المداومة على العبادة من المقاصد الشرعية


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي أرسلَ رسولَهُ بالهُدَى ودينِ الحقِّ ليُظهِرَهُ على الدِّينِ كُلِّهِ، وكفَى باللهِ شهيدًا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدُه لا شريكَ لهُ، إقرارًا بِه وتوحيدًا، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تسليمًا مزيدًا.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أمَّا بعدُ:

فإنَّ الأعمالَ الصالِحةَ سببٌ لدخولِ الجِنانِ والنَّجاةِ مِن النِّيرانِ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: 25] وقالَ سبحانَهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [الكهف: 107] وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: 7].

والأعمالُ الصالِحَةُ ما بينَ فعلِ واجبٍ ومستحبٍّ، أو تركِ مُحرَّمٍ ومكروهٍ، فليسَ مِن الدِّينِ إذا عَلِمَ العبدُ مكروهًا تساهَلَ وفعلَهُ، أو مستحبًّا تساهَلَ فترَكَهُ، بَلْ الأعمالُ الصالحةُ هي القيامُ بالواجباتِ والمستحبَّاتِ، وتركُ المحرماتِ والمكروهاتِ.

وإنَّ مِن مقاصِدِ الشريعةِ للمتعبِّدينَ أنْ يُداوموا ويستمِرُّوا على أعمالِهم الصالحةُ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن عائشةَ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ»، وقالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ. وفي مسلمٍ قالَتْ: وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ.

فالمُداومةُ على الأعمالِ الصالحةِ مِن مقاصِدِ الشريعةِ للمُتعبِّدينَ، فلنعوّدْ أنفُسَنا الأعمالَ الصالحةَ، ونأطرْها على الحقِّ أطرًا، بأنْ تُداوِمَ على الأعمالِ الصالحةِ، ما بينَ واجباتٍ ومستحبَّاتٍ فتُدَاومَ على أداءِ الصلواتِ الخمسِ في المساجدِ، تُداوِمَ على التبكيرِ لصلاةِ الجمعةِ، تُداوِمَ على صلاةِ الرَّواتِبِ، تُداوِمَ على صلاةِ الضُّحى، تُداوِمَ على قراءةِ القرآنِ، تُداوِمَ على أذكارِ الصباحِ والمساءِ، تُداوِمَ على صيامِ ثلاثةِ أيامٍ مِن كُلِّ شهرٍ على أقلِّ تقديرٍ، تجعلَ لها وردًا تداومُ عليهِ كُلَّ يومٍ، كَمَا ثبتَ عندَ ابنِ سعدٍ أنَّ أبا هريرةَ -رضي الله عنه- كانَ يُسبِّحُ كُلَّ يومٍ اثنتَيْ عشرةَ ألفَ تسبيحةٍ.

تُدوِمَ على الصدقةِ، تُداوِمَ على طاعاتٍ مختلفةٍ، فيكونُ العبدُ ليلِهَ ونهارِهَ مُجاهِدًا نفسَهُ في القيامِ على العباداتِ اليوميَّةِ، والعباداتِ الأسبوعيَّةِ، والعباداتِ الشهريَّةِ، والعباداتِ السنويَّةِ، إلى غيرِ ذلكَ مِمَّا يتعبَّدُ بِه ربَّهُ سبحانَهُ ثبت عند وكيعٍ في الزهدِ أن عبدَ اللهِ بنِ مسعودٍ قالَ: ” تَعَوَّدُوا الْخَيْرَ، فَإِنَّ الْخَيْرَ بِالْعَادَةِ”

إنَّ الأيَّامَ تَمضِي والسنينَ تَنقضي، فإنْ لم نُجاهِدْ أنفُسَنا على الطاعةِ ندمْنا، ويومَ القيامةِ خسرْنا، فاتَّقوا اللهَ وراجِعوا أنفُسَكُمْ، اتَّقوا اللهَ والزموا أنفسَكم بطاعةِ اللهِ والمُداوَمَةِ على ذلكَ.

قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].

اللهُمَّ اجْعَلْنا مِن المُتعبِّدينَ، والسائرينَ على ما يُرضيكَ يا ربَّ العالمينَ، اللهُمَّ أدخِلْنَا جِنانَكَ ونَجِّنَا مِن نيرانِكَ.

أقولُ ما قُلْتُ، وأستغفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ فاستغفِروهُ، إنَّهُ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:

فإنَّنا في هذِهِ الحياةِ في معركةٍ دائمةٍ بينَ ابتِغاءِ اللهِ والدَّارِ الآخرةِ، ونفسٍ أمَّارةٍ بالسُّوءِ، وشيطانٍ لعينٍ أقسَمَ باللهِ أنْ يُضِلِّ عِبادَ اللهِ: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: 82-83] اللهُمَّ اجْعَلنَا مِن المُخْلَصينَ يا رَبَّ العالمينَ.

فلَا بُدَّ مِن إدراكِ هذِهِ المعركةِ، وإدراكِ هذا الابتلاءِ، وإدراكِ هذا الامتحانِ، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2].

وإنَّ هناكَ صوارفَ تصرِفُ عن الطاعةِ، وأمورًا تُضعِفُ عن القيامِ بما يُرضي اللهَ، مِنها:

الأمرُ الأولُ: الغفلةُ، وما أدراكَ ما الغفلةُ، أنْ يكونَ العبدُ سارِحًا مارِحًا في هذِهِ الدُّنيا، يسرَحُ في دُنياهُ، ينومُ ويقومُ على دُنياهُ، لا يتفكَّر إلا في دُنياهُ، في المَلَاهي غارقٌ وفي الملذات هالكٌ وفي الأماني هائمٌ، والغفلةُ صارِفٌ كبيرٌ عَن طاعةِ اللهِ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 205] وقالَ سبحانهُ: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ [الكهف: 28].

وَعِلاجُ الغفلةِ اليَقَظَةُ، ومُراجَعَةُ النَّفْسِ ومُحاسَبَتُها، وأخذُ العِبرَةِ مِمَّنْ ماتُوا وهَجَمَ عليهِم هادِمُ اللذَّاتِ ومُفرِّقِ الجمَاعَاتِ، أخذُ العِبرَةِ مِن سُرعَةِ الأيِّامِ ومُضِيِّ الزَّمَانِ، أخذُ العِبرَةِ مِن مُضيِّ العُمُرِ وانقِضائِهِ، ما أسرَعَ ذلكَ لو تَدَبَّرنا.

الأمرُ الثاني: التعلُّقُ بالدُّنيا، التعلُّقُ بالمالِ، التعلُّقُ بزينَةِ الدُّنيا، مِمَّا زُيِّنِ وحُسِّنَ ابتِلَاءً وامتِحانًا لَنَا، قالَ سبحانه: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ أي: أعجبَ الزُّرَّاعَ نَبَاتُهُ ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد: 20].

اللهُمَّ ارْزُقنا العِبرَةَ يا رَبَّ العالمينَ، اللهُمَّ اجْعَلْنَا مِن المُعتَبِرِينَ، اللهُمَّ اجْعَلْنَا مِن المُقبِلِينَ عليكَ، اللهُمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِن التعلُّقِ بالدُّنيا.

ثبتَ في البخاريِّ ومسلمٍ عن عمروِ بنِ عوفِ  أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ -وتأمَّلوا ما قالَ وَقَارِنُوهُ بأحوالِنَا-: «فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».

اللهُمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِمَّا يُسخِطُكَ، ونسألُكَ أنْ نكونَ مِن عِبادِكَ الصالِحينَ، وفي الطَّاعاتِ مِن عِبادِكَ المُسابِقِينَ.

وقومُوا إلى صلاتِكُم يرْحَمْكُم اللهُ.

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

المداومة على العبادة من المقاصد الشرعية


شارك المحتوى:
0