من بدع القبور


 

الخطبة الأولى

الحَمْدُ للهِ، سَلَكَ بِأَهْلِ الِاسْتِقامَةِ سَبيلَ السَّلامَةِ، أَحْمَدُهُ – سُبْحَانَهُ – وَأَشْكُرَهُ وَأَتُوبَ إِلَيْهُ وَأَسْتَغْفِرَهُ، وَأَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبيَّنا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولَهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبارَكَ عَلَيْهُ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

عِبادُ اللَّهِ: جَاءَتْ الشَّريعَةُ بِحِمَايَةِ التَّوْحيدِ مِنْ جَميعِ جَوانِبِهِ، وَصانَتْ وَسَدَّتْ كُلُّ طَريقٍ يوصَلُ لِلشِّرْكِ وَالتَّنْدِيدِ.

وَمِن الأَبْوابِ العَظيمَةِ وَاَلْمَداخِلُ الشَرَكيَّةِ الوَخيمَةِ والْأُمورُ اَلْبِدْعيَّةِ الذَّميمَةِ الموَصِّلَةِ لِلشِّرْكِ وَاَلْذَريعَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِاَلْقُبورِ وَزِيَارَتِهَا، والتَّرَدُّدِ عَلَيْهَا وَانْتيابِها، والذَّهابِ إِلَيْهَا وَتَعْظيمِها.

القُبورُ – عِبادُ اللَّهِ – النّاسُ فِيهَا بَيْنَ طَرَفَي نَقيضٍ، فَطَرَفٌ جَعَلَها مَحَلًّا لِعِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَدَعَا أَرْبابَها، وَسَأَلَ أَصْحابَها، وَاسْتَغَاثَ بِهِمْ، وَمِنْهُمْ مِنْ ابْتَدَعَ فِيهَا بِدَعَا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطانٍ، وَمِنْهُمْ مِنْ تَحَرَّى العِبادَةُ عِنْدَهَا، فَعَبْدُ اللَّهِ عِنْدَ القُبورِ.

والطَّرَفُ الثَّانِي مِمَّنْ أَهْمَلَهَا وَأَهانَها، وَوَطِئَ أَصْحابُها، فَلَا احْتِرامَ وَلَا صيانَةَ وَلَا مُحافَظَةٌ وَلَا عِنايَةٌ، فَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِذَمِّ الطَّرَفَيْنِ وَاَلْفِعْلينِ، وَبَقِيَ الطَّرَفُ الوَسَطُ، فَلَا إِفْراطَ وَلَا تَفْريطٌ، أَلا وَهُوَ زيارَتُها واحْتِرامُها بِحُدُودِهَا الشَّرْعيَّةِ.

وَمِن ثُمَّ جَاءَتْ فِي شَريعَتِنا جُمْلَةً مِنْ المَنْهيّاتِ فِي القُبورِ وَأَلْوانٍ مِنْ البِدَعِ وَاَلْشُرورِ فِي القُبورِ والْمَقابِرِ لِكُلِّ مُشَيِّعٍ وَزائِرٍ، وَهَذَا كُلُّهُ حِمايَةٌ لِجَنابِ التَّوْحيدِ وَصَوْنٍ لَهُ عَنْ أَيِّ شائِبَةٍ تَوَصَّلَ صاحِبُهُ إِلَى الشِّرْكِ وَالعِيَاذُ بِاللَّهِ.

فَمَن المَنْهيّاتِ: بِناءُ المَساجِدِ عَلَى القُبورِ أَوْ بِناءِ القُبورِ عَلَى المَساجِدِ، وَهَذَا جَاءَ فِيه النَّهْيُ الشَّديدُ

ففي الصحيحين «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وقال: «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك».

ومن صور اتخاذ القبور مساجد أن يبنى المسجد على قبر أو مقام نبي أو صالح أو ولي.

ومن صوره أن يُبنَى المسجد لله، ثم يدفن ويوضع فيه رجل صالح أو ولي أو عالم، سواء وضع في أول المسجد أو في آخره أو فوقه أو تحته أو في جنباته أو فنائه. كل ذلك محرم.

ولا يجوز الصلاة لله في المساجد التي وُضع فيها قبور؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، أي: مواضع للصلاة والعبادة.

وما بُنِي أخيرًا يُهدَم أولاً.

فعلى هذا لا يجوز بناء المساجد على القبور ولا القبور على المساجد، فهذا من أعظم الوسائل للشرك الأكبر والأصغر، والبدع والمحدثات، والقول المنكر وهو من أعظم فتن هذا العصر.

ومن منهيات الأمور حول المقابر والقبور: البناء على القبور بأيّ نوع من البناء أو الأبنية، سواء بالرخام أو الإسمنت أو وضع محيط بالقبر كغرفة أو التدوير حولها ببناء أو قباب؛ لما في مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليّ: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته»، وفي رواية «صورة إلا طمستها»، «ولا قبرًا مشرفًا إلا سوّيته»، أي: سويته بالأرض؛ لأن رفعه وإظهاره مدعاة إلى تعظيمه وإشهاره وعبادته ودعاءه؛ لكن يُرفَع القبر ليتوقى ويُصان، ويحفظ ولا يُهان.

ومن ذلكم أيضا: تجصيص القبور وزخرفتها، وتزيينها، ووضع الورود عليها، فقد صح الخبر عن سيد البشر أنه نهى عن أن يجصص القبر، ومن الجص تنويرها بالنورة والإسمنت، فهو وسيلة كبيرة إلى دعائها والاستغاثة بها، والطواف بها.

ومن المنهيات: فعل الصلوات، فالصلاة لله عند القبور وتحري قبول ذلك بينها مدعاة للتعظيم والشرك بالرب الكريم، ففي مسلم «لا تصلوا إلى القبور».

وسواء كانت الصلاة نافلة أو فريضة، وثم تنبيه من تفوته الصلاة في المساجد أو تفوته الصلاة عليها، فيأتي المقبرة ويقضي صلاته، ومثله من يصلي الرواتب في المقابر، فهذا كله لا يجوز، إلا من فاتته الصلاة على الجنازة فإنه يجوز أن يصلي عليها في المقبرة قبل الدفن وهو الأولى أو بعد الدفن لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك.

وسادس المنهيات –عباد الله: الذبح عند القبور، وأما الذبح لأصحابها فهو شرك أكبر، فالذبح عبادة، فإن ذبح لله عند القبر فبدعة محدثة ضلالة، وإن ذبح للقبر فشرك أكبر وخسارة. ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي ‌وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾،

وكذا في أي عبادة كالدعاء والطواف والنذر إن كان يفعلها لله عند صاحب القبر فهذه بدعة منكرة، أما ان كان يفعلها لصاحب القبر وتقربا له فهذ شرك أكبر لأنه صرف نوعا من أنواع العبادة لغير الله.

ومن المنهيات: زيارة القبور للنساء، واتباعها الجنائز إلى المقابر أو في المقابر، ولقد لعن الرسول زوارات القبور، كما في السنن. وفي الصحيحين تقول أم عطية: «نُهينا عن اتباع الجنائز»، وذلك لما في المرأة من الضعف وقوة العاطفة وكثرة البكاء والنياحة.

ومن منهيات القبور: شدّ الرحال لزيارتها، وهذا من أعظم الفتن والشرور والمحن.

وفي صحيح الأخبار: «لا تُشد الرحال إلا ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى».

عباد الله، ومن منهيات القبور: إسراجها وتنويرها ووضع الكهرباء الثابت فيها، فإضاءتها بالأنوار الكهربائية وإسراجها داخل أسوارها الحيطانية سواء بأنوار أو شموع، فكل ذلك محدَث ممنوع، ففي الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: «لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» [رواه أهل السنن].

ومن ذلك: التبرك بالقبور، وطلب البركة من المقبور، والعكوف عليها والحضور، رجاء البركة والمنفعة، وربما جلب أولاده وأهله لبركة السيد والولي والمقبرة، وهذا منكر وزور، وطلب النفع ودفع الشرور من دون الله شرك بالرب الغفور.

ومن المنهيات: الجلوس والوطء على القبور، وفي الصحيح: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها»، ومنه إهانتها بوطئها والقعود عليها، وفي مسلم «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر».

ومن سد الذرائع وحفظ التوحيد من الشنائع: عدم الكتابة على المقابر والقبور، سواء كتابة كنية أو اسم أو وسم مذكور أو تاريخ وفاة أو آيات من الكتاب المسطور، أو وضع لوحات بين القبور.

فاحذروا وانتبهوا ممن ابتلي في بعض الأمصار ما يقع في المقابر من الفتن الصغار والكبار، فالقصد من التنبيهات العلم بما يقع عند القبور والمقامات، والتذكير والتعليم بهذه المنهيات، ومن باب عرفت الشر لا للشر، لكن لتوقيه، ومن لا يعرف الشر يقع فيه.

عِبَادَ اللَّهِ: أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ فَاسْتَغفِرُوه إنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:

أيُّها المسلمون، قد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بما يتعلَّق ببدع القبور، وجاء فيها:

«بعد دراسة اللجنة للموضوع واستقراء أحوال ما يوضع على القبور من علامات، توسَّع الناس فيها واستحدثوها، قرَّرَت ما يلي:

أولًا: أن الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هو تعليم قبر عثمان بن مظعون بصخرة؛ رواه أبو داود مرسلًا في (سننه) من حديث المطلب بن عبدالله التابعي، عمَّن أخبره، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبيهقي من طريقه، ورواه ابن سعد، وابن أبي شيبة والحاكم، وفي سنده الواقدي وهو متروك؛ لكن رواه ابن ماجه في (سننه) من حديث أنس رضي الله عنه، وحسَّنه الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير) والبوصيري في (الزوائد).

ثانيًا: أن التعليم بالكتابة سواء كانت بكتابة الاسم، أو كتابة رقم، أو وضع اسم قبيلة ونحوه لا يجوز؛ لعموم ما رواه جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر، أو يقعد عليه، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه؛ رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه والحاكم، وأصله في صحيح مسلم.

ثالثًا: أن التعليم بالكتابة مع رسم صورة الميت لا يجوز، أما الكتابة فلِمَا تقدَّم من النهي، وأما الصورة فلأحاديث النهي الشديدة عن التصوير، ويزداد النهي عنها في هذا الموضوع؛ لأنها على قبر، فهي وسيلة مباشرة للشرك والوثنية.

رابعًا: التعليم بلياسة؛ كجصٍّ وطين ونحوهما لا يجوز؛ لثبوت النهي عن تجصيص القبر في حديث جابر المذكور، والطين ونحوه بمعناه.

خامسًا: التعليم بالبوية الخضراء هي بمعنى الجص، سواء كانت خضراء، أو أي لون آخر، فلا يجوز التعليم بها.

سادسًا: التعليم برخام يصنع لهذا الغرض، هذا من مظاهر الغلو، ولم يكن عليه من مضى من صالح سلف هذه الأمة، فيمنع اتخاذه لذلك.

سابعًا: التعليم بخرقة تعقد على نصيبتي القبر، وقد شاع عقد الخرق على القبور للتبرُّك، وكل هذا محدث لا يجوز».

اللهُمَّ أعزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الـشِّـرْكَ والمُـشـْرِكِين، وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّين.

اللهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِح أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا.

اللهُمَّ وَفِّقْ جَمِيعَ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِلعَمَلِ بِكِتَابِكَ، واتِّباعِ سُنَّةِ نَبِيِّكَ، وَتَحْكِيمِ شَرْعِكَ.

اللهُمَّ وَفِّق إمَامَنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ لِما فِيه عِزُّ الْإِسْلَامَ وَصَلَاحُ الْمُسْلِمِين.

اللهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَإِخْوَانَه وَأَعْوَانَه لِما تُحِبُهُ وتَرْضَاه.

اللَّهُمَّ احْفَظْ جُنودَنا المُرَابِطِينَ وَرِجالَ أَمْنِنَا، وَسَدِّدْ رَمْيَهُمْ يَا رَبَّ العالَمينَ.

اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالحَوْثِيِّينَ المُفْسِدِينَ، وَبِاَلْخَوارِجِ المَارِقينَ، وَبِجَميعِ أَعْداءِ الدّينِ.

اللَّهُمَّ اِكْفِنَا شَرَّهُمْ بِمَا شِئْتَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَدْرَأُ بِكَ فِي نُّحورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرورِهِمْ.

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتَك، وَتَحَوُّل عَافِيَتك، وَفُجَاءَة نَقِمَتِك، وَجَمِيعِ سَخَطِك.

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ البَرَصِ وَالْجُذَام وَالْجُنُونِ وَسَيِّئ الْأَسْقَام.

عِبَادَ اللَّهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾.

فَاذْكُرُوا اللَّهَ العَظيمَ الجَليلَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، واللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

جمع وتنسيق/ عبد الله بن مـحمد بن حسين النجمي

إمام وخطيب جامع الحارة الجنوبية بالنجامية بمنطقة جازان

من بدع القبور – خطبة جمعة للشيخ عبدالله النجمي – 14-04-1443 هـ


شارك المحتوى: