منهج السلف في الإنكار على ولاة الأمر


منهج السلف في الإنكار على ولاة الأمر

بقلم فضيلة الشيخ د.حمد الهاجري

الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه،

أما بعد: فقد حصل إشكال بين بعض الإخوة في فهم كلام أهل العلم في الإنكار العلني، فكتبت هذه المقالة عسى أن يكون فيها حلا لما أشكل فهمه عليهم، والله أسأل التوفيق والسداد.

أولا: وجوب مناصحة ولاة الأمور:

النصيحة لولاة الأمر حق من حقوقهم، وواجب شرعي على رعيتهم لهم، ومما يدل على ذلك:

1- قال الله تعالى( ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). آل عمران: 104.

2- عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال:” الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلنَا: لِمَنْ؟ قال: وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ”. رواه مسلم.

3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم: أن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويكره لكم: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال”. رواه مسلم.

ثانيا: كيفية إنكار المنكر على ولاة الأمر:

إذا وقع ولي الأمر في منكر، فلا يخلو الإنكار من أمرين:

الأمر الأول: أن ينكر المنكر بدون ذكر الفاعل:

يجب إنكار المنكرات والمعاصي إذا ظهرت بين الناس علانية، دون ذكر للفاعل، سواء كان فاعلها ولي أمره أو غيره، فينكر تحكيم القوانين الوضعية والربا والظلم وشرب الخمر وغيرها؛ لما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”. رواه مسلم (177).

قال الشيخ عبدالعزيز بن باز في مجموع فتاويه(8 /210):”أما إنكار المنكر بدون ذكر الفاعل: فينكر الزنى وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله، فذلك واجب؛ لعموم الأدلة. ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر من فعلها لا حاكما ولا غير حاكم”.

وقال الشيخ عبدالمحسن العباد في مقاله(حقوق ولاة الأمر المسلمين النصح والدعاء لهم والسمع والطاعة في المعروف): “وإذا ظهرت أمور منكرة من مسئولين في الدولة أو غير مسئولين سواء في الصحف أو في غيرها فإن الواجب إنكار المنكر علانية كما كان ظهوره علانية”.

الأمر الثاني: أن ينكر على فاعل المنكر- وهو ولي الأمر هنا -:

فالواجب أن ينكر على ولاة الأمر بالطريقة الشرعية، وذلك بأن ينكر عليهم برفق سرا لا علانية أمام الناس.

ومما يدل على ذلك:

1- عن شريح بن عبيد الحضرمي قال: “جلد عياض بن غنم صاحب دارا حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه، ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع النبي يقول: (إن من أشد الناس عذابا أشدهم عذابا في الدنيا للناس)، فقال عياض بن غنم: يا هشام قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت، أو لم تسمع رسول يقول: (من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه). وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله، فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى؟”. أخرجه أحمد وابن أبي عاصم في كتاب السنة، وصححه الحاكم والألباني، وجوده ابن باز.

2- عن أبي وائل قال: قيل لأسامة بن زيد: لو أتيت عثمان فكلمته، قال: إنكم لتـُرَوْنَ أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني أكلمه في السر، دون أن أفتح باباً لا أكون أول من فتحه. أخرجه البخاري ومسلم.

قال النووي رحمه الله موضحا قصد أسامة في شرح مسلم 18/160: “قوله “أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه” يعنى المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ، كما جرى لقتلة عثمان رضي الله عنه”.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح(13/51) قال المهلّب : أرادوا من أسامة أن يكلم عثمان…. فقال أسامة : ( قد كلمته سراً دون أن أفتح بابًا ) أي : باب الإنكار على الأئمة علانية، خشية أن تفترق الكلمة ثم قال الحافظ- وقال عياض: مراد أسامة: أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام؛ لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطّف به، وينصحه سرًا، فذلك أجدر بالقبول) .ا.هـ

وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في تحقيقه لمختصر صحيح مسلم:” يعني المجاهرة بالإنكار على الاْمراء في الملأ لأن في الإنكار جهارأ ما يخشى عاقبته، كما اتفق في الإنكار على عثمان جهارأ إذ نشأ عنه قتله”.

3- عَن سعيد بْن جبير قَالَ قلت لابن عَبَّاس آمر إمامي بالمعروف قَالَ:” إن خشيت أن يقتلك فلا، فإن كنت ولا بد فاعلا ففيما بينك وبينه، ولا تغتب إمامك”. رواه سعيد بن منصور في سننه، وأخرج نحوه ابن أبي شيبة.

4- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:” أيتها الرعية إن لنا عليكم حقا: النصيحة بالغيب، والمعاونة على الخير”. أخرجه هناد في الزهد 2/602.

5- روى الإمام أحمد عن سعيد بن جمهان قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر، فسلمت عليه، قال لي: من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جمهان.

قال: فما فعل والدك؟ قال: قلت: قتلته الأزارقة.

قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كلاب النار.

قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بلى الخوارج كلها.

قال: قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم. قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة، ثم قال:

ويحك يا ابن جمهان عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته، فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك، وإلا فدعه، فإنك لست بأعلم منه”. رواه أحمد والطبراني، وحسنه الألباني في تخريج السنة 2/523.

6- ثبت عن عبد الله بن عكيم أنه قال: لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان. فيقال له: يا أبا معبد أو أعنت على دمه ؟ فيقول: إني أعد ذكر مساويه عوناً على دمه”. أخرجه ابن سعد في طبقاته 6/115، والفسوي في المعرفة والتاريخ 1/231-232، وصححه عبدالسلام بن برجس في معاملة الحكام 88.

قال الإمام المجدد المصلح محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – كما في الدرر السنية (9/121):” والجامع لهذا كله: أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن ينصح برفق خفية ما يشترف – أي ما يطلع عليه – أحد، فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلاً يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهراً، إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق، واستلحق عليه ولا وافق، فيرفع الأمر إلينا خفية “.

وقال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله في الرياض الناضرة 50:” على من رأى منهم ما لا يحل أن ينبههم سراً لا علناً بلطف وعبارة تليق بالمقام”.

وقال العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله في مجموع فتاواه (7 / 306):( فالنصح يكون بالأسلوب الحسن والكتابة المفيدة والمشافهة المفيدة, وليس من النصح التشهير بعيوب الناس, ولا بانتقاد الدولة على المنابر ونحوها, لكن النصح أن تسعى بكل ما يزيل الشر ويثبت الخير بالطرق الحكيمة وبالوسائل التي يرضاها الله عز وجل).

وقال الشيخ عبدالمحسن العباد في مقاله(حقوق ولاة الأمر المسلمين النصح والدعاء لهم والسمع والطاعة في المعروف):” ومن حقوق ولاة الأمر المسلمين على الرعية النصح لهم سراً وبرفق ولين والسمع والطاعة لهم في المعروف”.

استثناء من الأصل:

الأصل أن ينكر على ولاة الأمر برفق سرا لا علانية أمام الناس، للأدلة السابقة.

ولكن يستنى من هذا الأصل:

جواز الإنكار على ولي الأمر علانية، بشرطين:

1- أن يكون أمام ولي الأمر لا بغيابه.

2- أن تتحقق مصلحة في ذلك.

ومما يدل على هذا الاستثناء: قصة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مع مروان أمير المدينة لمّا قدّم الخطبة على صلاة العيد، فأنكر عليه أبو سعيد. رواه البخاري برقم 956. والسبب في ذلك: أنه أراد بهذا الإنكار أن يثنيه عن منكر يريد فعله الآن أمام الناس، فالإنكار في هذا الموضع لا يحتمل التأخير.

قال النووي رحمه الله عند أثر أسامة السابق في شرح مسلم 18/160: ” وفيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم، ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقول الناس فيهم لينكفوا عنه، وهذا كله إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن الوعظ سراً والإنكار، فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق”.

و قال العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في لقاءات الباب المفتوح 3/353-359 :

“ولكن يجب أن نعلم أن الأوامر الشرعية فيمثل هذه الأمور لها محال، ولا بد من الحكمة، فإذا رأينا أن الإنكار علنا يزول به المنكر والشر ويحصل به الخير فلننكر علنا، وإذا رأينا أن الإنكار لا يزول به الشر، ولا يحصل به الخير، بل يزداد بغض الولاة للمنكرين وأهل الخير، فإن الخير أن ننكر سرا، وبهذا تجتمع الأدلة، فتكون الأدلة الدالة على أن الإنكار يكون علنا فيما إذا كنا نتوخى فيه المصلحة، وهي حصول الخير وزوال الشر، والأدلة الدالة على أن الإنكار يكون سرا فيما إذا كان إعلان الإنكار يزداد به الشر ولا يحصل به الخير ..

الواجب أن نناصح ولاة الأمور سرا كما جاء في النص الذي ذكره السائل.

ونحن نقول: النصوص لا يكذب بعضها بعضا، ولا يصادم بعضها بعضا.

فيكون الإنكار معلنا عند المصلحة، والمصلحة هي أن يزول الشر ويحل الخير، ويكون سرا إذا كان إعلان الإنكار لا يخدم المصلحة، أي:لا يزول به الشر ولا يحل به الخير”.

فهنا اشترط الشيخ لجواز الإنكار العلني أمام ولي الأمر تحقق المصلحة.

ثم سئل الشيخ محمد بن عثيمين في نفس الجلس:

فضيلة الشيخ هل يعني كلامكم السابق في مسألة الإنكار على الولاة أنه لا يجوز إنكار المنكرات الموجودة في المجتمع علنا ؟

الجواب: لا. نحن نتكلم عن الإنكار على الولاة وليس في إنكار المنكرات الشائعة.

..فأقول: إن إنكار المنكرات الشائعة مطلوب ولا شيء في ذلك، ولكن كلامنا على الإنكار على الحاكم.

مثل أن يقوم إنسان في المسجد ويقول مثلا: الدولة ظلمت، الدولة فعلت، فيتكلم في الحكام بهذه الصورة العلنية، مع أن الذي يتكلم عليهم غير موجودين في المجلس.

وهناك فرق بين أن يكون الأمير أو الحاكم الذي تريد أن تتكلم عليه بين يديك وبين أن يكون غائبا، لأن جميع الإنكارات الواردة عن السلف كانت حاصلة بين يدي الأمير أو الحاكم، الفرق أنه إذا كان حاضرا أمكنه أن يدافع عن نفسه، ويبين وجهة نظره، وقد يكون مصيبا ونحن المخطئون، لكن إذا كان غائبا لم يستطع أن يدافع عن نفسه وهذا من الظلم، فالواجب أن لا يتكلم على أحد من ولاة الأمور في غيبته، فإذا كنت حريصا على الخير فاذهب إليه وقابله وانصحه بينك وبينه”.

وفي هذا الكلام اشترط الشيخ للإنكار العلني على ولاة الأمر أن يكون أمامه لا بغيابه.

رابط المقال للنشر: http://tl.gd/hqtj3d

نقلا من صفحته في تويتر :

https://twitter.com/#!/Dr_HamadAlhajri


شارك المحتوى: