خطورة التساهل في الفتوى


 

الخطبة الأولى

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا) (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا)، أما بعد:

فإنّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم -، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، أما بعد: أيها المؤمنون:

أخرج البخاري في الصحيح عن عقبة بن عامرٍ – رضي الله عنه – أنه قال: (تعلموا العلم قبل الظانّين)، قال النووي – رحمه الله -: (معناه: تعلموا العلم من أهله المحققين الوَرِعين قبل ذهابهم، ومجيء قومٍ يتكلمون في العلم بمثل نفوسهم وظنونهم التي ليس لها مستندٌ شرعيّ).

لذا – أيها المؤمنون- فإننا نجدُ أنّ سلفَ الأمة وأئمةَ الدين والملةِ علموا أهميةَ تحصيلِ العلم من مصادره الأصيلة: الكتابِ والسنةِ بفهم سلف الأمة، ونصحوا الأمة في ذلك.

وقد حفظ الله هذا الدين بأن سخّر هؤلاء الأئمة لحفظه، ودفع كذب الكاذبين عليه، وإحداث المحدثين فيه، قال تعالى: (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون).

والأديان السابقة – أيها المؤمنون- لم يتعهد الله بحفظها، ولم يهيئ لها من يقوم برعايتها وصيانتها؛ لذا لم تسلم من التحريف، فالحمد لله أولًا وآخرًا.

أيها المؤمنون:

إنّ من أعظم وأخطر ما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم: التساهل في الإقدام على الفتوى.

وإنّ مما يقتضيه العقل، وتقتضيه الفطرة السليمة، وكذلك: الشرع هو أن لا يتكلم الإنسان إلا بما يعرف، لا يهرف بما لا يعرف، وقديمًا قيل: من تكلّم في غير فنّه أتى بالعجائب، وإنّ من العجب العجاب أن يُرى ويُشاهد في كثير من المجالس اليوم من يتكلم في الطب مثلًا ممن لا يحسنه، وليس له علمٌ به، ثم يُنكر عليه أشد الإنكار، ويُوبّخ أشد التوبيخ، ولا غرابة في ذلك، ولكنّ الغريبّ أنه إذا جاء من يتكلم في أمر الدين ومسائل الحلال والحرام ممن ليس هو بأهلٍ لذلك لا تجد من ينكر عليه إلا من رحم الله، وهذا والله عجيب!

عباد الله:

لقد جاء الوعيدُ والتحريم الشديدُ لمن أقدم على القول على الله بلا علم، وأدلة ذلك كثيرة جدًا في كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلكم:

قول الله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)، قال ابن القيم – رحمه الله -: (حرّم سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل وجعله في المرتبة العليا منها).

وقال تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحيَ إليّ ولم يوحَ إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون)، قال العلّامة السعديُّ – رحمه الله -: (يقول تعالى: لا أحد أعظم ظلمًا ولا أكبر جرمًا ممن كذب على الله بأن نسب إلى الله قولًا أو حكمًا، وهو تعالى بريءٌ منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق؛ لأنّ فيه من الكذب وتغيير الأديان أصولِها وفروعِها، ونسبة ذلك إلى الله ما هو من أكبر المفاسد).

وقال تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إنّ الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون).

قال سهل التستري – رحمه الله -: (ما أحدث أحدٌ في العلم شيئًا إلا سئل عنه يوم القيامة، فإن وافق السنةَ سلِم، وإلا فهناك العطب).

عصمنا الله وإياكم من ذلك.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني الله وإياكم بما فيما من الآيات والحكمة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

إنّ للإقدام على هذه الجريمة، والتساهل فيها – أعني: جريمة القول على الله بغير علم – أسبابٌ كثيرةٌ، من أهمها:

أولًا: عدم استشعار مسؤولية الفتيا، والجهلُ بخطر التساهل فيها، وعدمُ إدراك ما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة.

ثانيًا: الجهل، وعدم دراسة الأحكام الشرعية دراسةً منهجية مؤصلةً من قبل كثيرٍ ممن يتصدرون للفتيا، وإنما الاعتماد على الثقافة العامة، والدراسة السطحية للمسائل، وهذا وحده ليس بكافٍ، فقد كان لدى الصحابة أضعاف تلك المعرفة، ومع ذلك لم يكونوا يجترؤون على الفتيا، وإنما كانوا يتدافعونها؛ حرصًا منهم على السلامة، وحذرًا من خطر الفتوى.

ثالثًا من الأسباب التي أدت إلى التساهل في الفتيا: حب الظهور والشهرة لدى مدّعي العلم، وأنصاف المتفقهين، فتجد أنّ بعضهم يسعى لبث الأقوال الشاذة، والآراء الضعيفة التي لا تستند على أدلة صحيحة؛ رغبةً في إبراز نفسه، وتضليل غيره، وربما أُثني عليه بأنه معتدل، وأنه يمثّل المنهج الوسطي، وغير ذلك من العبارات البرّاقة، وهو بعيدٌ عنها كل البعد.

وإنّ من صور التساهل في الفتوى: تصدي كثير من هؤلاء لأمور تتعلق بإثارة الفتن، وتهييج الشعوب، وتحريضهم على ولاتهم، والإفتاء بجواز الخروج عليهم؛ الأمر الذي ترتب عليه مفاسد الدين والدنيا.

روى أبو داود أنّ رجلًا كان به جُرحٌ في رأسه، فأفتاه بعض أصحابه بأن يغتسل، فاغتسل، فمات، فلما بلغ ذلك النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: (قتلوه، قتلهم الله)، فكيف بمن هلكت بفتواه شعوب؟!

ومن صور التساهل في الفتوى أيضًا: أنّ بعضهم يرى إباحة الغناء والمعازف، وآخر يتساهل في أمر الحجاب، وآخر وآخر، مع أنّ ذلك كلَّه قد جاءت الشريعة بالنهي عنه، والتحذير منه، ونصوص ذلك كثيرة، ولكن ليس هذا محل بسطها.

وأخيرًا: ألا يعلم من يتساهل في أمر الفتوى، ويُقدم على التوقيع عن رب العالمين أنه ربما أضلّ أقوامًا، فلربما استمروا بالأخذ بفتواه إلى أن يموتوا، بل ربما نشروا هذه الفتوى إلى غيرهم، فيستمر الإزرُ والإثمُ إلى قيام الساعة (ليحملوا أوزارهم كاملةً يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون).

ثم صلوا وسلموا على نبينا محمد ، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: (إنّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا) اللهم صل وسلم على يا رب العالمين، وارض اللهم عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل من خذل الدين.

اللهم احفظ ولاة أمرنا، ووفقهم بتوفيقك وأيدهم بتأييدك واجعل عملهم صالحًا في رضاك، اللهم هيء لهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه يا رب العالمين.

اللهم انصر جنودنا المرابطين على الحدود والثغور وفي الداخل يا قوي يا عزيز.

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم.

والحمد لله رب العالمين.

 

أعدها

بدر بن خضير الشمري

للملاحظات: الرجاء التواصل عبر الجوال، رقم:

0533646769

خطبة بعنوان(خطورة التساهل في الفتيا)


شارك المحتوى: