المختصر في أحكام المسح على الخفين


الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ فاطرِ السمواتِ والأرضِ، الحمدُ للهِ الذِي يسَّرَ دينَه، وَأرادَ بنَا اليسرَ، والصلاةُ والسلامُ علَى رسولِ اللهِ الذِي قَالَ: يسِّرَا ولا تعسِّرَا

وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لَا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

أمَّا بعدُ:

فقدْ أخرجَ الإمامُ أحمدُ عنْ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهمَا- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «بُعثتُ بالحنيفيةِ السمحةِ»، قالَ الإمامُ ابنُ القيمِ -رحمهُ اللهُ تعالَى-: الحنيفيةُ أيْ: فِي التوحيدِ، والسمحةُ: أيْ: فِي الأحكامِ.

ومنْ سماحةِ شريعةِ محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ ﷺ أنَّ الشريعةَ أجازتِ المسحَ علَى الخفينِ والجوربينِ، وتكاثرتِ الأحاديثُ فِي بيانِ جوازِ المسحِ علَى الخفينِ، قالَ الحسنُ البصريُّ: روَى المسحَ علَى الخفينِ سبعونَ نفسًا.

والخفُّ مَا كانَ منَ الجلدِ، أمَّا الجوربُ مَا كانَ منْ غيرِ الجلدِ، ومَا يُسمَّى فِي زماننَا (شرابًا) فإنهُ منَ الجواربِ.

ومنْ أدلةِ المسحِ علَى الخفافِ مَا أخرجَ الشيخانِ عنِ المغيرةِ بنِ شعبةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: كنتُ معَ النبيِّ ﷺ فِي سفرٍ فتوضأَ فأهويتُ لأنزعَ خفيهِ، فقالَ: «دعهمَا فإنِّي أدخلتُهمَا طاهرتينِ»، ثمَّ مسحَ عليهمَا ﷺ.

أمَّا المسحُ علَى الجواربِ فقدْ ثبتَ عنْ صحابةِ رسولِ اللهِ ﷺ كعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ الهذليِّ، وأبِي مسعودٍ البدريِّ، وأنسِ بنِ مالكٍ الأنصاريِّ- رضيَ اللهُ عنهمْ-، وَليسَ بينَ الصحابةِ خلافٌ فِي ذلكَ كمَا قالهُ ابنُ تيميةَ.

ويتعلقُ بالمسحِ علَى الخفينِ والجوربينِ أحكامٌ منهَا:

أولًا / شروطُ المسحِ علَى الخفينِ والجوربينِ أربعةٌ:

الشرطُ الأولُ: أنْ يكونَا ملبوسينِ علَى طهارةِ ماءٍ، بمعنَى: ليسَ لأحدٍ أنْ يمسحَ علَى الخفِّ أوِ الجوربِ إلَّا وأنْ يكونَ قدْ لبسهمَا علَى طهارةِ ماءٍ- أيْ بعدَ وضوءٍ أوْ غسلِ جنابةٍ-، فإذَا فعلَ ذلكَ فلهُ أنْ يمسحَ علَى الخفينِ والجوربينِ لمَا تقدَّمَ منْ حديثِ المغيرةِ بنِ شعبةَ لمَّا قالَ النبيُّ ﷺ: «دعهمَا فإنِّي أدخلتهمَا طاهرتينِ».

الشرطُ الثانِي: أنْ يكونَا غيرَ نجسينِ، فإنهمَا إذَا كانَا نجسينِ كأنْ يكونَا منْ جلدِ غيرِ مأكولِ اللحمِ كجلدِ ثعبانٍ لمْ يصحَّ المسحُ عليهمَا، وعلَى هذا الشرطِ تواردَ كلامُ العلماءِ.

الشرطُ الثالثُ: ألَّا يكونَا متنجِّسينِ، بأن يتعلقَ بهمَا نجاسةٌ، فقدْ تتعلَّقَ بالخفِّ نجاسةٌ منْ بولٍ أوْ غيرهِ، فَلا يمسحُ عليهِ.

الشرطُ الرابعُ: ألَّا يكونَ خفيفًا يُرَى مَا وراءَهُ منْ لونِ الجلدِ، فقدْ حكَى جمعٌ منْ أهلِ العلمِ الإجماعَ علَى عدمِ جوازِ المسحِ علَى الخفِّ إذَا كانَ خفيفًا يُرَى مَا وراءِهِ، وممَّن حكَى الإجماعَ علَى ذلكَ الكاسانيُّ، والمنصوريُّ- رحمهما الله-.

ثَانيًا/ يجوزُ المسحُ علَى الخفِّ إذَا كانَ مخرَّقًا علَى أصحِّ أقوالِ أهلِ العلمِ قالَ الإمامُ سفيانٌ الثوريُّ -رحمَهُ اللهُ تعالَى-: وهلْ كانتْ خفافُ المهاجرينَ والأنصارِ إلا مخرقةً؟

ثالثًا/ للمسحِ علَى الخفينِ مدةٌ، فإذَا كانَ الرجلُ مقيمًا فإنَّ لهُ أنْ يمسحَ علَى خفِّه يومًا وليلةً،- أربعًا وعشرينَ ساعةً-، وإذَا كانَ مسافرًا فلهُ أنْ يمسحَ علَى الخفِّ ثلاثةَ أيامٍ ولياليهنَّ -اثنتينِ وسبعينَ ساعةً-.

أخرج َمسلمٌ عنْ عليٍّ -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: جعلَ النبيُّ ﷺ يومًا وليلةً للمقيمِ، وثلاثةَ أيامٍ ولياليهنَّ للمسافرِ، يعنِي فِي المسحِ علَى الخفينِ.

رابعًا/ تبتدئُ مدةُ المسحِ منْ أولِ مسحةٍ بعدَ حدثٍ؛ وذلكَ أنَّ الشريعةَ علقتِ الأمرَ علَى مسحِ الخفينِ، فلوْ قدِّرَ أنَّ رجلًا توضأَ ثمَّ لبسَ خفَّه ثمَّ صلَّى الظهرَ، وقبيلَ العصرِ فِي الساعةِ الثانيةِ وَالنصفِ أحدثَ ثمَّ توضأَ لصلاةٍ العصرِ ومسحَ علَى خفهِ، فإنَّ لهُ أنْ يمسحَ إلَى الغدِ الساعةَ الثانيةَ والنصفَ خلالَ أربعٍ وعشرينَ ساعةً إذَا كانَ مقيمًا.

أمَّا مَا شاعَ عندَ بعضهمْ أنَّهُ يمسحُ لمدةِ خمسِ صلواتٍ فلَا دليلَ عليهِ.

خامسًا/ قدْ يلبسُ الرجلُ جوربًا كالشراب أو خفًا ثمَّ يريدُ أنْ يلبسَ خفًّا أو جوربًا فوقَه، فلهُ أنْ يمسحَ علَى الفوقانيِّ بشرطِ أنْ يلبسَ الفوقانيَّ علَى طهارةٍ ولوْ علَى طاهرةِ مسحٍ، أمَّا إذَا لبسهُ علَى حدثٍ فلَا يمسحُ عليهِ.

أسألُ اللهَ أنْ يعلمنَا مَا ينفعنَا، اللهمَّ علمنَا مَا ينفعنَا، اللهمَّ فقهنَا فِي ديننَا، اللهمَّ ارزقنَا علمًا وعملًا بعلمنَا يَا أرحمَ الراحمينَ.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ وكفَى والصلاةُ والسلامُ علَى الرسولِ المجتبَى، أمَّا بعدُ:

فإكمالًا لأحكامِ المسحِ علَى الخفينِ والجوربينِ.

سادسًا من الأحكام المتعلقة بالمسح / أكلُّ مَا يسمَّى مسحًا علَى الخفِّ فإنَّهُ مسحٌ؛ لأنَّ الأدلةَ جاءتِ بالمسحِ ولمْ تُخصِصْ لهُ صفةً وبهذَا قالَ الإمامُ الشافعيُّ -رحمهُ اللهُ-، فلَا يلزمُ أنْ يُعممَ أعلَى الخفِّ بالمسح، ويؤكدُه أنَّ طهارةَ المسحِ طهارةٌ مخففةٌ.

سابعًا/ يجبُ خلعُ الخفِّ لمنْ وقعَ فِي الحدثِ الأكبرِ كالجنابةِ؛ لأنَّهُ مُبطلٌ للمسحِ علَى الخفينِ بدلالةِ السنةِ والإجماعِ أخرجَ الترمذيُّ والنسائيُّ عنْ صفوانَ بنِ عسالٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: كانَ النبيُّ ﷺ يأمرنَا إذَا كنَّا مسافرينَ ألَّا ننزعَ خفافنَا ثلاثةَ أيامٍ ولياليهنَّ إلَّا منْ جنابةٍ، لكنْ منْ غائطٍ وبولٍ ونومٍ. أيْ بخلافِ الجنابةِ، فإنهُ مُبطلٌ للمسحِ علَى الخفينِ.

إنَّ مَا تقدَّمَ شيءٌ قليلٌ منْ أحكامِ المسحِ علَى الخفينِ الَّتِي نحتاجُ إليهَا فِي السنةِ كلهَا، لاسيمَا عندَ اشتدادِ البردِ.

أيهَا المسلمونَ، إنَّ تعلمَ العلمِ الشرعيِّ مهمٌ للغايةِ، والعلمُ الشرعيُّ منْ حيثِ الجملةِ نوعانِ:

النوعُ الأولُ: فرضٌ، وهوَ مَا يحتاجُ إليهِ كلُّ مسلمٍ منَ الاعتقادِ الصحيحِ فِي اللهِ، و التوحيدِ وأحكامِ الصلاةِ والطهارةِ، إلَى غيرِ ذلكَ، ومنهُ مَا يحتاجُ إليهِ بعضُ المسلمينَ دونَ بعضٍ بحسَبِ حالهمْ كالتاجرِ يلزمُه تعلمُ أحكامِ البيعِ والشراءِ وهكذَا…

النوعُ الثانِي: مستحبٌ، وهوَ مَا ليسَ منَ العلمِ الواجبِ.

وكلَا هذينِ العِلمينِ -سواءٌ كانَ الواجبَ أوِ المستحبَ- محبوبانِ إلَى اللهِ، وهمَا منَ العملِ الصالحِ، والعلمِ النافعِ، عنْ زيدٍ بنِ أرقمَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ كانَ يقولُ: «اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ منْ علمٍ لَا ينفعُ» رواهُ مسلمٌ.

فطلبُ العلمِ الشرعيِّ النافعِ منْ خيرِ العباداتِ وأجلِّهَا وأحبِّها إلَى اللهِ، قالَ سبحانَهُ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وقالَ سبحانَهُ: ﴿يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].

وأخرجَ الإمامُ مسلمٌ عنْ أبِي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «منْ سلكَ طريقًا يلتمسُ فيهِ علمًا سهَّل اللهُ لهُ بهِ طريقًا إلَى الجنةِ»، وأخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عنْ معاويةَ بنِ أبِي سفيانَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «منْ يردِ اللهُ بهِ خيرًا يُفقههُ فِي الدينِ».

اللهمَّ علمنَا مَا ينفعنَا، وانفعنَا بمَا علمتنَا

اللهمَّ اشرحْ صدورنَا للإيمانِ، وعلمنَا القرآنَ.

اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وَأهلكِ الكفرةَ.

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب
dsadsdsdsdsads

شارك المحتوى:
0