مع صاحب عاشوراء (1)


الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده وسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله : أمر ربنا تعالى بالتذكير بما في أَيَّامِ اللهِ من العِبَر والعظات : ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) . (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، قص الله القصص للاعتبار وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ )  ومن تلكم القصص قصة صاحب يوم عاشوراء نبي الله موسى عليه السلام ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما روى الشيخان: ( إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللهِ )

رجل أراد الله أن يخرجه من قصر الترف إلى مكان العمل والكد، يكسب به كريم العيش بنفسه، رجل أراد الله أن يعده لتلقي النبوة برعاية الغنم عشر سنين؛ تمهيداً لرعاية البشر، رجل أعزب أراد الله أن يزوجه من امرأة صالحة لكنها في مكان بعيد، فقدر قدراً ليخرج هذا العبد من ذلك المكان إلى تلك البلد؛ ليتزوج تلك المرأة المعينة التي قدرها الله.

موسى -عليه السلام- قربه الله نجياً، وكلمه تكليماً، وكان عند الله وجيهاً، ذكره الله في أكثر من مائة وثلاثين موضعاً من كتابه، قدر الله على ذلك النبي الذي نشأ في قصر الترف، أن يخرج منه بعدما قتل القبطي خائفاً يترقب، بعد نصيحة تلقاها من مشفق يقول له: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ). يذهب إلى مكان لا يعرفه مسبقاً، ليس معه دابة ولا متاع؛ اذ خروجه كان في حالة خوف وسرعة، بعد تلقي النصيحة ولكنه دعا بدعوتين: (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ). (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ). لأنه لم يكن يعرف ذلك السبيل، وصل موسى -عليه السلام- إلى مدين منهكاً متعباً جائعاً، بعد أن يسر الله له ذلك الطريق، وورد على البئر أول ما ورد، فشاهد مشهداً عجيباً، لم يكن العجيب أن يرى مجموعة من الرعاة مع أغنامهم يسقون تلك الغنم من تلك البئر، العجيب أن يجد من دونهم امرأتين تذودان، لا تختلطان بالرجال، وتبعدان الغنم حتى لا تختلط بأغنام الرعاة، رأى امرأتين حييتين محجبتين، بعيدتين عن الرجال، تجتهدان في ذلك الابتعاد، ما الأمر؟  إن روح الشهامة لتستيقظ بالمواقف، وموسى حيي أيضاً، علمنا كيف نخاطب المرأة الأجنبية عند الحاجة بالكلام القصير الذي لا يتعدى الحاجة، كلمة واحدة: (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ) والمرأتان على هذا الحياء أيضاً، فأجابتا بتلك الكلمات المعدودات (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ). لا يمكن أن نختلط بالرجال، لا يمكن أن نبدأ بعملنا حتى يبتعد الرجال الأجانب، وهذا معنى كلمة: يُصدرَ، يبتعد الرعاء، وما خرجنا حباً في الخروج، ولا إرادة لإثبات الجدارة بين الرجال، -كما يقول الشياطين- وإنما كان الخروج للحاجة، فأبونا شيخ كبير لا يستطيع سقي الغنم، وهذا عيشهم، إذاً فلابد من الخروج؛ فلذلك خرجتا، وكانت تلك الكلمات كافية في شرح كل القضية، فما كان من موسى -عليه السلام- وهو

الرجل الشهم إلا أن يتقدم لبذل المعروف، وسقي الغنم

فاروق الأمة عمر – رضي الله عنه- له اهتمام خاص بهذه القصة، ولذلك ورد عنه في مصنف ابن أبي شيبة، روايات منها: أن هذا البئر كان عليه صخرة عظيمة لا يحملها إلا عشرة من الرجال، فلما سقى الرعاء، وضعوا الصخرة ومضوا، فحملها موسى -عليه السلام- وحده، وسقى الغنم كلها وحده، حتى رَوِيت، ولم يطلب شيئاً، ولم يشترط لا من قبل ولا من بعد، ولم ينتظر كلمة شكر، وإنما تولى مباشرة هذا العمل في وسط النهار، تحت الشمس المحرقة،  (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) ، منهكاً متعباً جائعاً، سقط نعلاه، فلم يكن له نعلان، كما جاء عن ابن عباس – رضي الله عنه- ليجلس في الظل متعباً، يكاد ظهره يلتصق ببطنه من شدة الجوع، فلم يكن له في خروجه وسفره من طعام إلا ورق الشجر، صفوة الله من خلقه، نبيه يجلس جائعاً منهكاً متعباً في الظل، محتاجاً إلى نصف تمره، أنهكه بعد السفر وبعد السقي، فما كان منه إلا أن يرفع يديه شاكياً حاله إلى ربه منادياً له بالربوبية، مربي عباده، والقائم على مصالحهم ، (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ) وهذا السؤال بالحال المغني عن المقال فَقَالَ (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) محتاج إلى خيرك بصيغة العموم أي نوع من الخير، طعام، شراب، مأمن، مأوى، ثياب، من خير فَقِيرٌ محتاج، والسؤال بالحاجة توحيد لله، وشكاية الحال إلى الله محبوب لله، وبيان الافتقار إلى الرب سبحانه من صميم التوحيد (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) لم يذكر إلا شكوى الحال، فلم يطلب شيئاً معيناً، وهذا من فقه الدعاء، والله عز وجل غني وقوي، فإذا سأل العبد بفقره ربه ، وغناه سبحانه،

فإن هذا محبوب للرب أي محبوب .

اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

عباد الله: عادت الفتاتان إلى أبيهما أسرع من المعتاد ، فقصتا خبرهما لأبيهما، ليرسلهما بعد ذلك للجزاء الحسن

كان موسى يناشد ربه، ولم تكد المناشدة تنتهي حتى جاءت الفتاتان ِوجاء معهما الفرج، ولم يطل الأمر والله كريم، يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ( فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء ) قال عمر أمير المؤمنين -رضي الله عنه-: “قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسلفعٍ خراجة ولاجة” ، تغطية الوجه، مجمع المحاسن في المرأة، إنه أمر قديم من شرائع الصالحين والأنبياء، قائلة بثوبها على وجهها ، ليست بسلفع خراجة ولاجة، إنما كان الخروج للحاجة (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) وليست هي ، فإن المرأة الأجنبية لا يمكن أن تدعوا رجلاً أجنبياً بنفسها، قدمت الفاعل (إِنَّ أَبِي) على الفعل (يَدْعُوكَ) ، لأنه مصدر الدعوة ،ولأن المقام يمكن أن يكون فيه ريبة في مخاطبة رجل أجنبي ودعوته، فقد وضحت الموضوع والسبب من وراء هذه الدعوة (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) ً، فلما ألتقى الرجلان الصالحان، (وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) ليست قصة واحدة، بل قصص، من أمر فرعون مع بني إسرائيل وولادته ، ثم أن ينشأ في ذلك القصر، ثم أن يقتل القبطي، ثم أن يخرج هارباً ناجياً بنفسه، ثم حادثة البئر، وقصة البئر ، وأول ما يحتاج إليه الخائف التطمين والتسكين، ولذلك قال الرجل الصالح الحكيم (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فليس لهم سلطان علينا.

للحديث بقية لعل تمامه في الخطبة القادمة إن شاء الله .

رزقنا الله التوفيق والرشاد ، والهمنا الحكمة والسداد

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشِّرْك والمشركين ، وانصر عبادك المؤمنين .

اللَّهُمَّ وَوَفِّقِ وُلاَةَ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ .

اللهم من أراد بلادنا بسوء في دينها أو أمننها أو استقرارها اللهم اشغله في نفسه ورد كيده في نحره وجعل تدبيره تدميرا له وافضحه يا رب العالمين ، اللَّهُمَّ أَعْطِنَا وَلا تَحْرِمْنَا وَأَكْرِمْنَا ولا تُهِنَّا, اللَّهُمَّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَليْنَا, اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنَا .

اللهم أنجِ إخواننا المستضعفين في سائر الأرض يا أرحم الراحمين، اللهم ارفع الفتن والقتل عنهم، واجمع على الحق شملهم،

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


شارك المحتوى:
0