حفظ النفوس وخطر الآبار المكشوفة


الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي حكم فأحكم، وحلَّل وحرَّم، أحمده سبحانه وأشكره على ما عرَّف وعلَّم،
وفقَّه في دينه وفهَّم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ندَّ له، مَهَّد قواعد الدين في كتابه المحكم، وأشهد أنَّ نبينا وإمامنا وقرة عيوننا محمداً عبد الله ورسوله خير من قام ببيان شرع الله وعلَّم، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً طيباً مباركاً إلى يوم الدين.

أما بعد، عباد الله: أوصي نفسـي وإياكم بتقوى الله تبارك وتعالى، فاتقوا الله أيها المسلمون حق
التقوى، وراقبوه في السـر والنجوى، وكونوا عباد الله من الصادقين: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾.

عباد الله: شريعة الملك الرحمن كلها عدل ورحمة وخير للناس كافة، وتمثل الإنسان بأوامر الشـريعة نابع من حرصه على رضا الرحمن، وطاعة النبي المصطفى العدنان، وإن من أوامر الشـريعة العظيمة بعد توحيد الله: حفظ النفس، وعدم الاعتداء عليها إلا بحق الإسلام قال سبحانه: ﴿وَلا تَقتُلوا أَنفُسَكُم إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُم رَحيمًا﴾.

قال الإمام البيهقي: { يعني ولا يقتل بعضكم بعضاً } ثم بيَّن رحمه الله أنَّ هذا المنع من رحمة الله بعباده، حيث ينعموا بالحياة الدنيا، ويكسبوا منها الخير المؤدي إلى النعيم المقيم ويدخل في هذا النهي: عدم قتل الإنسان لنفسه، وكذا تعريض نفسه إلى المهالك.

قال العلامة السعدي رحمه الله: {وَلا تَقتُلوا أَنفُسَكُم} أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يقتل الإنسان نفسه، ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطار الـمُفضية إلى التلف والهلاك.

وها هي نصوص وحي السنة تؤكد هذا المعنى العظيم والجليل؛ لتسعد الأمة بالأمن والأمان والسعادة والاطمئنان، فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ )) متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.

وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَنِّي رَسولُ اللَّهِ، إلَّا بإحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزَّانِي، والمارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَماعَةِ )) متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.

فهذه النصوص تشهد بحرمة دم الإنسان، فيا ويل من تساهل فيها، ولعظم شأن الدماء أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في حجة الوداع بحفظ النفوس، وعدم التجني عليها إلا بحقها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَومَ النَّحْرِ فَقالَ: ((يا أيُّها النَّاسُ أيُّ يَومٍ هذا؟، قالوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قالَ: فأيُّ بَلَدٍ هذا؟، قالوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قالَ: فأيُّ شَهْرٍ هذا؟، قالوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قالَ: فإنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، فأعَادَهَا مِرَارًا عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ، عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: أكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ باللَّهِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وقَوْلُ الزُّورِ، أوْ قالَ: وشَهَادَةُ الزُّورِ)).

هكذا رسَّخت شريعة الإسلام عِظم حق النفس، ليس هذا فحسب، بل تفضلت بالجزاء الكريم لمن ابتعد عن الشـرك وقتل النفس بدخول الجنة من أي باب من أبوابها شاء، فعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ليسَ مِنْ عبدٍ يَلقى اللهَ عز وجل لا يشركُ بهِ شيئًا لمْ يتندَّ بدمٍ حرامٍ ، إلا دخلَ مِنْ أيِّ أبوابِ الجنةِ شاءَ)).

وقوله: {يتندَّ أي: يصب ، كما في رواية الإمام البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ، ما لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا )).

قال الله تعالى: ﴿وَالَّذينَ يُؤذونَ المُؤمِنينَ وَالمُؤمِناتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبوا فَقَدِ احتَمَلوا بُهتانًا وَإِثمًا مُبينًا﴾.

وعَنْ أَبِي صِرْمَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( مَنْ ضَارَّ ، ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ ، شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ)) .رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني.

فلا يحولن يا عبد الله بينك وبين الجنة شيء، بل كن من السباقين لأمر الله، لتسعد في الدنيا والآخرة،

عِبَادَ اللَّهِ: أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيل فَاسْتَغفِرُوه إنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 الخطبة الثانية: 

 

الحمد لله رب العالمين، خلق الخلق ليعبدوه، وبالألوهية يُفردوه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الحق المبين، وأشهد أنَّ نبينا وإمامنا محمداً عبد الله ورسوله إمام الموحدين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد، عباد الله: كفى بالاعتداء على النفس شناعة في أصحاب الفطر السوية علمهم بأنَّ عذابها شديد، فقد توعَّد الله العظيم قاتل النفس المؤمنة بالنار، والخلود فيها، والغضب، واللعنة، والعذاب العظيم، قال تعالى: ﴿وَمَن يَقتُل مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظيمًا﴾.

فأي شيء أعظم من هذا؟! نسأل الله العفو والعافية، إنَّها كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب، فعن أنَسِ بنِ مَالِكٍ، عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: (( أكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ باللَّهِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وقَوْلُ الزُّورِ، – أوْ قالَ: وشَهَادَةُ الزُّورِ – ))

 عباد الله: إنَّ من النِّعم العظيمة؛ نِعمة الماء، فهو هبة الخالق، تفضَّل بها على عباده، ولا تستغني عنه جميع الكائنات، فلا غذاء إلا بالماء، ولا نظافة إلا بالماء، ولا دواء، ولا زراعة، ولا صناعة؛ إلا بالماء، فهو الثروة الثمينة، فالبلاد التي بلا ماء تُهجر ولا تُسكن.

وإننا في هذه البلاد المباركة ننعم بنعمة المياه العذبة والمحلاة، التي شبكاتها ممتدة في المدن والقرى والهجر، وقد كان الآباء والأجداد يعانون أشد المعاناة في الحصول على المياه، وذلك عن طريق حفر الآبار الجوفية العميقة، التي قد استغني عن كثير منها.

ومما يجدر التنبيه عليه، والتحذير منه؛ أنَّ بعضاً من تلك الآبار ربما تكون لا زالت مكشوفة مُهملة، فتكون مصيدة للأنفس المعصومة، والأرواح البريئة، وكذلك ما يماثلها من بيارات وغرف تفتيش مما يشكل خطراً كبيراً، وشراً مستطيراً.

فالواجب المبادرة بإغلاق كل ما يشكل خطراً، وأذية للمسلمين، ونحن نسمع عن مآسٍ أليمة وأحداث جسيمة؛ بسبب التساهل في ترك هذه الآبار مكشوفة، ومن التعاون على البر والتقوى تبليغ الجهات المختصة عن كل ما يفتك بالأرواح، أو التسبُّب في هلاكها.

اللهُمَّ أعزَّ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الـشِّـرْكَ والمُـشـْرِكِين، وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّين.

اللهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَنِنَا، وَأَصْلِح أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا.

اللهُمَّ وفق جميع ولاة المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك، وتحكيم شرعك.

اللهُمَّ وَفِّق إمَامَنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ لِما فِيه عِزُّ الْإِسْلَامَ وَصَلَاحُ الْمُسْلِمِين.

اللهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَإِخْوَانَه وَأَعْوَانَه لِما تُحِبُهُ وتَرْضَاه.

اللهُمَّ احفظ جنودنا المرابطين ورجال أمننا، وسدد رميهم يا رب العالمين.

اللهُمَّ عليك بالحوثيين المفسدين، وبالخوارج المارقين، وبجميع أعداء الدين.

اللهُمَّ اكفنا شرهم بما شئت، اللهُمَّ إنَّا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتَك، وَتَحَوُّل عَافِيَتك، وَفُجَاءَة نَقِمَتِك، وَجَمِيعِ سَخَطِك.

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ البَرَصِ وَالْجُذَام وَالْجُنُونِ وَسَيِّئ الْأَسْقَام.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ.

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

جمع وتنسيق/ عبد الله بن مـحمد حسين النجمي

إمام وخطيب جامع الحارة الجنوبية بالنجامية بمنطقة جازان

حفظ النفوس وخطر الآبار المكشوفة – خطبة جمعة للشيخ عبدالله النجمي 17-7-1443هـ


شارك المحتوى:
0