فضل الإحسان إلى المحتاجين والمعسرين


 

 

الخطبة الأولى

الحَمْدُ للهِ الكَريمِ المَنَّانِ، ذِي العَطَاءِ والإِحْسَانِ، خَلَقَ الخَلْقَ لِيَعْبدُوهُ، وَأَجْزَلَ عَلَيْهِمْ النِّعَمَ لِيَشْكُرُوهُ، وأَناَرَ قُلُوبَ المُؤْمِنِينَ بِالقُرْآنِ، فَسُبْحانَهُ مِنْ إِلَهٍ عَظِيمِ الشَّأنِ، وَلَهُ الحَمْدُ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيمَانِ والْقُرْآنِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الواحِدُ الدَيَّانُ، تَعَالَى بِمَجْدِهِ، وَتَقَدَّسَ بِكِبْرِيَّائِهِ، وَهُوَ الكَريمُ الرَّحْمَنُ.

أَمَّا بَعْدُ…

عِبَادَ اللَّهِ، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ السَّعادَةَ هَدَفٌ مَنْشودٌ، وَمَطْلُوبٌ جَميلٌ، يَسْعَى إِلَيْهِ البَشَرُ جَمِيعًا، بَلْ كُلُّ مَخْلوقٍ يَسْعَى لِمَا فِيهِ رَاحَتُهُ وَأُنْسُهُ، وَلِلسَّعَادَةِ أَبْوابٌ وَمَفاتيحُ تُسْتَجْلَبُ بِهَا، وَهِيَ كَثيرَةٌ؛ فَمِنْهَا: تَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمُراقَبَتُهُ فِي السِّرِّ وَالعَلَانِيَّةِ، والقِيَّامُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُقُوقِهِ وَحُقُوقِ عِبادِهِ، وَهُنَاكَ بَابٌ مِنْ أَبْوابِ السَّعادَةِ وَتَحْصِيلِ الأُنْسِ يَغْفُلُ عَنْهُ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ سَهْلُ المَنَالِ، قَريبُ المَأْخَذِ، وَعَاقِبَتُهُ جَميلَةٌ، وَأَثَرُهُ سَريعٌ، فَمَا هوَ يَا تَرَى؟

إِنَّهُ الإِحْسانُ إِلَى النَّاسِ، وَتَقْديمُ الخِدْمَةِ لَهُمْ بِمَا يُسْتَطاعُ، فَالْخَلْقُ عِيَّالُ اللَّهِ، وَأَحَبُّ الخَلْقَ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِعيَّالِهِ، والإِحْسانِ إِلَى الخَلْقِ مِنْ تَمامِ الإِحْسانِ فِي عِبادَةِ اللَّهِ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾.

فَسَبَبُ دُخولِهِمْ سَقَرَ، هوَ تَرْكُهُمْ الصَّلاةَ وَتَرْكَهُمْ الإِحْسانَ إِلَى الخَلْقِ بِإِطْعَامِ المِسْكِينِ، وَقَدْ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَنَوَّعَتْ أَرْزَاقُ العِبَادِ وَاخْتَلَفَتْ، والنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ مِنْ حَيْثُ الغِنَى والْفَقْرُ؛ قال تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ﴾.

والمُسْلِمُ إِن اغْتَنَى شَكَرَ، وَإِن افْتَقَرَ صَبَرَ، وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ اِبْتِلاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، وَمِن رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالفُقَرَاءِ أَنْ جَعَلَ لَهُمْ حَقًّا ثَابِتًا وَاجِبًا فِي أَمْوالِ الأَغْنِيَّاءِ، وَهُوَ مَا يُخْرِجُونَهُ مِنْ زَكَواتِ أَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ رَغَّبَ الشَّارِعُ الحَكِيمُ فِي بَذْلِ المَعْرُوفِ والصَّدَقَةِ لِلْمُحْتَاجِينَ، وَوَعَدَ عَلَى ذَلِكَ الأَجْرَ الجَزيلَ والعاقِبَةَ الحَميدَةَ.

عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ لِلْفَقْرِ لَوْعَتَهُ، وَلِلْعَوَزِ حُرْقَتَهُ، وَكَمْ هِيَ مُرَّةٌ تِلْكَ الآلَامُ وَالحَسَرَاتُ التِي يَشْعُرُ بِهَا ذَلِكَ الفَقِيرُ المُعْدَمُ، حِينَ يَرْمِي بِطَرَفِهِ صَوْبَ بَيْتِهِ المُتَواضِعِ المَمْلُوءِ بِالرَّعِيَّةِ وَالعِيَّالِ، وَهُمْ جِيَّاعٌ لَا يَجِدُونَ مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُمْ، وَمَرْضَى لَا يَجِدُونَ مَنْ يُعالِجُهُمْ، كَمْ مِنْ مَدِينٍ أَرْهَقَ ظَهْرَهُ ثِقَلَ الدَّينِ، وَنَاءَ جَسَدَهُ عَنْ تَحَمُّلِ هَذَا الهَمِّ المُؤَرِّقِ، كَمْ مِنْ فَقِيرٍ ضَاقَتْ بِهِ الدُّنْيَا وَانْسَدَّتْ فِي وَجْهِهِ أَبْوابُ الرِّزْقِ، لَوْلَا بَقيَّةٌ بَاقيَةٌ مِنْ الأَمَلِ والرَّجاءِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ.

عِبَادَ اللَّهِ، هَذِهِ قِصَّةٌ واقِعِيَّةٌ حَكَاهَا النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِصَّةٌ عَظِيمَةٌ إِذَا تَأَمَّلَهَا المُسْلِمُ وَجَدَ فِيهَا عِبْرَةً وَفائِدَةً كَبيرَةً، حَاصِلُ هَذِهِ القِصَّةِ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ عَاصِيَّةً بَعِيدَةً عَن اللَّهِ، خَرَجَتْ ذَاتَ يَوْمٍ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ إِذْ رَأَتْ ذَلِكَ الكَلْبَ الذِي اكْتَوَى بِالظَمَأِ والعَطَشِ، رَأَتْ كَلْبًا مُعَذَّبًا، قَدْ أَنْهَكَهُ العَطَشُ والظَّمَأُ، وَقَدْ وَقَفَ عَلَى بِئْرٍ ذَاتِ مَاءٍ، لَا يَدْرِي كَيْفَ يَشْرَبُ، يَلْعَقُ الثَّرَى مِنْ شِدَّةِ الظَّمَأِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ تِلْكَ المَرْأَةُ العَاصِيَّةُ أَشْفَقَتْ عَلَيْهِ وَرَحِمَتْهُ، فَنَزَلَتْ إِلَى البِئْرِ وَمَلَأَتْ خُفَّهَا مِنْ المَاءِ، ثُمَّ سَقَتْ ذَلِكَ الكَلْبَ، وَأَطْفَأَتْ ظَمَأَهُ وَعَطَشَهُ، فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَى رَحْمَتِهَا بِهَذَا المَخْلوقِ، فَشَكَرَ لَهَا مَعْرُوفَهَا، فَغَفَرَ ذُنُوبَهَا، بِشَرْبَةِ مَاءٍ غُفِرَتْ ذُنُوبُهَا، وَبِشَرْبَةِ مَاءٍ سُتِرَتْ عُيُوبُهَا، وَبِشَرْبَةِ مَاءٍ رَضِيَّ عَنْهَا رَبُّهَا، إِنَّهَا الرَّحْمَةُ التِي أَسْكَنَهَا اللَّهُ القُلوبَ، إِنَّهَا الرَّحْمَةُ التِي يَرْحَمُ اللَّهَ بِهَا الرُّحَماءَ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَبْوابَ البَرَكَاتِ وَالخَيْرَاتِ مِنْ السَّمَاءِ، بُعِثَ بِهَا سَيِّدُ الأَوَّلِينَ والْآخَرِينَ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنا فِي كِتابِهِ المُبينِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.

هِيَ شِعارُ المُسْلِمِينَ، وَدِثارُ الأَخْيَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَشَأْنُ المُوَفَّقِينِ المُسَدَّدِينَ، كَمْ فَرَّجَ اللَّهُ بِهَا مِنْ هُمُومٍ، وَكَمْ أَزالَ اللَّهُ بِهَا مِنْ غُمُومٍ، إِنَّهَا الرَّحْمَةُ، إِذَا أَسْكَنَها اللَّهُ فِي قَلْبِكَ فَتْحَ بِهَا أَبْوابَ الخَيْرِ فِي وَجْهِكَ، وَسَدَّدَكَ وَأَلْهَمَكَ، وَأَرْشَدَكَ وَكُنْتَ مِنَ المُحْسِنِينَ.

عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ شَعائِرِ الإِسْلَامِ العَظيمَةِ إِطْعامَ الطَّعَامِ، والْإِحْسانَ إِلَى الأَرامِلِ والْأَيْتَامِ، والتَّوْسِيعَ عَلَيْهِمْ؛ طَلَبًا لِرَحْمَةِ اللَّهِ المَلِكِ العَلّامِ؛ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَالقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ»، [رَوَاهُ البُخاريُّ وَمُسْلِمٌ].

الذِي يُطْعِمُ الأَرْمَلَةَ، وَيُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَيْهَا، وَيَرْحَمُ بُعْدَ زَوْجِهَا عَنْهَا – إِحْسَانًا وَحَنَانًا – كَالصَّائِمِ الذِي لَا يُفْطِرُ مِنْ صِيَّامِهِ، والقائِمُ الذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ قِيَّامِهِ، فَهَنِيئًا ثُمَّ هَنِيئًا لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الرُّحَمَاءِ.

أَحْوَجُ النّاسِ إِلَى رَحْمَتِكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ الأَيْتَامُ وَالمَحَاوِيجُ، فَلَعَلَّكَ بِالقَلِيلِ مِنَ المَالِ تُكَفْكِفُ دُمُوعَهُمْ، وَتَجْبُرُ كَسْرَ قُلُوبِهِمْ، فَيَكُفُّ اللَّهُ نَارَ جَهَنَّمَ عَنْكَ يَوْمَ القِيَّامَةِ؛ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ»، [رَوَاهُ البُخاريُّ].

وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَّ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَتَصَدَّقُ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: «يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهوفَ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: «يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ أَوْ الخَيْرِ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: «يُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ»، [مُتَّفَقٌ عَلَيْهُ].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَّ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا شَكا إِلَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ: «اِمْسَحْ رَأْسَ اليَتِيمِ، وَأَطْعِمْ المِسْكِينَ»، [رَوَاه أَحْمَدُ، وَرِجالُهُ رِجالُ الصَّحيحِ].

فَيَا مَنْ رَامَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ، ارْحَمْ الضُّعَفاءَ، وَأَحْسِنْ إِلَى المُحْتَاجِينَ، وَلَا تَبْخَلْ بِشَيْءٍ مِنْ المَعْروفِ. وَوُجوهِ البِرِّ كَثيرَةٌ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عليه صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فيه الشَّمْسُ»، قالَ: «تَعْدِلُ بيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وتُعِينُ الرَّجُلَ في دابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عليها، أوْ تَرْفَعُ له عليها مَتاعَهُ صَدَقَةٌ»، قالَ: «والْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وتُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ».

عِبَادَ اللهِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيل، فَاسْتَغفِرُوه إنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية

الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولَهُ، الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدَ…

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُرْجَى لِتَفْريجِ الكُرْبَةِ، وَرَفْعِ الشِّدَّةِ فِي العاجِلَةِ، والْفَوْزِ والنَّجاةِ مِنْ أَهْوالِ يَوْمِ القِيَّامَةِ: القِيَّامَ بِحَقِّ اللَّهِ بِالإِيمَانِ بِهِ، والْمُسارَعَة إِلَى رِضْوَانِهِ، واجْتِناب أَسْبابِ سَخَطِهِ، وَبِالإيمانِ بِرَسولِهِ صَلَواتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، واتِّباعِ سُنَّتِهِ، وَتَحْكيمِ شَريعَتِهِ، والْحَذَرِ مِنْ المُخالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ.

وَمِن ذَلِكَ: القِيَامُ بِحُقُوقِ عِبادِ اللَّهِ؛ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ فِي كُلِّ دُروبِ الإِحْسَانِ؛ تَأَسِيًّا بِهَذَا النَّبيِّ الكَريمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذِي قَالَتْ لَهُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ خَديجَةُ رَضِيَّ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا ذَكَرَ لَهَا مَا وَقَعَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ حِرَاءٍ، حِينَ جَاءَهُ جِبْريلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالوَحْيِ، قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ»، [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].

وَفِي هَذِهِ الإِعانَةِ وَالإِكْسَابِ لِلْمَعْدُومِ تَفْريجٌ لِلْكَرْبِ عَنْ المَكْروبِ، وَرَفْعُ كَابُوسِ المِحْنَةِ عَنْ كَاهِلِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ صَنائِعِ المَعْرُوفِ التِي قَالَ فِيهَا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «صَنائِعُ المعروفِ تَقِي مَصارعَ السُّوءِ، والآفَاتِ والهَلَكَاتِ، وأهلُ المَعْرُوفِ فِي الدُّنيَا هُمْ أَهلُ المَعرُوفِ في الآخِرَةِ»؛ [أَخْرَجَهُ الحاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِإِسْنَادٍ صَحيحٍ].

وَفِي هَذَا الإِحْسَانِ أَيْضًا: قِيَامٌ بِحُقُوقِ الأُخُوَّةِ فِي الدِّينِ، التِي ذَكَرَهَا رَبُّنا سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَالمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَّاءُ بَعْضٍ﴾.

وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى»، [رَوَاه البُخَاريُّ ومُسلِمٌ].

وَهَذَا تَعْبيرٌ غَنِيٌّ الدَّلالَةَ عَلَى أَنَّ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ هَذِهِ الأُخُوَّةِ الإِيمَانِيَّةِ: تَفْريجَ الكُرْبَةِ عَنْ المُسْلِمِ، والْوُقوفَ مَعَهُ فِي مِحْنَتِهِ، وَإِعَانَتِهِ عَلَى بَلَائِهِ؛ رَجَاءَ مَا وَرَدَ فِي ثَوابِ ذَلِكَ مِنْ المَوْعُودِ والجَزاءِ الضَّافِي، والْأَجْرِ الكَريمِ، الذِي جَاءَ بَيانُهُ فِي الحَديثِ الذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيهِمَا، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَّ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسولَ اللَّهِ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».

وَزَادَ فِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: «وَمَن يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيه».

وَفِي هَذَا إِشارَةٌ إِلَى أَنَّ الجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ؛ فَجَزاءُ التَّفْريجِ فِي الدُّنْيَا تَفْريجٌ فِي الآخِرَةِ، وَلَا مُسَاواةَ – يَا عِبادُ اللَّهِ – بَيْنَ كُرَبِ الدُّنْيَا وَكُرَبِ يَوْمِ القِيَّامَةِ؛ فَإِنَّ شَدَائِدَ الآخِرَةِ وَأَهْوالَهَا جَسيمَةٌ عَظيمَةٌ، فَكَانَ ادِّخَارُ اللَّهِ تَعَالَى جَزاءَ تَفْريجِ الكَرَبِ الدُّنْيَوِيَّةَ لِيُفَرِّجَ بِهَا عَنْ عِبادِهِ كُرُباتِهِمْ يَوْمَ القِيَّامَةِ، حِينَ يَكونُ الإِنْسانُ أَحْوَجَ مَا يَكونُ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبادِهِ الرُّحَماءَ.

عِبَادَ اللهِ، إنَّ مِنْ تَفْرِيجِ الكُرُبَاتِ إنْظَارَ المُعْسِرينَ، والْمُساهَمَةَ فِي قَضاءِ الدَّيْنِ عَنْ المَدِينِينَ، وَبِالأَخَصَّ مَنْ صَدَرَتْ فِي حَقِّهِمْ أحْكَامٌ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَى إخْوَانِهِمْ الكِرامِ نَظَرَ المُشْفِقِ الرَّحِيمِ، وَمِن فَضْلِ اللَّهِ أَنْ وَفَّقَ وُلَاةَ أُمُورِنَا فِي تَخْصِيصِ مِنَصَّةٍ رَسْمِيَّةٍ بِاسْمِ (إِحْسَان) تَضْمَنُ إِيصَالَ المُسَاعَداتِ لأصْحَابِها، فَجَزَاهم الله خَيْرَ الجَزاءِ .

اللهُمَّ أعزَّ الإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الـشِّـرْكَ والمُـشـْرِكِين، وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّين.

اللهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِح أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا.

اللهُمَّ وَفِّقْ جَمِيعَ وُلَاةِ المُسْلِمِينَ لِلعَمَلِ بِكِتَابِكَ، واتِّباعِ سُنَّةِ نَبِيِّكَ، وَتَحْكِيمِ شَرْعِكَ.

اللهُمَّ وَفِّق إمَامَنَا خَادِمَ الحَرَمَيْنِ لِما فِيه عِزُّ الإِسْلَامَ وَصَلَاحُ المُسْلِمِين.

اللهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَإِخْوَانَه وَأَعْوَانَه لِما تُحِبُهُ وتَرْضَاه.

اللَّهُمَّ احْفَظْ جُنودَنا المُرَابِطِينَ وَرِجالَ أَمْنِنَا، وَسَدِّدْ رَمْيَهُمْ يَا رَبَّ العالَمينَ.

اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالحَوْثِيِّينَ المُفْسِدِينَ، وَبِاَلْخَوارِجِ المَارِقينَ، وَبِجَميعِ أَعْداءِ الدّينِ.

اللَّهُمَّ اِكْفِنَا شَرَّهُمْ بِمَا شِئْتَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَدْرَأُ بِكَ فِي نُّحورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرورِهِمْ.

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتَك، وَتَحَوُّل عَافِيَتك، وَفُجَاءَة نَقِمَتِك، وَجَمِيعِ سَخَطِك.

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ البَرَصِ وَالْجُذَام وَالْجُنُونِ وَسَيِّئ الأَسْقَام.

عِبَادَ اللَّهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾.

فَاذْكُرُوا اللَّهَ العَظيمَ الجَليلَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، واللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

جمع وتنسيق/ عبد الله بن مـحمد بن حسين النجمي

إمام وخطيب جامع الحارة الجنوبية بالنجامية بمنطقة جازان

فضل الإحسان إلى المحتاجين والمعسرين – خطبة جمعة للشيخ عبدالله النجمي 21-04-1443 هـ


شارك المحتوى: