عجزك عن إصلاح ذاتك، لا تجعله تُهمة للآخرين


“عجزك عن إصلاح ذاتك، لا تجعله تُهمة للآخرين “

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده؛ أما بعدُ:

فإن كل إصلاح ينبغي أن يبدأ بإصلاح الإنسان لنفسه وحاله، وتدارك تقصيره، ومن عجز أو تكاسل عن إصلاح نفسه، فلا يجعل من ذلك سُبَّة لغيره، فهذا دليل عجز آخر ، ويدخل في هذا كثير من العاجزين عن إصلاح الذات، وضحايا النفس والشيطان ليكونوا متوالية؛ عجز يتبعه عجز، فيسبب عجزاً جديدا، ليصبح صخرة تتدحرج فتؤذي الطريق.

إنه العجزٌ الذي يوّلد الفوضى في كل مكان ويبحث عنها، ويسعى في بثها، لُيخفي عيبه ونقصه ويواريه؛ باختلاق أحداث تُشغل الناس عن تقصيره وعجزه عن إصلاح وعلاج الخلل في جسده وروحه.

فإياك.. إياك أن تُشغل من حولك سواء في البيت الصغير أو جهة العمل أو كافة البلاد والعباد، بتقصيرك، وتصنع منها إثارة وتُهمة لمن حولك!!

ولذا فاعلم يا عبد الله أن الأمور كلما ضاقت بك في هذه الحياة الدنيا بسبب مصيبة أو مشكلة تعانيها، أو كانت العلة أموراً أخرى، فإن مردها لنفسك، وتقصيرك في حق الله. قال الله تعالى :{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم }[الأنفال:53].

فما تعيشه من معاناة نفسية، وإشكلات واضطرابات في بيتك الخاص – الصغير -: أسرية؛ زوجية ؛ خلل في الأبناء، أو خارج بيتك مع جارك أو تدني علاقاتك الاجتماعية، والخروج من ذلك بآثار تُشعرك بالخيبة والإحباط، بسبب غُربتك وعدم تلاؤمك مع البيئة التي تعيش فيها، وهي ملازمة لك لمرورها أمام ناظريك ليل نهار، فما السبب و ما الحيلة؟!

وأنظر إلى ما في يدك، وعدم تيّسر رزقك وسهولة طلبه، فمن كان سببا في تحوله عسيراً؟! – وهو ما يسمونه بالوضع الاقتصادي -، وإلى معاناتك من ضنك العيش وشدة العوز، وضلع الدين، ما سبب ذلك ؟

هل هي السياسة فقط؟

هل هو تقصير الحاكم فقط؟

قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض }[الأعراف: 96]، وقد روى الإمام أحمد في “المسند” (5/ 183)، وابن ماجه في “سننه” (4105) واللفظ له بإسناد صحيح من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من كانت الدنيا همه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِب له، ومن كانت الآخرة نِيّته، جمع الله له أمره، وجعل غِناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة “.

وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]؛ قال الشوكاني في فتح القدير: أي: ما أصابكم من المصائب كائنة ما كانت، فبسبب ما كسبت أيديكم من المعاصي. اهـ

وقال ابن سعدي في تفسيره: يُخبر تعالى: أنه ما أصاب العباد من مصيبةٍ في أبدانهم وأموالهم وأولادهم، وفيما يُحبون ويكون عزيزاً عليهم، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات، وأن ما يعفو الله عنه أكثر، فإن الله لا يظلم العباد، ولكن أنفسهم يظلمون. اهـ

ولو نظرنا إلى حال الناس وما يحدث بينهم من السباب والخصومات والحروب، سنجد شيئا مذهلاً من الاضطرابات والخلافات بين البلدان عامة، وفي داخل البلد الواحد خاصة؛ بين الحاكم والمحكوم، وإن ما يشاهد من الخلاف والتذمر الدائم بين الناس وملوكهم وحكامهم وولاة أمرهم، أصبح مؤلوفاً، رغم خلافه للشرع، ومعلوم أن الخلاف كله شر، فما سببه ومن يحمل وزره، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَال}[ الرعد:11]،

وكذلك لنعلم أن من معاناة العباد، عدم التوفيق إلى الخير والمعرفة والعلم، والغرق في الجهل والظلم، وهما الباب لكل شرٍ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (14/ 38): [والإنسان خلق ظلوماً جهولا، فالأصل فيه عدم العلم، وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله، وعدل فى محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وأكله وشربه ونومه ويقظته، فكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافى جهله، وعدل ينافى ظلمه، فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل، والعدل المفصل، و إلا كان فيه من الجهل والظلم؛ ما يخرج به عن الصراط المستقيم. اهـ

وكذلك المعوقات التي تعتري العبد لتكون حاجزاً يمنعه عن الإقبال على العبادات والطاعات، ومنه العجز والكسل أيضا، وقد تعوَّذ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لما رواه البخاري في “صحيحه” (6369) من طريق عمرو بن أبي عَمْرو قال : سمعت أنساً قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحَزَنِ ، والعجْز والكسل، والجُبْنِ والبخل، وضلع الدين ، وغبلة الرجال”

وقد قال الإمام ابن قيّم الجوزيّة في “زاد المعاد” (4/ 326): [ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه، وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه، ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام، والأمراض، والأسقام، والطواعين والقحوط، والجدوب، وسلب بركات الأرض، وثمارها، ونباتها، وسلب منافعها، أو نقصانها أمورًا متتابعة يتلو بعضها بعضًا، فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتف بقوله تعالى‏:‏ ‏{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ }‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41]‏، ونزّل هذه الآية على أحوال العالم، وطابق بين الواقع وبينها، وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان، وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة، بعضها آخذ برقاب بعض، وكلما أحدث الناس ظلمًا وفجورًا، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وأهويتهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم‏.‏ ولقد كانت الحبوب من الحنطة وغيرها أكثر مما هي اليوم، كما كانت البركة فيها أعظم‏.‏ وقد روى الإمام أحمد بإسناده أنه وجد في خزائن بعض بني أمية صرة فيها حنطة أمثال نوى التمر مكتوب عليها هذا كان ينبت أيام العدل‏.‏ وهذه القصة، ذكرها في مسنده ، على أثر حديث رواه‏.‏ وأكثر هذه الأمراض والآفات العامة بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة، ثم بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم، حكمًا قسطًا، وقضاء عدلًا، وقد أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هذا بقوله في الطاعون ‏(‏إنه بقية رجز أو عذاب أرسل على بني إسرائيل‏)‏‏.‏ وكذلك سلط الله سبحانه وتعالى الريح على قوم سبع ليال وثمانية أيام، ثم أبقى في العالم منها بقية في تلك الأيام، وفي نظيرها عظة وعبرة‏.‏ وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بد منه، فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سببًا لمنع الغيث من السماء، والقحط والجدب، ..وجعل ظلم المساكين، والبخس في المكاييل والموازين، وتعدي القوي على الضعيف سببًا لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا، ولا يعطفون إن استعطفوا، وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم، فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها، فتارة بقحط وجدب، وتارة بعدو، وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامة، وتارة بهموم وآلام وغموم تحضرها نفوسهم لا ينفكون عنها، وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم، وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزًا، لتحق عليهم الكلمة، وليصير كل منهم إلى ما خلق له، والعاقل يسيّر بصيرته بين أقطار العالم، فيشاهده، وينظر مواقع عدل الله وحكمته، وحينئذ يتبين له أن الرسل وأتباعهم خاصة على سبيل النجاة، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون، وإلى دار البوار صائرون، والله بالغ أمره، لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره، وبالله التوفيق ‏ .اهـ

{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ }

وفي الختام نعيد ما بدأنا به من تذكير لأنفسنا بقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]،

وقد قال تعالى لعباده: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ۚ ذَٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ۖ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 37-45].

اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منه وما بطن، والحمد الله رب العالمين.

كتبه . عبد العزيز بن ندى العتيبي

11 من جمادى الآخر 1435

يوافق 11/ 4/ 2014 (بالإفرنجي)

Ahl_alathar@hotmail. Com


شارك المحتوى: