يا فضيلة مفتي مصر تشويه الإسلام في الشرك وذرائعه وليس في تحقيق التوحيد والاتباع وسد طرق الشرك!


يا فضيلة مفتي مصر تشويه الإسلام في الشرك وذرائعه

وليس في تحقيق التوحيد والاتباع وسد طرق الشرك!

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه .

أما بعد فقد استمعت إلى مقطع من خطبة فضيلة مفتي مصر الدكتور علي جمعة ـ وفقنا الله وإياه للحق ـ حول البناء على القبور ، والذي قرر جواز البناء على القبور ، وقد تضمن كلامه عدة أمور، وجب التنبيه عليها لفسادها ، ولئلا يغتر بها من لاعلم عنده ، ولم يطلع على الأدلة الشرعية المخالفة لما ذكره .

ولاشك أن من أعظم أسباب الشرك بالله تعالى الغلو في القبور والأولياء ، بل هو سبب أول شرك وقع في الأرض ، كما هو معلوم من حال قوم نوح عليه السلام ، وهو ماتجد بيانه في قول الله تعالى : ( وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ) .

ولهذا جاءت الشريعة بالتفصيل في شأن القبور ، وبينت مايجوز ومالايجوز ، وسدت كل ذريعة قد تفضي إلى الإشراك بالله ، أوتقدح في التوحيد ، ومن ذلك تحريم البناء على القبور ، الذي تجاوز فيه فضيلة الدكتور علي جمعة الأدلة ، فقضى بجوازه ، معرضا عن الأدلة الصحيحة الصريحة في تحريمه ، كما سيأتي ذكر طرف منها إن شاء الله .

وإليك بيان ما أخطأ فيه الدكتور علي جمعة ـ هدانا الله وإياه للحق ـ والرد عليه ، على وجه الإيجاز ؛ لاستدعاء سرعة التنبيه ذلك .

1 ـ وصف الدكتور هدم البنايات على القبور بأنه خروج عن الدين والعقل والإنسانية .

وهذا رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روى مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته .

والمشرف هو العالي ، قال النووي في ( شرح مسلم 7 / 36) : ( فيه أن السنة أن القبر لا يرفع على الأرض رفعا كثيرا ولا يسنم ، بل يرفع نحو شبر ويسطح ) . وقال ابن الجوزي ( في كشف المشكل من حديث الصحيحين 1 / 149) : ( والمشرف العالي ، وعلى هذا يكره تعلية القبر ) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( الرد على الأخنائي ص160 ) : ( فأمره بطمس التماثيل وتسوية القبور العالية المشرفة ؛ إذ كان الضالون أهل الكتاب أشركوا بهذا وبهذا ؛ بتماثيل الأنبياء والصالحين؛ وبقبورهم ) .وقال الشيخ سليمان بن عبدالله في ( تيسير العزيز الحميد ص635) : ( وأما تسوية القبور فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها ، وهو من ذرائع الشرك ووسائله ، فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته ، ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور وعظمت الفتنة بأرباب القبور ، وصارت محطا لرحال العابدين المعظمين لها ؛ فصرفوا لها جل العبادة من : الدعاء؛ والاستعانة ؛ والاستغاثة ؛ والتضرع لها ؛ والذبح لها ؛ والنذر ؛ وغير ذلك من كل شرك محظور ) .

وقال القرطبي في ( الجامع لأحكام القرآن 10 / 381) بعد ذكر خلاف أهل العلم في تسنيم القبر :
( وأما تعلية البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال ؛ فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها . وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي أن ينبغي أن يقال : هو حرام ) .

وروى مسلم عن جابر – رضي الله عنه – قال : نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يجصص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه . وروى ـ أيضا ـ عن ثمامة بن شفي قال : كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها .

فهل بعد هذه الأحاديث التي قالها من لاينطق عن الهوى سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ، وأكملهم علما وإيمانا ، سيقول المفتي بأن هدم مابني على القبور مما يخالف الشرع خروج عن الدين والإنسانية والعقل ؟ !!

وفضيلة المفتي لم يفرق بين ترك هدمها لما يترتب عليها من فتنة وتحريم هدمها لكونها جائزة أومستحبة، ولهذا لو اقتصر على كون هدم بعض الأضرحة يسبب فتنة أعظم ، لكان له وجهة شرعية، لكنه أنكر مبدأ تحريم البناء على القبور ! وهذا يعارض الأدلة كما تقدم .

2 ـ استدل المفتي بعدم هدم البنايات والقباب التي على الأضرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بمكة ثلاث عشرة سنة وفي الكعبة ستون وثلاثمائة صنم للمشركين لم يقربها .

وهذا زلل عظيم من فضيلته ؛ لأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لتكسيرها لعدم قدرته على ذلك ، لا لكونها جائزة ؛ لأنه كان في حال ضعف ، فلما كان يوم فتح مكة ، ودخلها منتصرا فاتحا ، بادر بتكسير الأصنام، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : دخل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح ، وحول الكعبة ستون وثلاثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده، يقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد.

3ـ ذكر المفتي أن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عصمه أن يُعبد . واستشهد بحديث
( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) .

وعلى هذا الكلام مؤخذات :

الأولى : ليس في الحديث أن الله أجاب دعاءه صلى الله عليه وسلم ؛ حتى يقضي المفتي بعدم تخلف ماوعده ربه بما أجابه من دعائه ، وهو الدال على المعجزة ، إن سلمت الدعوى . لاسيما وقد ثبت أنه دعا الله في بعض المواضع فلم يجب لحكمة منه جل وعلا ، كما صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة ، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ).

وفي صحيح مسلم ـ أيضا ـ عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها؛ حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ) .

الثانية : على القول بأن الله أجاب دعاءه ، فليس فيه دليل على العصمة المدعاة ، وإنما غايته عصمة القبر فقط من اتخاذه وثنا يعبد من دون الله . قال الشيخ ابن عثيمين في (القول المفيد 1 / 311) :
( وهنا نسأل: هل استجاب الله دعوة نبيه – صلى الله عليه وسلم – بأن لا يجعل قبره وثناً يعبد، أم اقتضت حكمته غير ذلك؟ الجواب: يقول ابن القيم: إن الله استجاب له، فلم يذكر أن قبره – صلى الله عليه وسلم – جعل وثناً، بل إنه حمي بثلاثة جدران، فلا أحد يصل إليه حتى يجعله وثناً يعبد من دون الله، ولم يسمع في التاريخ أنه جعل وثناً…صحيح أنه يوجد أناس يغلون فيه، ولكن لم يصلوا إلى جعل قبره وثناً، ولكن قد يعبدون الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولو في مكان بعيد، فإن وجد من يتوجه له – صلى الله عليه وسلم – بدعائه عند قبره، فيكون قد اتخذه وثناً، لكن القبر نفسه لم يجعل وثناً ) .

وقال تقي الدين ابن تيمية في ( التوسل والوسيلة ص52) فإن أحداً من الأنبياء عليهم السلام لم يعبد في حياته بحضوره ، فإنه ينهى من يعبده ويشرك به . ولو كان شركاً أصغر ، كما قال – صلى الله عليه وسلم – : (لا تقل ما شاء الله وشاء محمد) . الحديث .وأما بعد موته عليه السلام فيخاف الفتنة والإشراك به كما أشرك بالمسيح وعزيز وغيرهما ، ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم – : (لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله) أخرجه البخارى .

وقال – صلى الله عليه وسلم – : (اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد) . وقال: ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما فعلوا ) .

ويدل لهذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا : يارسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ ) وهؤلاء عبدوا الأنبياء ، كما سيأتي قريبا بإذن الله .

الثالثة : ولو سلمنا صحة الاستدلال بأن الله عصم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد ، فهل عصم الله سبطه الكريم الحسين رضي الله عنه أن يعبد ؟ وهل عصم غيره من الأنبياء والملائكة والأولياء أن يعبدوا ؟ فإن كان الجواب بنعم ، بطل كونه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم كما قرره المفتي ، وإن كان الجواب بـ ( لا ) فهو حق ، وحينئذ يبطل الاستدلال به ، والدليل على كون الملائكة والأنبياء والصالحين عبدوا من دون الله قوله تعالى : ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورا ) وقوله : (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) وقوله : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ) وقوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار ) وقوله : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

4 ـ ذكر المفتي أن المسجد المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ) يراد به : موضع السجود .

وهذا كلام غير صحيح ؛ لأنه قصر للفظ على بعض أفراده أومسمياته بدون دليل ، بل الدليل على خلافه ، قال الفيومي في المصباح المنير : ( الْمَسْجِدُ : بيت الصلاة ، و المَسْجِدُ ـ أيضا ـ : موضع السجود من بدن الإنسان ، والجمع : مَسَاجِدُ ) . وقال ابن منظور في لسان العرب : ( والمسجَد والمسجِد الذي يسجد فيه … وقال ابن الأَعرابي : مسجَد بفتح الجيم محراب البيوت ، ومصلى الجماعات مسجِد بكسر الجيم ،والمساجد جمعها والمساجد ـ أيضا ـ الآراب التي يسجد عليها والآراب السبعة مساجد ) . وعلى هذين المعنيين دارت تفاسير المسجد والمساجد في القرآن العظيم . انظر : ( نزهة الأعين النواظر لابن الجوزي ص567 ) .

فإذا تقرر هذا وجب تعميم ماعممه الشرع وإطلاق ما أطلقه ، كيف وقد جاء مايؤيد عدم قصره على ماذكره المفتي ، كما في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تجلسوا على القبور ، ولا تُصلوا إليها ) ، وروى مسلم عن جابر قال : نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه.

وفي الحديث المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصور ،أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ) .

قال العيني في ( المرقاة 13/ 249 ) : ( والمعنى أولئك من أهل الكتاب أو من جماعة اليهود والنصارى إذا مات فيهم الرجل الصالح أي من نبي أو ولي بنوا على قبره مسجدا أي متعبدا ويسموه كنيسة ) . وقال ابن رجب في ( فتح الباري 2 / 404) : هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين ، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى ، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراد ، فتصوير صور الآدميين محرم ، وبناء القبور على المساجد بانفراده محرم كما دلت عليه النصوص ) .

وقال الشوكاني في ( شرح الصدور بتحريم رفع القبور ص13) : ( فمن إشراف القبور: أن يرفع سمكها أو يجعل عليها القباب أو المساجد ؛ فإن ذلك من النهي عنه بلا شك ولا شبهة ؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لهدمها أمير المؤمنين عليا ، ثم أمير المؤمنين بعث لهدمها أبا الهياج الأسدي في أيام خلافته. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن حبان من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يوطأ .

وزاد هؤلاء المخرجون لهذا الحديث عن مسلم : وأن يكتب عليه. قال الحاكم: النهى عن الكتابة على شرط مسلم، وهي صحيحة غريبة . وفي هذا التصريح بالنهي عن البناء على القبور، وهو يصدق على ما بني على جوانب حفرة القبر ، كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور الموتى ذراعا فما فوقه؛ لأنه لا يمكن أن يجعل نفس القبر مسجدا، فذلك مما يدل على أن المراد بعض ما يقربه مما يتصل به، ويصدق على ما بنى قريبا من جوانب القبر كذلك، كما في القباب والمساجد والمشاهد الكبيرة، على وجه يكون القبر في وسطها أو في جانب منها؛ فإن هذا بناء على القبر، لا يخفى ذلك على من له أدنى فهم، كما يقال: بنى السلطان على مدينة كذا، أو على قرية كذا سورا ، وكما يقال: بنى فلان في المكان الفلاني مسجدا، مع أن سمك البناء لم يباشر إلا جوانب المدينة أو القرية أو المكان ، ولا فرق بين أن تكون تلك الجوانب التي وقع وضع البناء عليها قريبة من الوسط، كما في المدينة الصغيرة والقرية الصغيرة والمكان الضيق، أو بعيدة في الوسط كما في المدينة الكبيرة والقرية الكبيرة والمكان الواسع، ومن زعم أن في لغة العرب ما يمنع من هذا الإطلاق فهو جاهل لا يعرف لغة العرب، ولا يفهم لسانها ولا يدري بما استعملته في كلامها. وإذا تقرر لك هذا علمت أن رفع القبور ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله تارة كما تقدم. وتارة قال: ( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، فدعا عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية. وذلك ثابت في الصحيح، وتارة نهى عن ذلك. وتارة بعث من يهدمه وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى …) .

وقال المباركفوري في ( تحفة الأحوذي 4 / 129) : ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولا أوليا : القبب والمشاهد المعمورة على القبور ، وأيضا هو من اتخاذ القبور مساجد وقد لعن النبي صلى الله عليه و سلم فاعل ذلك …) .

5ـ وأما الاستدلال بالقبة التي بنيت على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستدلال باطل ؛ لأن الذي بناها هو الملك المنصور قلاوون سنة ثمان وسبعين وستمائة ، فوقع فعله خلاف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجب اطراحه لا الاحتجاج به ، قال العلامة حسين بن مهدي النعمي في كتابه ( معارج الألباب ص147 ) مجيبا عن استدلال من استدل على جواز وضع القباب والبنايات على القبور بالقبة التي على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم : ( فكان ماذا ؟ بعد أن حذر صلى الله عليه وسلم وأنذر ، وبرأ جانبه المقدس الأطهر صلى الله عليه وسلم ، فصنعتم له عين ماتقدم بالنهي عنه ، أفلايكون هذا كافيا لكم أن تجعلوا ـ أيضا ـ مخالفتكم عن أمره حجة عليه وتقدما بين يديه، فهل أشار بشيء من هذا ؟ أورضيه ، أولم ينه عنه ؟ ) . وقال العلامة الصنعاني في كتابه ( تطهير الاعتقاد ص 23) : ( فإن قلت : هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عمرت عليه قبة عظيمة أنفقت فيها الأموال. قلت : هذا جهل عظيم بحقيقة الحال ؛ فإن هذه القبة ليس بناؤها منه ولا من أصحابه ولا من تابعيهم ولا تابعي التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة ثمان وسبعين وستمائة. ذكره في (تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة) فهذه أمور دولية لا دليلية، يتبع فيها الآخر الأول ) .

6ـ قال المفتي : ( هل سيدنا ومولانا الحسين وثن ؟ ) قلت : هناك فرق بين إطلاق اللفظ باعتبار الشخص وإطلاقه باعتبار الفعل ؛ ولهذا قال تعالى : ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) والذين يعبدون عزيرا والمسيح وأمه وغيرهم من الملائكة والأنبياء والصالحين ومن دونهم ، عبادتهم عبادة للطاغوت ، لكن المعبود بعينه لايقال له : طاغوت إلا إذا عبد من دون الله وهو راض أودعا إلى عبادة نفسه .

7ـ ذكر المفتي أن هدم الأضرحة ( وهي البنايات التي على القبور المخالفة للشرع ) تشويه للإسلام! فياسبحان الله! هل امتثال قول الله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) تشويه للإسلام ؟! هل تحقيق التوحيد والاتباع وسد الطرق المفضية إلى الشرك تشويه للإسلام ؟! بل بقاء هذه البنايات والقباب ، وتعلق الجهلة بالأموات ، ودعاؤهم والاستغاثة بهم والنذر لهم والذبح هو عين التشوية للملة الحنيفية التي جاءت بها رسل الله وأنبياؤه وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين . كما أن فيه استنزاف أموال الجهلة والفقراء من قبل سدنة هذه الأضرحة ومرتزقتها ، ومنح صكوك الغفران ـ ظلما وافتراء على الله ـ مقابل أموال يأكلونها بالباطل ، بل بأبطل الباطل ، أليس هذا هو التشويه ؟

هذا ماتيسر ذكره هنا ؛ إقامة للحجة ، وبراءة للذمة ، سائلا الله تعالى أن يهدينا جميعا لما اختلف فيه من الحق بإذنه ؛ إنه جل وعلا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .

كتبه / عبدالعزيز بن محمد السعيد

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .

6 / 5/ 1432هـ

 


شارك المحتوى: