جرم الغيبة والنميمة


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي أوجبَ عَلَى المؤمنينَ أنْ يكونُوا إخوَةً يتعاوَنونَ على البِرِّ والتَّقوَى، وَيَحمِي بَعضُهُم بَعضًا في نفسِهِ ومالِهِ وعِرْضِهِ ليَصِلُوا بذلِكَ إلى الأخلاقِ العُليا، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لَهُ، إلهَ الأرضِ والسماءِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ المصطفى، وخليلُهُ المجتَبَى صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أهلِ البِرِّ والوفاءِ، وعلى التَّابعينَ لهُم بإحسانٍ ما تتابع القطرُ والنَّدَى وَسَلَّم تسليمًا.

أمَّا بعدُ:

فإنَّ جارِحَةَ اللسانِ سهلةُ الاستعمالِ، ومَزِلَّةُ أقدامٍ، فإذا استُعمِلَتْ في الخيرِ رَفَعت العبدَ درجاتٍ عالياتٍ، وإذا استُعمِلَتْ في الشرِّ هَوَتْ بالعبدِ دَرَكاتٍ سافِلاتٍ، ومِن استعمالِها في الشرِّ: الغيبةُ والنميمةُ.

أما الغيبةُ: فهيَ ذِكرُ المسلمِ بما يَكرَهُ مِمَّا هوَ فيهِ، فإنْ لم يكُن فيهِ فهو بُهتانٌ؛ لأنهُ جَمعٌ بينَ الغيبةِ والكذبِ.

والغيبةُ مِن الموبقاتِ والمُهلكاتِ؛ لأنها كبيرةٌ مِن كبائرِ الذنوبِ بالإجماعِ كما حكاهُ القرطبيُّ في تفسيرهِ، قالَ تعالى: ﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12].

فَقَدْ جمَعَت الآيةُ بينَ التذكيرِ بأنَّ المُغتابَ أخوكَ، فكيفَ تغتابُهُ؟

ثُمَّ شَبَّهَت الغيبةَ بأكلِ لحمِ المسلمِ، بَلْ بأكلِ لحمِهِ ميِّتًا !!

إنَّ للغيبةِ دوافِعَ وأسبابًا،

مِنها: الحَسَدُ، فما أكثرَ الغيبةَ مِن الحاسِدِينَ -والعِياذُ باللهِ-

ومِنها: مُجامَلَةُ الناسِ في مجالِسِهِم،

يا للهِ !

كيفَ يُسخِطُ عاقلٌ ربَّهُ بمُجامَلَةِ الناسِ ومُؤانَسَتِهِم؟

ومِنها: أنْ يُريدَ الإنسانُ رفعَ نفسِهِ وتعظيمَها،

عجبًا لهذا المُغتابِ إنهُ لمَّا أفلَسَ لُمْ يجِد سبيلًا لرفعِ نفسِهِ إلا بالقدحِ في المسلمينَ،

ومِنها: السُّخرِيةُ والمِزاحُ،

يا سبحانَ اللهِ، وهل انتهَى المِزاحُ إلا في الغيبةِ؟

أيُّها الناصِحُ لنفسِهِ: جاهِد نفسَكَ على تركِ الغيبةِ ولَا تَغُرَّنَّكَ طَلَاوَتُها ولَذَّتُها، فإنَّ الانسِياقَ ورَاءَ أهواءِ النفسِ ولذَّاتِها في مُخالَفَةِ الشريعةِ سببٌ لحِرمانِ الجِنانِ، قالَ سبحانهُ: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 40-41].

إنَّ مِمَّا يُعينُ على تركِ الغيبةِ: أنْ يعلمَ المُغتابُ أنهُ بالغيبةِ يُهدي حَسَناتِهُ لِمَن اغتابَهُ، رُويَ عن الحسنِ البصريِّ -رحمه الله تعالى- أنهُ قيلَ لهُ: إنَّ فُلانًا قَدْ اغتَابَكَ، فَبَعَثَ إليهِ طَبَقًا مِن الرُّطَبِ، وَقَالَ: بَلَغَني أنَّكَ أهدَيْتَ إليَّ حَسَنَاتِكَ، فَأَرَدتُ أنْ أُكافِئَكَ عَلَيها، فاعذُرْنِي، فإنِّي لا أقدِرُ أنْ أُكافِئَكَ بِهَا على التَّمَامِ.

ثُمَّ ليعلَمَ المُغتابُ أنهُ عِندَ التفوُّهِ بالغيبةِ يُسخِطُ جَبَّارَ السماواتِ والأرضِ، وسَخَطُهُ سببٌ لحِرمَانِ خيرِ الدُّنيا والآخرةِ في النفسِ والوَلَدِ والزوجِ والمالِ، وإنَّ مِمَّا يُعينُ على تركِ الغيبةِ التَّناصُحَ والإنكارَ بالتي هيَ أحسنُ لِلَّتي هيَ أقومُ روَى الإمامُ مسلمٌ عَن أبي رُقَيَّةَ تَميمُ بنِ أوسٍ الدَّارِيِّ -رضي الله عنه- أنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنا: لِمَن؟ قالَ: «لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسُولِهِ ولِأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ»، قالَ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾ [آل عمران: 110].

أيها المسلمونَ، إنَّ إثمَ الغيبةِ يعظُمُ، وجُرْمَهَا يُشْنَعُ إذا كانَ في العلماءِ والحُكَّامِ؛ لأنَّ مَفسَدَةَ انتِقاصِهِم كبيرةٌ على الدُّنيا والدِّين، فكُنْ حَذِرًا.

وفي مُقابِلِ ذلكَ الكلامُ في الآخرينَ لمصلحةٍ دينيَّةٍ أو دُنيوِيَّةٍ ليسَتْ غيبةً بإجماعِ السَّلِفِ، بَلْ نصيحةٌ، فإنَّ الشريعةَ أجازَت الإخبارَ بمساوِئ الخاطِبِ إذا خَطَبَ امرأةً وسُئلَ أحدٌ عنهُ، وهذهِ مصلحةٌ دنيويَّةٌ خاصَّةٌ، فَجَوازُ ذِكرِ المساوِئ لمصلحةٍ دينيَّةٍ عامَّةٍ أو دنيويَّةٍ عامَّةٍ أولَى وأولَى.

روَى الإمامُ مسلمٌ عَن فاطمةَ بنتِ قيسٍ -رضي الله عنها- ذَكَرَت لِلنبيِّ ﷺ أنَّ مُعاوِيَةَ بْنَ أبِي سُفْيانَ، وأبا جَهْمٍ خَطَبانِي، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أمّا أبُو جَهْمٍ، فَلا يَضَعُ عَصاهُ عَنْ عاتِقِهِ، وأمّا مُعاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مالَ لَهُ، انْكِحِي أُسامَةَ بْنَ زَيْدٍ» …الحديثَ.

ومِن ذلكَ التحذيرُ مِن الجماعاتِ الضَّالَّةِ كالليبراليينَ والعلمانيينَ والإخوانِ المسلمينَ، وجماعةِ التبليغِ، أو التحذيرُ مِن رؤوسِهِم ودُعاتِهِم، فإنهُ واجبٌ دينيٌّ يُثابُ عليهِ صاحِبُهُ.

اللهُمَّ عَلِّمْنَا ما ينفَعُنا وانفَعْنَا بِما عَلَّمْتَنَا.

أقولُ ما قُلْتُ، وأستَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُم فاستَغْفِروهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:

فَمِن آفاتِ اللسانِ المُهلِكاتِ النَّمِيمةُ، وهيَ نقلُ الكلامِ بينَ الناسِ على وجهِ الإفسادِ، قالَ تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم: 11] ورَوى الشيخانُ -واللفظُ لمسلمٍ- عن حُذَيفةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمّامٌ».

وتَأكَّد أنَّ مَن نَمَّ إليكَ فإنهُ يَنُمُّ عليكَ، واسْتَشعِرْ عظيمَ وِزرِهَا عندَ اللهِ في نفسِها، ثُمَّ فيما تَجُرُّ مِن بلاءٍ وشحناءٍ وفُرقةٍ وَتَهاجُرٍ بينَ المسلمينَ حتَّى قالَ يحيى بنُ أبي كثيرٍ -رحمه الله تعالى-: ” النَّمّامُ يُفْسِدُ فِي ساعَةٍ ما لا يُفْسِدُ السّاحِرُ فِي شَهْرٍ “.

عِبادَ اللهِ، ليسَ مِن النَّميمةِ التبليغُ عنِ المُفسدينَ كالخوارِجِ الإرهابيينَ؛ لأنَّ هذا نقلٌ للكلامِ على وجهِ الإصلاحِ، وقَد فعلَ هذا الصحابةُ -رضي الله عنهم- كما أخبرَ الصحابيُّ الجليلُ عوفٌ بنِ مالكٍ النبيَّ ﷺ عَمَّا قالَهُ المنافِقُ فيهِ وفي المؤمنينَ، فوَجَدَ القرآنَ قد سبَقَهُ.

فإيَّاكُم والخَلْطَ بينَ الغيبةِ المُحرَّمةِ والكلامِ في الآخرينَ لمصلحةٍ دينيَّةٍ أو دُنيويَّةٍ، لاسيَّما إذا كانَ يُفسِدُ باسمِ الدِّينِ، فإنَّ الاغترارَ بِهِ كبيرٌ، وإيَّاكُم أن تَخْلِطوا بينَ النَّميمةِ المُحرَّمةِ -وهيَ نقلُ الكلامِ على وجهِ الإفسادِ- وبينَ نقلِ الكلامِ على وجهِ الإصلاحِ، فإنهُ نصيحةٌ وليسَ مُحرَّمًا.

اللهُمَّ اهدِنا فيمَن هَديتَ، وعافِنا فيمَن عافَيتَ، وتَوَلَّنَا فيمَن تولَّيتَ، وبارِك لَنَا فيمَا أعطيتَ، وقِنا شَرَّ ما قَضَيتَ.

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

شارك المحتوى:
0