كيف نجا الإمام أحمد من سيف المعتصم وسوط الواثق ؟


كيف نجا الإمام أحمد من سيف المعتصم وسوط الواثق ؟

إن الصدق أصل البر وأساس الحسنات وجماعها ، والصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق ، والوصف المقوم للإنسان ، الفاصل له عن غيره من الدواب ، والفارق بين الصديقين والشهداء والصالحين وبين المتشبه بهم من المرائين والمسمعين والملبسين ، في الصحيحين عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كن فيه كان منافقا إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان ) .والصدق ركن الشهادة التي ميز الله بها هذه الأمة في قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) ، وركن الأحاديث والأخبار التى بها يقوم الإسلام ، بل هو ركن النبوة والرسالة التى هي واسطة بين الله وخلقه ، وركن الفتيا التى هي إخبار المفتي بحكم الله ، وركن الشهادة الخاصة عند الحكام التى هي قوام الحكم والقضاء والشهادة العامة فى جميع الأمور ، وركن الإقرار الذي هو شهادة المرء على نفسه ، والصدق سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه ، من صال به لم ترد صولته ، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) ، وكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق ، عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( عليكم بالصدق ؛ فإن الصدق يهدى إلى البر ، وإن البر يهدى إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ) متفق عليه واللفظ لمسلم . وسعادة الدارين ، والنجاة من شرهما معلق بالصدق ، فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك من أهلكه إلا بالكذب ، قال تعالى : ( فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) . وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين: سعداء وهم أهل الصدق والتصديق وأشقياء وهم أهل الكذب والتكذيب ، فالسعادة دائرة مع الصدق والتصديق، والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب ، قال الله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .قال العلامة ابن القيم رحمه الله : ( فالصدق بريد الإيمان، ودليله، ومركبه، وسائقه، وقائده، وحليته، ولباسه، بل هو لبه وروحه… فما أنعم الله على عبد بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذى هو غذاء الإسلام وحياته ) ولهذا أمر الله تعالى رسوله أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال : ( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ) وقد أمرنا المولى تعالى بلزوم الصدق ، والانضمام إلى أهله ، والدخول في طائفتهم ، في ما نعتقده وتنطوي عليه ضمائرنا ، ومانتلفظ به وتنطق به ألسنتنا ، ومانعمله من الأعمال بجوارحنا ، في ما بيننا وبين الله ، ومابيننا وبين أنفسنا ، ومابيننا وبين الناس ، قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين ) ، وبين تعالى في آية أخرى شمول الصدق للأعمال الظاهرة والباطنة فقال : (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) .

فمن حقق مراد الله من أمره بالصدق نفعه ذلك في يوم لاينفع فيه مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، كما قال جل ذكره : ( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) وقال سبحانه : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ).

وإليكم ـ أيها الكرام ـ مشهدا عظيما ممن مشاهد الصدق المنجية لأهلها بنص القرآن العظيم في ثلاثة تخلفوا عن غزوة تبوك ، وكان أمرهم موقوفاً إلى أن يقضي الله بما يشاء ( وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاَْمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ولم يكن تخلفهم نفاقاً ولا كراهية للجهاد ولكنهم شُغلوا عند خروج الجيش ،وهم يحسبون أنهم يلحقونه وانقضت الأيام وأيسوا من اللحاق . وسأل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك . فلما رجع صلى الله عليه وسلم ، أتوه وصَدَقوه ، فلم يكلمهم ، ونهى المسلمين عن كلامهم ومخالطتهم ، وأمرهم باعتزال نسائهم ، فامتثلوا وبقُوا كذلك خمسين ليلة ، فهم في تلك المدة مُرْجَون لأمر الله ، وأنزل الله : ( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيم وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) .

وقصتهم في حديث طويل أغر في ( صحيح البخاري ) ؛ فنجاهم الله بالصدق ، وتاب عليهم ، وجعل لمن بعدهم فيهم أسوة حسنة في الصدق مع الله .

غفر الله للإمام أحمد ، ونفعنا بعلمه وسمته ، وجمعنا وإياه في جنته . والحمد لله رب العالمين .

كتبه / عبدالعزيز بن محمد السعيد

 


شارك المحتوى: