذنبِ والمعصيةِ كالأشهُرِ الحُرُمِ.

اللهُمَّ يا مَنْ لا إلهَ إلا أنتَ، اللهُمَّ يا حيُّ يا قيومُ، اللهُمَّ اجعلنا نعبُدُكَ على مَا تريدُ، اللهُمَّ اجعلنا نعبُدُكَ على هدي رسولِكَ ﷺ، اللهُمَّ أحيينا على ما عليهِ السلفُ الصالحُ، وأمِتنا على ما عليهِ السلفُ الصالحُ، واجعلنا نلقاكَ وأنتَ راضٍ عَنَّا، وقُوموا إلى صلاتِكُم يَرْحَمْكُم اللهُ.

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

أخطاء بعض المسلمين في رجب


شارك المحتوى:
0