الخطبةُ الأولى:
الحمدُ للهِ الغنيِّ الحميد، ذُي العرشِ المجيدِ، الفعَّالِ لما يريدُ، المُحصِي المُبدِئ المُعِيدِ، خَلَقَ الخلقَ فمنهُمْ شقيٌّ وسعيدٌ، قدَّمَ للعاصينَ بالوعيدِ، وبشَّرَ الطائعينَ بالجنةِ وبالمزيدِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لا شركَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولهُ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أمَّا بعدُ:
فإنَّنا نعتَنِي بأبدَانِنَا، مِن لباسٍ وصِّحةٍ إلى غيرِ ذلِكَ، وهذا خيرٌ إذا كانَ مُنضَبِطًا بضوابِطِ الشرعِ والعُرفِ بِلا إفراطٍ ولا تفريطٍ، لكنَّنَا نغفُلُ كثيرًا عَن الأصلِ وهوَ الروحُ والقلبُ، فإنَّ القلبَ هوَ الأصلُ، وبصلاحِ القلبِ الصلاحِ المعنويِّ -الصلاحِ الدِّينيِّ- يكونُ الفلاحُ الدنيويُّ والنجاةُ الأُخرَويُّ.
وقد جاءَتْ الأدلَّةُ الشرعيَّةُ في بيانِ أن القلبَ هو الأصلُ، وأنَّ ما عدَاهُ تبعٌ لهُ، قالَ سبحانهُ: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [البقرة: 74] وقالَ سبحانهُ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الحديد: 16].
وروَى البخاريُّ ومسلمٌ عَن النُّعمانِ بنِ بشيرٍ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «ألَا وَإِنَّ في الجسدِ مُضغَةً، إذَا صلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فسَدَ الجسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهِيَ القلبُ».
وروَى معمرُ بنُ راشدٍ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّهُ قالَ: “القلبُ هوَ الملكُ والأعضاءُ جنودهُ، فإذا صلَحَ الملكُ صلَحَتْ جنودهُ“.
فلابدَ أنَّ نجتهدَ في صلاحِ قلوبِنَا، وأن نتفكَّرَ في فلاحِهَا ونجاحِهَا، فإنَّ في فلاحِهَا ونجاحِهَا وصلاحِهَا الفوزَ الدنيويَّ والأخرويَّ.
وإنَّ هناكَ أمراضًا تُفسِدُ القلوبَ منها مرضانِ:
المرضُ الأولُ: الغفلةُ، وما أدراكَ ما الغفلةُ، قالَ سبحانه: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ [الكهف: 28] وقالَ سبحانهُ: ﴿وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 205].
فالغفلةُ غفلةٌ عن طاعةِ اللهِ، غفلةٌ عن المسارَعَةِ في الخيرات، فبعضهُم غافلٌ في دنياهُ، إمَّا ساعٍ وراءَ الملذَّاتِ واللهوِ، ولو كانَ مُباحًا، أو لاهيًا غافِلًا في طلبِ رزقهِ عن طاعةِ اللهِ، وقَدْ قالَ سبحانهُ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: 133] وقالَ سبحانهُ: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الحديد: 21].
فالغفلةُ داءٌ عظيمٌ وسببٌ للخلودِ في الجحيمِ.
المرضُ الثاني: الذنوبُ والمعاصي، واللهِ وتاللهِ وباللهِ إنَّ الذنوبَ والمعاصيَ سببٌ لفسادِ الدنيا والآخرةِ، فلا فسادَ دنيويٌّ ولا أُخرَويٌّ إلا بسببِ الذنوبِ، سواءٌ كانَتْ صغيرةً أو كبيرةً، قال سبحانهُ: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5] وقالَ: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165] وقالَ سبحانهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ [آل عمران: 155].
وكثيرٌ مِن الناسِ مخدوعٌ، إذا سَمِعَ التحذيرَ من الذنوبِ خيّلَ لهُ شيطانُهُ خديعةً ومكرًا بأنَّهُ مِن أبعدِ الناسِ عَن الذنوبِ، وأنَّهُ يمرُّ عليهِ اليومُ واليومانِ والأسبوعُ والأسبوعانِ ولَم يعصِ اللهَ، ولو دقَّقَ في حالهِ لعَلِمَ أنَّ مُجرَّدَ هذا الاعتقادِ ذنبٌ وخديعةٌ ومكرٌ.
والذنوبُ لها صورٌ مُتعدِّدَةٌ، فما يرَى المرءُ بيعنهِ من المحرماتِ في الجولاتِ وغيرِها، أو ينطِقُ بلسَانِهِ مِن غيبةٍ أو نميمةٍ، أو يعتقِدُ في قلبهِ مِن شركٍ، أو بِدَعٍ، أو ضلالاتٍ، أو احتِقَارٍ لخلقِ اللهِ، إلى غيرِ ذلِكَ، فكلُها من الذنوبِ، فليُراجِعْ كُلُّ واحدٍ مِنَّا نفسَه، لاسيمَا فيما يتعلَّقُ بحَقِّ العبادِ، وأعظمُ العبادِ حقًا الوالِدَانِ، كما قالَ سبحانهُ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23].
فكيفَ أنتَ معَ الوالدينِ؟ أتقدِّمُ الزوجةَ والأولادَ والأصدقاءَ والأحبابَ على الوالدِ الكبيرِ أو الأمِّ الكبيرةِ؟
ومن الذنوبِ الموبقةِ والكبائرِ المفجعةِ قطيعةُ الأرحامِ ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: 22].
ومن الذنوبِ المسخطةِ والشنائعِ المهلكةِ ظُلمُ العِبادِ في أموالِهِم، أتدري أنَّكَ إن اقترَضتَ مِن رجلٍ مالًا ولم تفِ لهُ معَ قُدرتِكَ، أو كان له حقٌ ماليٌ عليك إما بإجارةٍ أو غيرِ ذلِكَ، ولَمْ تُعطِه، وأنتَ قادرٌ، أنَّ هذا كبيرةٌ مِن كبائرِ الذنوبِ.
روَى البخاريُّ عَن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «مَطْلُ الغنيِّ ظُلمٌ»،
فما أكثرَ المسلمينَ الذينَ يستدينونَ ولا يقضونَ مع قدرتِهم، وقَدْ روَى البخاريُّ عَن أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «مَن أخذَ أموالَ الناسِ يريدُ إتلافَها أتلفَهُ اللهُ».
وإنَّ عِلاجَ هذينِ الدَّاءينِ الغفلةِ والوقوعِ في الذنوبِ بأمورٍ منها:
الأمرُ الأولُ: تذكُّرُ الآخرةِ، نعَم، تذكَّرُ الآخرةَ، تذكَّروا أهوالَ القبورِ، تذكَّروا ما بعدَ الموتِ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 1-2].
إنَّ عذابَ اللهِ شديدٌ، إنَّنَا –واللهِ- سنلقى هذا اليومَ العظيمَ والذي بلَغَ من هولِه أنَّ الأُمَّ -وهيَ الأُمُّ- تذهلُ عَن رضيعِها الصغيرِ وتُسقِطُ حملَها.
إنَّ الأمرَ جدٌّ لا هزلٌ، وصعبٌ لا هينٌ فتفكَّروا في حالِكُم وأنتُم واقِفونَ أمامَ الصُّحُفِ وهي تتطايرُ، يا للهِ، أتأخذُ كتابَك باليمينِ أم بالشمالِ؟ وتفكَّروا في شخوصِكم أمامَ الميزانِ، يا ترى أتثقلُ الموازينُ أم تخِفُّ؟
ثُمَّ إذا أقبَلتَ على الصراطِ، تذكَّرْ حِدَّتهُ، وتذكَّرْ زلتَه، يا للهِ، أتعبرُ الصراطَ ناجيًّا أم تهوي في النارِ ساقطًا وعلى الجِباهِ واقِعًا؟.
الأمرُ الثاني: تذكُّرُ الموتَ، وما أدراكَ ما الموتُ، الذي قالَ اللهُ فيهِ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 185].
يا للهِ، ألا نأخذُ العِبرةَ مِن موتِ الصديقِ والحبيبِ؟ ومِن الأخبارِ التي تَتْرَى كُلَّ يومٍ بموتِ فُلانٍ وفُلانٍ؟ إلى متى الغفلةُ؟ إلى متى البُعدُ عَن طاعةِ اللهِ؟ إلى متى التساهُلُ في معصيةِ اللهِ؟ إلى متى تركُ الصلواتِ؟ إنَّ المساجِدَ تشتكي مِن قِلَّةِ المُصلينَ لاسيمَا في صلاةِ الفجرِ، فالأحياءُ تَمتَلِئُ والبيوتُ تكثُرُ، والمُصلونَ في المساجِدِ يَقِلُّونَ، لاسيما في صلاةِ الفجرِ هذهِ الأيامَ.
تَتكاثرُ الصفوفُ في صلاةِ المغربِ أما في صلاةِ الفجرِ تقلُّ وتقلُّ أينَ هُم يا تُرَى؟ أهُم نائمونَ؟ أم في المعصيةِ غارقونَ؟
عبادَ اللهِ، أفيقوا وللهِ أنيبوا، عبادَ اللهِ اعتبروا قبلَ أنْ يعبرَ بكم.
اللهُمَّ يا مَن لا إلهَ إلَّا أنتَ، اللهُمَّ يا رحمنُ يا رحيمُ، اللهُمَّ أحيي قلوبَنَا، اللهُمَّ اجعَلنَا من المسارعينَ في الطاعاتِ، والمُسابقينَ في فعلِ الخيراتِ، اللهُمَّ خُذْ بنواصينَا إلى البِرِّ والتقوى، اللهُمَّ اهدِنَا فيمَنْ هَديتَ، وتولَّنَا فيمَن تولَّيتَ يا أرحمَ الراحمينَ.
أقولُ ما قُلتُ، وأستغفرُ الله لي ولكم فاستغفروهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ وكفى والصلاةُ والسلامُ على المصطفى النبي المجتبى، أمَّا بعدُ:
فإنَّ الأيامَ تنقضي سريعًا، والأعمارَ تذهبُ عجيبًا فكَم مِن صغيرٍ قد بَلَغَ، فكلفَ ثم شبَّ
ثُمَّ صارَ ابنَ الأربعينَ قالَ اللهُ تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: 15].
ثُمَّ زادَ حتى بلغَ الستينَ، وقَدْ روَى الإمامُ البخاريُّ عَن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «لقد أعذَرَ اللهُ إلى امرئٍ أخَّرَ أجلَهُ حتَّى بلَّغهُ السِّتينَ».
وهكذا الأيامُ تمضي، والعُمُرُ ينقضي، والسنونُ تتقدَّمُ.
أيها المؤمنون إنَّ الأمر عظيمٌ، الهولَ جسيمٌ،
قالَ سبحانهُ ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [هود: 105 – 108]
وقال : ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 8-10].
إنَّ القِسمةَ ثُنائيَّةَ لا ثالِثَ لهَا، إمَّا نجاةٌ وفوزٌ، وإمَّا هلاكٌ وخسارةٌ، فيا للهِ أنحنُ مِن الناجينَ أو مِن الهالكينَ الخاسرينَ؟
وإنها فرصةٌ واحدةٌ وحياةٌ واحدةٌ لا تتكررُ ولا تتعوضُ ولا تُقضى.
اللهُمَّ اجعَلْنَا مِمَّنْ قامَ بالأمانةِ في نفسهِ ومَن تحتَ يدهِ، مِن زوجهِ و بنتهِ و ابنهِ، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72].
اللهُمَّ يا مَن لا إلهَ إلا أنتَ اهدِنَا فيمَن هديتَ، وبارِكْ لَنَا فيمَا أعطيتَ، وتولَّنَا فيمَن تَولَّيتَ، وقِنَا شرَّ ما قَضَيتَ،