خطر البدع ووجوب لزوم السنة


الخُطْبَةُ الْأُولَى

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَتْبَاعِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، أَحْمَدُهُ -سُبْحَانَهُ- وَأَشْكُرُهُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَأُوصِيكُمْ -عِبَادَ اللهِ- وَنَفْسِي الْمُقَصِّرَةَ أَوَّلًا بِتَقْوَى اللهِ، فَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 131].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

إِنَّ الشُّرُورَ تَزْدَادُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، كَمَا صَحَّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: «اصْبِرُوا؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوا رَبَّكُمْ. سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ ﷺ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ هَذِهِ الشُّرُورِ وَأَشَدِّهَا خَطَرًا: الْبِدَعَ فِي الدِّينِ، إِذْ لَازِمُهَا اتِّهَامُ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ الَّذِي حَكَمَ بِأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ، وَاتِّهَامُ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالْخِيَانَةِ، إِذْ لَمْ يُبَلِّغِ الدِّينَ كَامِلًا، وَحَاشَاهُ ﷺ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَنْ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ خَانَ الرِّسَالَةَ».

وَلِمَ كَانَ أَمْرُ الْبِدَعِ خَطِيرًا؟ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا يَفْعَلُونَهَا عَلَى أَنَّهَا قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، فَهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِيهَا ظَانُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى خَيْرٍ، فتَصْعُبُ تَوْبَتُهُمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، الْمَعْصِيَةُ يُتَابُ مِنْهَا، وَالْبِدْعَةُ لَا يُتَابُ مِنْهَا».

وَالْبِدْعَةُ سَرِيعَةُ السَّرَيَانِ فِي الْأُمَّةِ، حَتَّى أَدْرَكَ الصَّحَابَةُ شَيْئًا مِنْ آثَارِهَا، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: «وَاللهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا». فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي زَمَنِهِمْ، فَكَيْفَ بِعُصُورٍ تَلَتْهُمْ، بَلْ كَيْفَ بِزَمَانِنَا هَذَا وَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ؟ وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَنْشَأُ فِيهَا الصَّغِيرُ، تَجْرِي عَلَى النَّاسِ، فَيَجْعَلُونَهَا سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَتْ قِيلَ: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ أَوْ هَذَا مُنْكَرٌ؟» رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، إِنَّ مِنْ مَضَارِّ الْبِدَعِ أَنَّهَا تَهْدِمُ الدِّينَ هَدْمًا، قَالَ حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً فِي دِينِهِمْ إِلَّا نُزِعَ مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلُهَا». وَقَالَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «يَذْهَبُ الدِّينُ سُنَّةً سُنَّةً كَمَا يَذْهَبُ الْحَبْلُ قُوَّةً قُوَّةً».

ثُمَّ إِنَّ الْبِدْعَةَ أَعْظَمُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَعْصِيَةِ يَعْصِي اللهَ بِشَهْوَةٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُذْنِبٌ، أَمَّا صَاحِبُ الْبِدْعَةِ فَيَعْصِي اللهَ بِتَعَبُّدٍ وَظَنٍّ أَنَّهُ مُحْسِنٌ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «أَهْلُ الْبِدَعِ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي الشَّهْوَانِيَّةِ، بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ». وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، لَقَدْ أَتَمَّ اللهُ عَلَيْنَا الدِّينَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]. فَمَنْ زَادَ فِي الدِّينِ فَقَدِ ادَّعَى أَنَّهُ نَاقِصٌ، وَمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ فَقَدْ طَعَنَ فِي أَمَانَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَلِذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ شَدِيدِي الْإِنْكَارِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، كَمَا أَنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى أَقْوَامٍ يَجْعَلُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّكْبِيرَ جَمَاعِيًّا بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ لَهُمْ: «وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ».

وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ الْحَظْرُ وَالْمَنْعُ إِلَّا مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ، وَأَمَّا الْوَسَائِلُ وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ فَبَابُهَا أَوْسَعُ على ضوابطَ عندَ أهلِ العلمِ، فَاسْتِعْمَالُ مُكَبِّرَاتِ الصَّوْتِ فِي الْأَذَانِ مَثَلًا مِنْ بَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، بِخِلَافِ الْتِزَامِ الدُّعَاءِ الْجَمَاعِيِّ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ.

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

إِنَّ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ التَّرْكِيَّةِ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَقَالُّوا عِبَادَةَ النَّبِيِّ ﷺ فَأَرَادُوا الزِّيَادَةَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ إِنْكَارُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَلَى مَنْ قِيسَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الصِّيَامِ، لِأَنَّ تَرْكَ النَّبِيِّ ﷺ لِلْأَمْرِ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ حُجَّةٌ.

وَمِنْ ذَلِكَ إِنْكَارُ عِمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى رَفْعِِِ الخطيبِ الْيَدَيْنِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ عندَ الدعاءِ، إِذِ اكْتَفَى النَّبِيُّ ﷺ بِالْإِشَارَةِ بِالسَّبَّابَةِ.

فَكُلُّ هَذِهِ شَوَاهِدُ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ التَّرْكِيَّةَ حُجَّةٌ، وَأَنَّ مَا تَرَكَهُ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ لَا يَجُوزُ لَنَا إِحْدَاثُهُ.

وَإِنَّ أَعْظَمَ مَا نَلْقَى بِهِ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ لُزُومُ السُّنَّةِ، وَتَرْكُ الْبِدْعَةِ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْوَحْيَيْنِ، وَالْعَضُّ عَلَيْهِمَا بِالنَّوَاجِذِ.

﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153].

اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ.

اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَنَجِّنَا مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ وُلَاةَ أُمُورِنَا، وَاجْعَلْهُمْ هُدَاةً مُهْتَدِينَ، غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ.

 

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

شارك المحتوى:
0