متون المذاهب الفقهية لم تُكتب بناءً على الدليل الشرعي


بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته … أما بعد:
فإنَّ التفقُّه على المتون الفقهية المذهبية مفيد للغاية، بل لا يمكن في الغالب أن يكون طالب العلم قويًّا في الفقه دون التفقُّه عليها، وما أحسن ما قال الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله -رحمه الله تعالى- في (تيسير العزيز الحميد): (ص 473): “فإن قلت: فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب؟ قيل: يجوز من ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم الكتاب والسنة، وتصوير المسائل، فتكون من نوع الكتب الآلية، أما أن تكون هي المقدمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه، المدعو إلى التحاكم إليها دون التحاكم إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم فلا ريب أن ذلك مناف للإيمان مضاد له كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}”.
لكن مما عجبتُ له أنَّ كثيرًا من متعصبة المذاهب الفقهية المُدَّعين فهم المذهب وكثيرًا ممن تأثَّر بهم لا يعرفون حقيقة المتون المذهبية؛ وذلك أنهم يظنون أنَّ أصحابها كتبوها بناءً على ما ظهر لهم من الراجح تبعًا للدليل الشرعي لا على ما ظهر لهم من الراجح في المذهب،
وشتان بين الأمرين في أنفسهما وفيما يترتب عليهما، أما الفرق بينهما في أنفسهما أنَّ من يكتب بناءً على ما رجحَ عنده بالدليل يكتبُ نتاجَ اجتهاده، وقد يوافق إمام المذهب وقد يُخالفه، وقد يُوافق المشهور عند أصحاب المذهب وقد يُخالفهم، وهكذا…، وهذا بخلاف من يكتب بناءً على الراجح في المذهب، فهو يكتب ما نصَّ عليه إمام المذهب، ثم ما لم يكن له فيه نصٌّ فيكتب ما عليه المحققون من أصحاب المذهب أو الأكثر أو المشهور، بحسب كل مذهب.
ثم من كتبَ بناءً على الراجح في المذهب قد يتديَّن لله بخلاف ذلك بأن يظهر له الدليل في خلافه، لكنه في الكتابة شرطَ على نفسه أن يكتب الراجح في المذهب.
أما الفرق بينهما فيما يترتب عليهما: فهو أنَّ من كتبَ بما هو راجحٌ عنده فيصح أن يتعبَّد الله به ويصح للعامي أن يُقلده ويتعبد بما كتب، بخلاف من كتبَ بناءً على الراجح في المذهب، فلا يصح أن يتعبَّد به ولا أن يتعبَّد العامي بما في هذه الكتب تقليدًا؛ لأنها لم تُكتب بناءً على الراجح في الدليل، فإنَّ الشريعة أجازت للعامي أن يُقلد العالم لأنه يُفتي بما يراه دين الله لا بما يراه المذهب، وشتان بينهما.
فإن قال قائل: كيف ادَّعيتَ أنَّ أصحاب المتون الفقهية لم يكتبوا بناءً على الدليل وإنما بناءً على الراجح في المذهب؟
فيقال: هذا من البدهيات والمسلمات، وإليك برهانه:
البرهان الأول: أن المصنفين لهذه المتون الفقهية نصَّوا على هذا، فلم يذكروا أنهم ألَّفوا بناءً على الدليل، فال ابن مودود الموصلي الحنفي في كتابه المختار: “قد رغب إليَّ من وجب جوابه عليّ أن أجمع له مختصرا في الفقه على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان – رضي الله عنه – وأرضاه – مقتصرا فيه على مذهبه، معتمدا فيه على فتواه، فجمعت له هذا المختصر كما طلبه وتوخاه”.
قال ابن عبد البر المالكي في كتابه الكافي في فقه أهل المدينة: ” واعتمدت فيه على علم أهل المدينة وسلكت فيه مسلك مذهب الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله “.
وقال الماوردي الشافعي في كتابه الإقناع: ” هذا كتاب اختصرته من مذهب الشافعي رضي الله عنه تقريبا لعلمه وتسهيلا لتعلمه ليكون للعالم تذكرة “.
قال ابن قدامة الحنبلي في أول عمدة الفقه: “فهذا كتاب في الفقه، اختصرته حسب الإمكان، واقتصرت فيه على قول واحد، ليكون عمدة لقارئه، فلا يلتبس الصواب عليه باختلاف الوجوه والروايات” أي في المذهب، وقال الحجاوي الحنبلي في أول الزاد “فهذا مختصر في الفقه على قول واحد وهو الراجح في المذهب”.
البرهان الثاني: أنَّ أصحاب المذاهب كتبوا طريقة ترجيح القول في المذهب، وهي ظاهرة في أنها ليست مبنيَّةً على الدليل وإنما على قول الأكثر والأشهر، وهكذا، فيما لا نصَّ فيه لإمام المذهب-على أن منهم من قدم قول بعض الأصحاب على قول الإمام-
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – في الشرح الممتع (1/160): “والمذهب ما في “المنتهى”، لأن المتأخرين يرون أنه إذا اختلف “الإقناع” و “المنتهى” فالمذهب “المنتهى””
وقال الشيخ بكر أبو زيد في المدخل المفصل (1/ 290): “مسالك الترجيح عند الاختلاف… إذا لم يكن في المذهب إلا رواية واحدة ثابتة عن الإمام ولم يحصل له رجوع عنها، فهي المذهب نَصَّا ولا مجال للنظر في التراجيح المذهبية.
وإذا لم يكن في المذهب رواية عن الإمام، فالمذهب فيها ما كان من تخريج لأَحد الأصحاب.
وإذا لم يكن في المسألة رواية ولا تخريج، فللمتأهل في المذهب تخريج الحادثة على أصول المذهب، وقواعده، وضوابطه.
وإذا كان في المسألة روايتان فأكثر عن الإمام نَصًّا، أو تنبيهًا فللفقيه في تنقيح المذهب، أن يتعامل مع الروايتين فأكثر، كما لو كان أمامه دليلان: …وإذا كان الخلاف بين الرواية والتخريج، قدمت الرواية على التخريج؛ لأَن الرواية الثابتة مجزوم بأنها هي مذهب الإمام، والتخريج بوجه، ونحوه، ليس مذهبًا له على الصحيح.
وإذا كان الخلاف بين فقه الأصحاب، بين وجهين فأكثر؛ كان الراجح الأقرب للدليل، أو إلى أصول أحمد، وقواعده، والمخرج عليه من فروع مذهبه…انتهى بتصرف واختصار.
البرهان الثالث: أنَّ مصنِّفي المتون الفقهية لو كتبوا بناءً على الدليل في اجتهادهم لأصبحت متون المذاهب الفقهية في المذهب الواحد متغايرةً تغايُرًا كبيرًا، بل لم يعد للمذهب قول، لأنه سيختلف باختلاف مصنفيه، وهكذا…
تنبيهــــات:
التنبيه الأول: لا يصح لأحد أن يقول إنَّ العمل بالمذهب عملٌ بالدليل، فإنهم لم يكتبوا إلا بناءً على الدليل؛ وذلك أنه قد تقدم أنهم كتبوا بناءً على الراجح في المذهب لا الراجح من جهة الدليل.
التنبيه الثاني: لا يصح لأحد أن يجوز للعامي تقليد المذهب لأنه قول إمام المذهب، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وتقليد مثل هؤلاء جائز؛ وذلك أنَّ المذهب أشمل من أقوال أئمة المذهب، فإنَّ هناك مسائل كثيرة لم يتكلم فيها أئمة المذهب، بل تكلم فيها أصحابهم، وبعد ذلك جُعلت مذهبًا مراعاة لقول الأكثرين أو المحققين …إلخ، بل إنَّ في هذه المذاهب ما يُخالف نصوص أئمتها، كما يعرف هذا من طالعها وقارنها بنصوص أئمتهم.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: ” وأكثر الإقناع، والمنتهى، مخالف لمذهب أحمد ونصه “. [الدرر السنية (1 / 45)].
وقال الشيخ حمد بن معمر: ” فالحنابلة قد اعتمدوا على ما في الإقناع، والمنتهى، ولا ينظرون فيما سواهما، ومن خالف مذهب المتأخرين، فهو عندهم مخالف لمذهب أحمد، رحمه الله، مع أن كثيراً من المسائل التي جزم بها المتأخرون مخالفة لنصوص أحمد، يعرف ذلك من عرفه، وتجد كتب المتقدمين من أصحاب أحمد مهجورة عندهم؛ بل قد هجروا كتب المتوسطين، ولم يعتمدوا إلا على كتب المتأخرين.
