يقول السائل: هل يجوز قراءة القرآن، وأن أهديه لوالديّ أحياءً وأمواتًا؟
الجواب:
إن إهداء القُرَب من العبادات، وأن الأصل في العبادات الحظر والمنع، بل أفاد ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كما في (مجموع الفتاوى) وابن القيم في كتابه (الروح)، وابن كثير في تفسيره، أن السلف -رحمهم الله تعالى- ما كانوا يقرؤون القرآن عن الأموات.
فدل على أن الأصل في إهداء القُرَب ألا تهدى، وذلك بدليلين:
الدليل الأول: أن الأصل في العبادات الحظر والمنع.
الدليل الثاني: أن هذا فعل السلف كما نقل هؤلاء العلماء، لذا لا يقال: بإهداء شيء من القُرَب إلا إذا دل الدليل على ذلك.
وقد دل الدليل بإجماع أهل السنة على إهداء بعض القرب، واختلف أهل السنة في البعض الآخر.
وقد أجمع أهل السنة على أن الميت ينتفع بما يلي:
الأمر الأول: الدعاء، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10] وقد حكى الإجماع على الدعاء ابن قدامة، والنووي، وابن كثير.
الأمر الثاني: الاستغفار، ويدل عليه الآية المتقدمة، فالاستغفار داخلٌ في الدعاء -والله أعلم-، وقد حكى الإجماع على الاستغفار ابن قدامة.
الأمر الثالث: الصدقة، والصدقة تصل للميت وينتفع بها بالإجماع، وحكى الإجماع ابن قدامة، وابن تيمية، والنووي، وابن كثير.
الأمر الرابع: العتق، وقد حكى الإجماع على العتق ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، والعتق قد يكون راجعًا للصدقة، ومعنى العتق: أن يعتق عبدًا بنية أن ثوابه لفلان الميت.
الأمر الخامس: الأعمال الواجبة التي تدخلها النيابة، فمن مات وعليه حج واجب فإنه يصح أن يحج عنه، وهذا بالإجماع، حكى الإجماع ابن تيمية، وابن قدامة.
الأمر السادس: قضاء الدَّين، وقد حكى الإجماع على قضاء الدَّين النووي -رحمه الله تعالى-.
هذه الأعمال الستة يصل ثوابها إلى الميت بالإجماع كما تقدم بيان ذلك.
فلذا؛ الأصل أنه لا يصل للميت شيء من الأعمال إلا بدليل، وقد ذهب إلى هذا مالك والشافعي، إلا أن المُجمع عليه يُستثنِى بالأدلة والإجماع على ما تقدم تقريره.
وقد اختلف العلماء في بعض الأعمال منها أن يحج أو يعتمر عن الميت ولو كان مستحبًّا، وهذا على أصح أقوال أهل العلم يفعل عن الميت، ويدل لذلك دليلان:
الدليل الأول: أنه ثبت عند الخمسة من حديث أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج ولا العمرة، ولا الظعن قال: «حج عن أبيك واعتمر».
قال النووي -رحمه الله تعالى-: إذا جاز الحج أو العمرة عن الحي غير القادر، فالميت من باب أولى.
والدليل الثاني: ما ثبت عن ابن عباس أن رجلًا قال: لبيك عن شبرمة، قال ابن عباس: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي … فوافقه وأقره عبد الله بن عباس، وهذا وإن جاء مرفوعًا عن النبي ﷺ لكنه لا يصح، وإنما يصح موقوفًا كما قال غير واحد من أهل العلم.
فالمقصود أنه لم يستفصل ولم يستفسر منه، هل هو ميت أم حي؟ وهل الحج واجب أو مستحب؟ وقد ذكر العلماء قاعدة، وممن ذكرها الإمام الشافعي وهي قوله: “ترك الاستفصال في موضع الإجمال ينزل منزلة العموم في المقال”، أي: يشمل جميع الصور ما لم يدل دليل خاص على استثناء صورة معينة.
فلذا على أصح أقوال أهل العلم: يصح أن يحج وأن يعتمر عن الميت الحج المستحب والعمرة المستحبة.
ومما أيضًا يُفعل عن الميت كل عمل نذره الميت فمات ولم يفعله، سواء كانت تدخله النيابة أم لا، فلو نذر الميت أن يقرأ القرآن، أو أن يصوم يومًا، أو أن يصلي ركعتين، ومات ولم يفعل ذلك فإنه يفعل عن الميت على أصح أقوال أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول عند الحنابلة.
ويدل لذلك ما ثبت في البخاري أن سعد بن عُبادة -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله إن أمي نذرت وماتت، ولم تفِ بنذرها، قال: «أوفِ بنذرها».
وجه الدلالة: أن النبي ﷺ لم يستفصل من سعد ما هذا الذي نذرته، فدل على أن كل ما كان منذورًا، فإنه يفعل عن الميت.
وقد ذكر وجه الدلالة هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في شرح (العمدة).
ومما يدل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين من حيث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»، ثبت عن ابن عباس عند أبي داود أنه خصَّه بصوم النذر، فهذا خاص بصوم النذر، كما بين ذلك عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، وهذا على أصح قولي أهل العلم.
فالمقصود أن هذا الذي يصل للميت وما عداه لا يصل للميت، فإنه لا دليل على ذلك -والله أعلم-.
أما الحي فيُهدي له أمورٌ، مع العلم أن الأصل أنه لا يتعبد أحد عن أحد، ولا يهدي أحد أحدًا شيئًا من الأعمال إلا بدليل.
لكن مما جاءت به الأدلة الدعاء، فإن للحي أن يدعو للحي، وقد ثبت هذا كثيرًا عن رسول الله ﷺ، ومن ذلك ما في البخاري عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «اللهم فقهه في الدين»، دعا لعبد الله بن عباس.
ومن الدعاء الاستغفار، فلذا يستغفر عن الحي، وكذلك الصدقة تفعل عن الحي، فقد علق البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه في قصة قال: «اللهم عن فلان وفلان في مال»، فجعله عن فلان وعن فلان.
ومن ذلك: أنه يحج عن الحي الحج المستحب، وكذلك يعتمر عنه، ويدل لذلك قصة ابن عباس -رضي الله عنهما- مع الرجل لما قال: «لبيك عن شبرمة، قال ابن عباس: من شبرمة؟ قال أخ لي أو قريب لي».
فلم يستفسر هل هو حي أم ميت؟ وهل هذا الحج حج واجب أو مستحب؟ فدل هذا على العموم، للقاعدة الأصولية التي ذكرها الإمام الشافعي: “ترك الاستفصال في موضع الإجمال ينزل منزلة العموم في المقال”، لكن يستثنى من ذلك الحج الواجب، فإنه لا يحج أحد عن أحد حجًّا واجبًا، وهذا الذي يحج عنه قادر بدنيًّا، فإنه إذا كان قادرًا بدنيًّا فليس لأحد أن يحج عنه، وهذا بالإجماع حكاه ابن المنذر وغيره.
وقال ابن عمر: «لا يحج أحد عن أحد»، أما ما عدا هذه الصورة المجمع عليها، فدلالة أثر شبرمة فيما ذكر ابن عباس من حيث عدم الاستفصال فيه العموم حتى في الحج المستحب والعمرة.
فلذا يصح أن يعتمر ويحج عن الحي القادر ماليًّا وبدنيًّا، عدا الحج الواجب لما تقدم من أثر شبرمة، وهذا وإن جاء مرفوعًا عن عبد الله بن عباس، لكن الصواب أنه موقوف من قول عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والإمام أحمد في رواية، إلى أنه يحج ويعتمر الحي القادر الحج المستحب والعمرة، هذه من الأفعال التي تهدى للأحياء.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يعلِّمَنا ما ينفعُنا، وأن يَنْفَعَنَا بما عَلَّمَنَا.