وقفات مع الفتنة واستشهاد عثمان


الحمد لله الذي لا مانع لما وهب، ولا معطيَ لما سلب، جعل في التأريخ عبرة لمن رغب ، وفي سير الرجال مدرسة ومكتسب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هزم الأحزاب وغلب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه الله وانتخب، صلى الله عليه وعلى صحبه ما أشرق النجم وغرب، وسلم تسليماً.

أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون فإنه كلما تخلف الناس عن هدي نبيهم عليه الصلاة والسلام، وابتعدوا عن منهج سلفهم الصالح؛ عظمت مصيبتهم، واختلفت قلوبهم، والناجي منهم من بقي على الطريق الأول وإن قلَّ السالكون ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون ﴾

عباد الله : في خطبة ماضية وقف الحديث عن سيرة عثمان وفضائله ووقفات معها ، واليوم نختمها بخاتمة

حياته وما يكتنفها من وقفات ودروس .

إلا أننا في خضم أحداث تلكم الفتنة التي جرت في آخر أيام عثمان لا ينبغي أن نغفل المنجزات العظيمة التي شهدتها الدولة الإسلامية في عهده ، وما في بعضها من نقلة للمسلمين بعيدة المدى ، وامتداد الفتوحات في عهد عثمان بن عفان غربا إلى افريقيا (تونس) ، وجنوبا الي بلاد النوبه، وشمالا إلى ارمينيه وأذربيجان .

كما كان في زمنه انشاء الأسطول البحري ، وأنهى المسلمون عصر السيادة الرومية شرقي البحر المتوسط.

كما كان من فرائده رضي الله عنه ومناقبه الكبار، أنه جمع الناس على مصحف واحد ، قال الحافظ النووي : فنسخ من ذلك المجموع الذي عند حفصة، الذي أجمعت الصحابة عليه ، مصاحفَ، وبعث بِها إلى البلدان، وأمر

بإتلاف ما خالفها، وكان فعله هذا باتفاق منه ومن علي بن

أبي طالب، وسائر الصحابة، وغيرهم .

ولما رأى ضيق المسجد الحرام بمن فيه أمر بتوسعته ووضع الأروقة لأول مرة في جوانب المطاف يتظلل بها الناس ، وبعد أن اشتكى الناس ضيق المسجد النبوي بهم لا سيما يوم الجمع استشار أهل الرأي فاتفقوا على هدمه وزيادته ، فزيد من جهاته الثلاث عدا الشرقية .

فِي الصَّحِيحِ لما قتل الفاروق اسند الأمر من بعده لستة قال عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وهو أحدهم جَلَست ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَاللهِ مَا تَرَكْتُ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ الْـمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَّا وَسَأَلْتُهُمْ فَمَا رَأَيْتُهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ أَحَدًا » وَلِذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَيُّوبُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْإِمَامُ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ والْأَنْصَار ، فكيف يا محبي صهر نبيكم بمن اعتبر خلافته فجوة في الإسلام أذهبت رونقه كما يقول المفكر الإسلامي سيد قطب ، وكان مقتل عثمان رضي الله عنه عند استاذه المودودي ثورة هي أقرب إلى روح الإسلام من موقف عثمان هكذا يصرح من يلمعهم الغششة .

أما أنتم أحباب صحب محمد فخلافته عندكم راشدة ومقتله أعظم مصيبة أصيبت بها الأمة بعد موت نبيها صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الفاروق عمر رضي الله عنه قد قتل وهو أفضل من عثمان فإن قاتله كان علجا واحدا من المجوس لم يركع لله تعالى ركعة، أما قتلة عثمان رضي الله عنه فجماعة وليس واحدا، وقد دانوا بالإسلام، وأظهروا التنسك والصلاح، وزعموا بقتله الخير والإصلاح، فكانت أول فتنة سياسية في هذه الأمة افتات مشعلوها على أميرهم، ونازعوه في سلطانه .

في الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ” كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ … ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ فَقَالَ لِي : ( افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ ) فَإِذَا عُثْمَانُ ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .

عباد الله : لو نظرنا في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه لوجدنا بدايتها كانت مجرد آراء في الاعتراض على سياسات معينة، ثم تفاقمت بفعل أعداءٍ ملأ الحقد قلوبهم، فاندسوا في صفوف الدهماء والرعاع، يحرضونهم على الخروج على عثمان رضي الله عنه، كان على رأسهم: ابن السوداء (عبدالله بن سبأ) ينفخ في نار الفتنة، ويضخم الأخطاء، ويتخذ الكذب والأباطيل والإشاعات كما يفعله دعاة الفتنة اليوم.

فكان أول أَسْبَاب الْفِتْنَةِ، كان يكَتَبَ كُتُبًا مُزَوَّرةً عَلَى الزُّبَيْرِ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَعَائِشَةَ، فِيهَا الْإِنْكَارُ عَلَى عُثْمَانَ وَالتَّذَمُّر مِنْ سِيَاسَتِهِ، إلى أن تدرج بهم بقوله:”انهضوا في هذا الأمر – يعني إسقاط الخليفة- بالطعن في أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا قلوب الناس” .

ومن أسباب فتنة مقتل عثمان: الرَّخَاءُ الَّذِي أَصَابَ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ: فكثرة النعم عند الناس، مع الفراغ ، فضعف الحمد والشكر، وكثرة السخط والتشكي؛ فلا الفقير يصبر، ولا المستور يقنع، ولا الغني يرضى.