ف “المغني” و “الشرح” و “الإنصاف” و “الفروع” ونحو هذه الكتب، التي يذكر فيها أهلها خلاف الأئمة، أو خلاف الأصحاب، لا ينظرون فيها؛ فهؤلاء في الحقيقة أتباع الحجاوي وابن النجار، لا أتباع الإمام أحمد.
وكذلك متأخرو الشافعية، هم في الحقيقة أتباع ابن حجر الهيتمي صاحب “التحفة” وأضرابه من شراح المنهاج؛ فما خالف ذلك من نصوص الشافعي، لا يعبؤون به شيئاً.
وكذلك متأخرو المالكية، هم في الحقيقة: أتباع خليل، فلا يعبؤون بما خالف مختصر خليل شيئاً، ولو وجدوا حديثاً ثابتاً في الصحيحين، لم يعملوا به إذا خالف المذهب، وقالوا: الإمام الفلاني أعلم منا بهذا الحديث، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53]؛ وكل أهل مذهب اعتمدوا على كتب متأخريهم، فلا يرجعون إلا إليها، ولا يعتمدون إلا عليها “. [الدرر السنية (4 / 57)].
التنبيه الثالث: قرر العلامتان الكبيران الشيخ عبد الله بن حميد والشيخ عبد العزيز ابن باز-رحمهما الله-أن متون المذاهب الفقهية تدرس للتعلم، وأن العبرة بالدليل، وأن العامي يسأل من يثق به، فلم يرشدا العامي لتقليد ما فيها، وهذا يؤكد ما تقدم من أنها لم تكتب للتعبد.
قال الشيخ عبد الله ابن حميد في شرح كتاب التوحيد ص 550:” فلا قول لأحد مع قول رسول الله ﷺ ، وأما هذه الكتب المؤلفة – كتب المذاهب الفقهية – لا نقول لا ينبغي أن تقرأها ، لا بأس بقراءتها وحفظها ؛ لأنها تدلك على أحكام المسائل الواقعية ، وتدلك على استنباط المسائل من الأحاديث ، وتدلك على قوة الفهم ، بحيث تستطيع استخراج المسائل والقواعد من الأحاديث ،
لكن لا يجوز لك أن تجعلها بمنزلة القرآن والسنة، وأن ما قالوه يجب اتباعه، حتى نفس المؤلفين لم يريدوا هذا؛ وإنما أرادوا تقريب المسائل ، أو تقرير قواعد مذهبهم ؛ كما وقع لشارح «الإقناع» وصاحب «الروض المربع» الشيخ منصور البهوتي؛ فإنه قدم إلى مكة حاجًّا وقد فرغ من شرح «الإقناع» و«المنتهى» ، فتقدم سائل سأل مفتي المالكية بمكة فكتب له جوابًا ، ثم عرض سؤاله على مفتي الحنفية فكتب جوابًا ، ثم عرض سؤاله على مفتي الشافعية فكتب جوابًا ، ثم عرض سؤاله على الشيخ منصور وكان حاجًّا فكتب جوابًا ، ثم عرض ذلك على مفتي الحنابلة بمكة فكتب جوابًا ، وقال ما معناه : (ما أفتى به الشيخ منصور بن يونس البهوتي خالف فيه ما قرره في «كشاف القناع» و«شرح المنتهى» ، وخالف فيه مذهبه) . ثم أعاد السائل ذلك إلى الشيخ منصور ، فلما رأى اعتراض شيخ الحنابلة عليه كتب عبارة – في الحقيقة هي لا تليق لكن هذه عبارته – ، قال : (بسم الله الرحمن الرحيم ، ألا قل لثور المدار : أني إذا صنفت مشيت على قواعد مذهبي ، وإذا أفتيت ذكرت الوقوف بين يدي ربي) .
أي : أن تأليفه ما هو إلا على قواعد المذهب ، وأصول المذهب …. ”
-ثم قال – رحمه الله – ص557 : “أما ما نقرأه في كتب الأحكام ؛ فليس المراد منه أنه يجب اتباعه ، وأن كل ما في «الروض المربع» أو «كشاف القناع» أو «المبسوط» أو «شرح الحطاب» أو «المجموع» يجب اتباعه ، لا ؛ إنما هذا من باب التقريب ، يبيّن لك المسألة ويوضحها ، ثم يبيّن استنباطها من القرآن أو السنة ، فإن كان لها دليل وليس له معارض فنعم ، وإلا فكل يُؤخذ من قوله ويُرد إلا رسول الله ﷺ .

وأنت إذا اجتهدت ، وطلبت الدليل ، وبذلت وسعك ، واستفرغت كل جهدك فقد أديت الذي عليك ، فإن أصبت فلك أجران ، وإن أخطأت فلك أجر واحد ، فأنت مثاب على اجتهادك ، ولكن ليس كل أحد يحق له الاجتهاد ، فالعامي ليس أهلًا للاجتهاد ؛ وإنما الذي يجتهد هو من كان يعرف الأدلة ومدلولها ، وهل لها ناسخ أو مخصص ؟ فإن كان يستطيع على ذلك فنعم ، أما غيره فلا ينبغي له الاجتهاد ، بل عليه أن يسأل من يعتقد أنه أعلم وأوثق ، هذا الواجب على العامي ، فالله يقول : {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فإذا جاء شخص لم يتعلم وقال : أنا لا أقبل قول فلان في هذه المسألة ، بل أستنبطها من القرآن والسنة !
نقول : لستَ بعالم ، ولا تعرف القرآن ولا السنة ، بل ولا تعرف لغة العرب ، ولا تدري هل مسألتك تلك تندرج تحت ذلك الحديث أو هذه الآية ، وهل لهذا مخصص ، وهل هو مبهم وله ما يفسره ؟
العامي فرضه التقليد ، ولا يجوز له أن يسأل إلا من يعرف ثقته وعلمه وأمانته ، ومن لا يستهين بالفتوى ، أما طالب العلم الذي يستطيع استخراج الدليل من الكتاب والسنة ؛ فهذا لا يجوز له أن يعتمد على كتاب دون دليل ، لا مانع أن يقرأ الكتب وينظر ما قرره أهل العلم ، لكنه مع هذا لا بد أن يطلب الأدلة من مظانها .”
وقال الشيخ عبد العزيز ابن باز-كما في فتاوى نور على الدرب-: “لا مانع من الانتساب إلى مذهب من المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، لكن لا يجوز التمسك به في كل شيء سواء أصاب أو أخطأ، لا، بل يسأل طالب العلم وينظر إن كان عنده بصيرة، فإذا وجد مسألة الحق فيها خلاف المذهب أخذ بالحق؛ لأن ما من مذهب إلا وفيه مسائل مرجوحة، فإذا كان الحنبلي أخذ بالمذهب المالكي أو الشافعي أو الحنفي في مسألة رأى أن الحق معهم وأن الدليل معهم، هذا هو الواجب عليه، وهكذا المالكي وهكذا الشافعي وهكذا الحنفي.
المقصود لا مانع من الانتساب إلى المذاهب، لكن من دون تعصب، ومن دون جمود على المرجوح إذا عرفت الراجح، إذا كنت طالب علم تفهم فعليك أن تأخذ بالأرجح بما يقتضيه الدليل ولو خالف مذهبك الذي انتسبت إليه أو نشأت عليه، وعليك أن تنظر في مسائل الخلاف بالأدلة، فما قام عليه الدليل وعرفت أنه الأرجح أخذت به، وإلا سألت أهل العلم عما أشكل عليك، سألت من تطمئن إليهم من أهل العلم في علمهم وفضلهم وورعهم واستقامتهم حتى يوضحوا لك ما هو الأرجح في مسائل الخلاف”
التنبيه الرابع: إن الاعتدال والوسطية مع المتون الفقهي بما تقدم تقريره، ونقله عن أهل العلم لا يقبله غال فيها لأنه لغلوه يعده استهانة أو استخفافًا، ولا يقبله جاف لأنه لجفائه يعده غلوًا فيها، والواجب على الجميع الاعتدال والوسطية مع المتون الفقهية.
وقد سبق كتابة ثلاثة مقالات لها ارتباط بهذا الموضوع:
الأول: تناقضات دعاة التعصب الفقهي

تناقضات دعاة التعصب الفقهي

الثاني: متعصبة المذاهب الفقهية والتشديد في شروط الاجتهاد

متعصبة المذاهب الفقهية ،،، والتشديد في شروط الاجتهاد!

الثالث: ورطة متعصبة المذاهب الفقهية مع ذمّ العلماء للتقليد

ورطة متعصبة المذاهب الفقهية مع ذمّ العلماء للتقليد

أسأل الله أن يهدينا جميعًا ويصلحنا ويرزقنا الفقه في الدين، ويجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.


شارك المحتوى: