المجموعة (994)


يقول السائل: هناك من يقول إن القاعدة التي وضعها العلماء ألا وهي فهم القرآن والسنة بفهم السلف لم تُحرر؛ لأن السلف الصالح اختلفوا في الأصول كرؤية الله، والخلاف الذي جرى بين ابن عباس وعائشة واختلفوا في الفروع كتبديع ابن عمر بصلاة الضحى وغيره يراها سنة، هل هذا الاختلاف اختلاف تضاد أم اختلاف تنوع؟ وكيف نرد على من يقول هذا الكلام بالحجة والبرهان؟

الجواب:
إن الأدلة دلت بوضوح على وجوب فهم السلف وأنه لا يسوغ لأحد أن يدع اتباع فهم السلف، كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾ [النساء: 115] فرتب الوعيد على مخالفة سبيل المؤمنين، فدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين.

وكقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119] والسلف إذا كان لهم قول في مسألة فهم الصادقون الذين أمرنا باتباعهم، وكقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا ﴾ [البقرة: 137] فمفهوم المخالفة: إن لم يؤمنوا كما آمنوا فقد ضلوا، إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة الدالة على وجوب فهم السلف.

وقد توارد الأئمة على بيان ذلك كالإمام أحمد في أصول السنة، وكالأوزاعي فيما روى الآجري عنه أنه قال: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول.
وقال الإمام أحمد: لا يجوز لأحد أن يفتي حتى يعرف أقوال من تقدم.
وقال ابن تيمية: إنما المتبع في إثبات أحكام الله كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسبيل السابقين أو الأولين، لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة لا نصًا ولا استنباطًا بحال. اهـ من كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) والنقولات عن أهل العلم أكثر وأكثر.

فإذن فهم السلف ثبت بالأدلة وبفهم أهل العلم، فيجب أن نفهم الكتاب والسنة بفهم سلف هذه الأمة، وما يُنقل عن السلف من خلاف سواء في العقيدة أو غيره فيُقال: ما اختلفوا فيه فنحن مأمورون ألا نخرج عما اختلفوا فيه، فإن الحق في أحد القولين.

قيل للإمام أحمد: رجل يقول اختلف الصحابة على قولين، فأخرج عن قوليهما؟ قال: هذا قولٌ خبيث قول أهل البدع.
أما ما لم يختلفوا فيه فلا يجوز لنا أن نُحدث قولًا جديدًا، فإذن ما يُنقل عن السلف له حالان:
الحال الأولى: أن يكون بينهم خلاف، فمثل هذا نختار من الحق بين أقوالهم بالنظر إلى الأدلة، أي بأشبهها بالكتاب والسنة.
الحال الثانية: ألا يكون بينهم خلاف، فلا يجوز لنا أن نخرج عن أقوالهم لما تقدم ذكره من فهم السلف.

فوجود الخلاف عند السلف لا يعود على هذه القاعدة وعلى هذا الأصل المهم بالنقض، وهو أنه يجب أن يُفهم الكتاب والسنة بفهم السلف، لأنهم إذا اختلفوا على قولين فإنهم قد أجمعوا على أن الحق في أحد هذين القولين، وإذا لم يختلفوا وصار القول قولًا واحدًا فقد أجمعوا على أن هذا القول الواحد هو الحق، فإذن وجود الخلاف ليس مُسوغًا لإسقاط حجية قول السلف، ومن ظن ذلك فهو لم يفهم كلام العلماء ولا الأدلة في وجوب اتباع فهم السلف.

أما ما ذكر من أن الصحابة اختلفوا في الأصول كرؤية الله، فهذا غلط فلا يُقال اختلفوا في الأصول، فالصحابة متفقون على أن الله يُرى وإنما نُقل الخلاف بين ابن عباس وبقية الصحابة في النبي -صلى الله عليه وسلم- هل رأى ربه لما أُسري به وعُرج به أم لا؟ الخلاف مُحدد في هذه المسألة، أما رؤية الله فالسلف من الصحابة ومن بعدهم كلهم مجمعون على هذا، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع.

ثم قد حرر الدارمي في رده على الجهمية أنه ليس هناك خلاف بين ابن عباس وعائشة في هذه المسألة، وأن ابن عباس أثبت الرؤية وأراد الرؤية القلبية وعائشة نفت الرؤية وأرادت الرؤية العينية، وقد سبق تفصيل هذا في عدة أجوبة.

فالمقصود أن القول بأن الصحابة اختلفوا في الأصول هذا خطأ ولا يجوز أن يُنسب إلى صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أما قولهم إنهم اختلفوا في الفروع كصلاة الضحى، فهذا صحيح وهذا اختلاف حقيقي لأنه ما بين من يرى سنيتها ومن لا يرى سنيتها، والصواب هو قول عائشة وجماعة من الصحابة في استحباب صلاة الضحى، لكن أؤكد على أن اختلاف الصحابة لا يرجع إلى أصل القاعدة بالنقض وهو وجوب فهم الكتاب والسنة بفهم السلف كما تقدم بيانه.

وقول السائل: هل الاختلاف اختلاف تنوع أم تضاد؟
ينبغي أن يُعلم أن الاختلاف على أربعة أقسام:
الأول: الاختلاف اللفظي.
الثاني: الخلاف الحقيقي لكن ليس له ثمرة.
الثالث: اختلاف التنوع، وهو أن يثبت الأمر شرعًا لكن يصح فيه أكثر من صفة كاختلاف العلماء في صفات دعاء الاستفتاح، فهذا خلاف تنوع، إن أتيت بما ثبت في حديث أبي هريرة في الصحيحين أو أتيت بما ثبت عن عمر في صحيح مسلم من ألفاظ دعاء الاستفتاح فيصح.

رابع: اختلاف التضاد، وهذا يكون في المسائل الفقهية وفي كل المسائل، ومعنى التضاد: أي أن يكون في المسألة قولان أو أكثر وكل قول مخالف للآخر، ولا يلزم من التضاد أن يكون قولًا بدعيًا، بل يختلف العلماء في المسائل الفقهية منهم من يرى أن هذا ناقض للوضوء والثاني لا يرى أنه ناقض للوضوء وهو اختلاف تضاد، وأؤكد أن اختلاف التضاد ليس معناه تبديع القول الآخر.

أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.

994


شارك المحتوى:
0