ولهذا كان من سياسة عمر رضي الله عنه: حبس الناس عن الدنيا، وتقليل حظهم منها، وإشغالهم عنها بالعبادة وفي ذلك قال الشعبي رحمه الله: ” لم يمت عمر حتى مَلَّتُه قريش، وقد كان حصرهم بالمدينة فامتنع عليهم .. وكان يقول للواحد منهم : خير لك من غزوك اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك “

فمع سعة النعم ،أخذوا ينقمون على خليفتهم؛إذا تفرغوا لذلك .

السَّبَبُ الثالث: اسْتِثْقَالُ بَعْضِ الْقَبَائِلِ لِرئَاسَةِ قُرَيْشٍ، ووجدوا في لين عثمان فرصة .

زد على ذلك دوافع ومطامع شخصية كثيرة.. فمن هؤلاء من كان عاقبه عثمان بحد أو تعزير فنقم عليه، ومنهم من طمع في المال.

فتواصى دعاة الفتنة كما هم في كل زمان ومكان بالشر فيما بينهم كما هو الحال الآن عبر شبكات التواصل، فتراسلوا وتكاتبوا يسبون أمير المؤمنين، ويملؤون صدور العامة عليه وعلى ولاته؛ جرّاء سياسات انتقدوها، وأفعال نقموها؛ أثاروها لتسويغ الخروج عليه .

فتمالؤا على ذلك وتكاتبوا فيه، وتواعدوا في أن يجتمعوا في الإنكار على عثمان، وأكثروا الكلام في عيبه و ذمه ، فكانوا يتكاتبون ويتواعدون، فيفدون إلى المدينة جماعات ليسألوا عثمان ويناظروه في أشياء حتى تصير في الناس وتنتشر؛ كما يفعله المفتونون اليوم من تجمُّعهم عند إدارة أو دار للإنكار على العلماء أو الأمراء في أمور حتى تشتهر فتعم الفتنة .

بعد أن أثيرت عَلَى عُثْمَانَ تلك السياسات وشحن الناس ، خَرَجوا إِلَى الْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ يُظْهِرُونَ أَنَّهُم يُرِيدُونَ الْحَجَّ وَقَدْ أَبْطَنُوا الْخُرُوجَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ ، وَحَاصَرُوا بَيْتَه ، وَمُنِعَ مِنَ الصَّلَاةِ بَلْ وَمِنَ الْمَاءِ، فَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ رَجُلٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِتْنَةِ ، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ إِلَى الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ يَوْمُ مَقْتَلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

روى أَحْمَد فِي فَضَائِل الصَّحَابَة بإِسنَادٍ صَحِيح أن ابْنُ عُمَرَ َدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا ابْنَ عُمَرَ انْظُرْ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، يَقُولُونَ: اخْلَعْهَا، وَلَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا خَلَعْتَهَا أَمُخَلَّدٌ أَنْتَ فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: فَلَا أَرَى أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصًا قَمَّصَكَهُ اللهُ فَتكُونَ سُنَّةً، كُلَّمَا كَرِهَ قَوْمٌ خَليفَتَهُمْ، أَوْ إِمَامَهُمْ خَلَعُوهُ .

بَعْدَ أَنْ حُوصِرَ عُثْمَانُ، تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ الْبَيْتَ فَقَتَلُوهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ وَاضِعٌ الْـمُصْحَفَ بَيْن يَدَيْهِ. روى أحمد في فضائل الصحابة بإسناد صحيح عن عَمْرة بنت أرطأة العدوية قالت : ” خرجت مع عائشة سنة قتل عثمان إلى مكة ، فمررنا بالمدينة ، ورأينا المصحف الذي قتل وهو في حَجره ، فكانت أول قطرة من دمه على هذه الآية ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) قالت عمرة : فما مات منهم رجل سويّاً “

قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : أَكَانَ فِيمَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ أَحَدٌ مِنَ الْـمُهَاجِرِينَ أَوِ الْأَنْصَارِ؟ فَقَالَ: كَانُوا أَعْلَاجًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ .

الخطبة الثانية :

الحمد لله ولي المتقين وناصر المظلومين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين أما بعد

عباد الله : من كان له علم وعقل علم أن الخروج على السلاطين من أعظم الفتن التي تبتلى بها الأمة ، سفك للدماء، ورفع للأمن، وحلول الخوف والجوع، والإفساد في الأرض، وأن السمع والطاعة والنصح والدعاء والصبر خير من نكث البيعة، ومفارقة الجماعة، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على ذلك ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا

مات ميتة جاهلية) متفق عليه .

وأن أعظم باب للولوج لتلك الفتن القدح في المجالس وبين الأبناء في سياسات الولاة أو من ينيبهم على ولاياته كالوزراء بزعم أن ذلك من بيان الغلط ليصحح ، وما كان هذا نهج الناصحين ولا السلف السابقين ، فهو كما قال الإمام ابن باز : يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين المسؤول ) وهو ما حصل لشهيد الدار عثمان .

وما نراه من فتن ليستدعي التوبة منا لربنا والتجرد من الأهواء، والتزام الكتاب والسنة، والنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فما حصل ( فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير )

أعاذنا الله من الفتن وأهلها وموقديها ودعاتها ، ووفق الله

ولاة أمرنا لما فيه خير الدين والدنيا ، وحببهم لرعاياهم وحبب رعاياهم لهم .


شارك المحتوى: