الردُّ على الدكتور سعود النفيسان في ادعائه جواز المظاهرات


الردُّ على الدكتور سعود النفيسان في ادعائه جواز المظاهرات

الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فقد نشر الدكتور سعود بن عبد الله النفيسان ـ وفقه الله للصواب ـ قبل أيَّام قليلة، مقالاً بعنوان: (نظرات شرعية في وسائل التعبير العصرية)، ذهب فيه إلى جواز المظاهرات، وقد أسفتُ كلَّ الأسف أن يبادر الدكتور إلى إصدار هذا المقال في هذا التوقيت بالذات، إذ لا يخفى على مثله المؤامرات التي تحاك ضد دول المنطقة، وبتحريك واضح من دولة إقليمية معروفة بعدائها التاريخي للإسلام والعروبة، خاصة للمملكة العربية السعودية: قلعة التوحيد والسنة، حيث بدأت الدعوات الغوغائية في مواقع الشبكة العالمية تتنادى لإثارة الشغب والفوضى في بلاد التوحيد والوحدة، بدعوى (المظاهرات السلمية) التي عدَّها الدكتور من وسائل التعبير التي لا يجوز لولي الأمر منعها وتقييدها! وقد تلقَّف أهل الفتنة مقال الدكتور بسعادة بالغة، فنشروها في مواقعهم ومنتدياتهم، وطاروا بها كل مطار. وهنا لا بدَّ أن أذكِّره وسائرَ القرَّاء المنصفينَ بأنَّه ـ أعني الشيخ سعود النفيسان نفسَه ـ كان أحد الموقِّعين على البيان الذي صدر سنة (1425هـ/2005م)، عن أكثر من ستين شخصية أكاديمية في المملكة للتحذير من الاستجابة لدعوة سعد الفقيه إلى التظاهر، وهذا نص البيان:

(فقد انتشر خبر الأعمال التي دعا إليها د. سعد الفقيه عبر قناته (الإصلاح) وإننا أداءً لواجب النصيحة، وأمانة المسؤولية، والحرص على أمن هذا البلد واستقراره وائتلاف كلمته نرفض هذا العمل، ونُحَذِّر من المشاركة فيه، أو الاستجابة لهذه الدعوة التي تقود تداعياتها إلى فساد وإفساد، وإضرار بمصالح المجتمع ووحدة البلاد، وفتح الثغرات للأعداء والكائدين. وإن بلادنا لم تكن أحوج إلى الاستقرار والائتلاف والتكاتف منها في هذه الظروف والمتغيرات العالمية والأحداث المحيطة. وبقدر حاجتنا إلى خطوات جادة في الإصلاح وضرورة ذلك بآلياته ومراحله الواضحة فإننا بحاجة إلى سلوك الطريقة الصحيحة لتحقيق ذلك بعيدًا عما يؤدي إلى مظاهر الفوضى والمواجهات التي تثير التنازع وتُحدِث الفشل وذهاب الريح. ومن المقرر أن من أعظم مقاصد الشريعة الاعتصام بحبل الله، ووحدة الكلمة على الحق، وتجنب أسباب التنازع والشقاق، كما قال سبحانه : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وقال تعالى : {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.) انتهى.

وهذا كلام حكيم، وتوجيه سديد، وفتوى صحيحة مستندة إلى أحكام واعتبارات ما زالت قائمة، بل يعلم كلُّ عاقل أن المفاسد والأضرار المذكورة لم تعدْ متوقعةً بظنٍّ غالبٍ فقط، بل بيقينٍ يكاد كل من نوَّر الله بصيرته بالعلم والفقه في عواقب الأمور يراها رأي العين. فمن عجبٍ أن يبادر د. النفيسان إلى تجاهل ما علمه وأدركه قبل سنوات، مناقضًا لنفسه، وناقضًا لذلك البيان الجماعي، فيحقُّ لنا أن نذكِّره بقول الله عز وجل: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}.

ثم إنني ازددتُ أسفًا وتألمًا لمَّا تأملتُ الشبهات التي ساقها الشيخ لتأييد قوله، فوجدتها وجوهًا من التدليس والتلبيس اضطر إليها الشيخُ لعجزه عن تقديم الدليل والبرهان. وسأكتفي هنا بمناقشة بعضها بإيجاز:

1- ادعى الشيخ ـ وفقه الله للصواب ـ أن (المظاهرات السلمية) ممَّا: (جدَّ في عصرنا اليوم من وسائل للتعبير لم تكن معروفة من قبل). وهذه دعوى باطلة، فالمظاهرات من الوسائل الموغلة في القدم، واشتهرت عن الرومان واليونان خاصة، والأوربيين عامة، ومن نظر في (قصة الحضارة) لديورانت لاحظ كثرة المظاهرات في أوربا قبل الثورة الفرنسية وبعدها، لكنها صارت بعد الثورة الفرنسية من الحقوق المدنية التي تصونها الدساتير والقوانين الوضعية، لهذا ظهر هذا السلوك عند المسلمين في عهد الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية، وربما كان الاستعمار نفسه يشجِّع على ممارسته، ليغرس في المسلمين بعض سننه ومفاهيمه في السياسة والاجتماع، وقد ذكر الأستاذ محب الدين الخطيب رحمه الله في (مجلة الفتح) السنة الأولى، عدد (64) خبر أول مظاهرة نسائية في سوريا عام 1927م في ظل الاحتلال الفرنسي! وقد كان العلماء الربانيون يدركون أن هذا السلوك الاجتماعي الجديد لا خير فيه، ففي ثورة المصريين على الانكليز سنة 1919م جاهر العلامة محمد حامد الفقي رحمه الله بإنكار المظاهرات، وبيَّن أن خروج الاحتلال لا يكون بها، بل بالعودة إلى الكتاب والسنة وإصلاح العقائد والعبادات. وصدق في ذلك، فقد شهدت تلك المظاهرات خروج هُدى شعراوي فيها سافرةً، فكانت أول مصرية مسلمة رفعت الحجاب (الأعلام للزركلي: 8/78)!

2- فإذا علمنا أن المظاهرات من السلوك الاجتماعي لدى سائر الأمم منذ القدم؛ فلا بدَّ أن نوضح سبب عدم ظهورها عند المسلمين إلا في العصر الاستعماري الحديث؛ فإن هذا من أعظم الأدلة على أنها لم تكن من سنة المسلمين عبر عصورهم المختلفة ـ وإن كانت تقع أحيانًا من سفهائهم كما سيأتي ـ.

وتوضيح هذا: أن تجنُّب هذا السلوك عمدًا، مع قيام الدواعي له في أحوال مختلفة؛ كان نتيجةً لخصوصية المنهاج والتربية التي غرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، فقد بيَّن صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة مشهورة: وجوب السمع والطاعة للحاكم المسلم، ونهى عن الخروج وشق عصا الطاعة، كما نهى عن القتال في الفتنة، وأمر بلزوم البيوت عندها، وبيَّن أن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، وأن من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ أو معاذًا فليعذ به، وأمر بكسر السيوف، وبالعزلة، والاشتغال بالعبادة… وسار صحابته الكرام رضي الله عنهم على نهجه في مجانبة الفتن والتحذير منها… فكانت تلك الأحاديث والآثار ـ وهي كثيرة جدًّا مبثوثة في كتب العقيدة والحديث والفقه والآداب الشرعية والأحكام السلطانية ـ بمجموعها سببًا في تكوين ما يمكن تسميته بسلوك جمعي تميَّز به المجتمع الإسلامي، حيث يحرص أفراده على استقراره وأمنه واجتماعه، وعلى مجانبة الفتن والشقاق والفوضى. وهذه الخصوصية الدينية لم يكن المستشرقون ليفهموها لهذا ادعوا أن الفقهاء عمدوا إلى وضع تلك النصوص إرضاءً للخلفاء المستبدين!

3- نعم؛ لم تكن المظاهرات من سنن المسلمين، لهذا لم تظهر في تاريخهم إلا في سلوك شاذٍّ عُرف بخروج الغوغاء، والأوباش، والسفلة، والسوقة، والمنتهِبَة، ونحو هذه الألفاظ التي كان العلماء يصفون بها بعض حالات الفوضى والشغب التي كانت تقع عند هيجان العامة وثوران الرعاع والدهماء والعبيد والسفهاء ونحوهم. ومن هنا يمكننا القول بأن المظاهرات كانت معروفة لدى المسلمين، لكنها لم تكن من سنتهم، بل كانوا يحرمونها وينبذونها، ويصفون القائمين بها بالغوغاء، وأول وأشهر مظاهرة في تاريخ الإسلام كانت بخروج (الغوغاء) على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان خروجهم في (مظاهرة سلمية!)، ورغم أن الخليفة الراشد أصدر أوامره الصارمة بعَدَم: (استخدام العنف ضد المتظاهرين!) فإنها انتهت بمقتله رضي الله عنه، فكانت من أعظم الفتن التي نزلت بالمسلمين، وتركت آثارًا سيِّئة لم تنقطع بعضها حتى يوم الناس هذا. لهذا كان الحسن البصري رحمه الله إذا ذُكر الغوغاء وأهل السوق؛ قال: قتلةُ الأنبياء! (التاريخ الصغير للبخاري 1/115). وأصل الغوغاء: الجراد حين يخفُّ للطيران، ثم استعير للسفلة من الناس والمتسرعين إلى الشرِّ. وقد ذكر المؤرخون في حوادث سنة (308هـ): (أنَّ الأسعار غلتْ ببغداد؛ فاضطربت العامة، وتجمع من الغوغاء عشرة آلاف، وفتحوا السجون، وقاتلوا الوزير وولاة الأمور، ودام القتال أيامًا، وقتل عدة، ونهبت أموال الناس، وأخربوا مجالس الشرطة، وأحرقوا الجسور، واختلت أحوال الخلافة جدًّا، ومحقت بيوت الأموال، وأنهم عدوا على الخطيب يوم الجمعة، فمنعوه، وكسروا المنابر! فأمر السلطان بمحاربة العوام فأخذوا وضربوا)، يعني: أن الدولة اضطرت إلى (استخدام العنف ضد المتظاهرين)! وفي كتب التاريخ أمثلة عديدة، لا يتسع هذا المقال لذكرها، وقد اتَّفق المؤرخون ـ وهم من أجلة علماء الإسلام كابن الجوزي والذهبي وابن كثير وغيرهم ـ على ذكرها على وجه الذمِّ والاستنكار.4- لم يكن د. الفنيسان موفَّقًا في (وقفته الأولى) في تعريف مصطلح (المظاهرة)، فإنه ذكر المعنى اللغوي للكلمة، وأدخل فيه المعنى الاصطلاحي، ولم يحرر الفرق بين الاثنين، ولم يحدَّ كلًّا منهما بحدِّه، فالمظاهرة تأتي في اللغة بمعنيين: الأول: ظهور الشيء إذا بان واتضح، والثاني: المعاونة والمناصرة. والمراد في الاصطلاح الحادث المعنى الأول لا الثاني، لهذا جاء في (المعجم الوسيط) ـ كما نقله الدكتور ـ: (المظاهرة إعلانُ رأيٍ وإظهارُ عاطفةٍ بصورة جماعية). ولم يكمل الدكتور النَّقل، فقد عُلِّم على هذا التعريف بـ: (مج)، ومعناه: أن هذا التعريف أقرَّه مجمع اللغة العربية بمصر، وهذا لكونه حادثًا، وأصل هذا في (قرارات مجمع اللغة العربية)، حيث قالوا: (يستعمل المحْدَثُون (المظاهرة) بمعنى إعلان رأي، أو إظهار عاطفة في صورة جماعية، وهي تقابل في هذه الدلالة (Manifestation). والعرب يستعملونها بمعنى العون من الظهر كالمساعدة من الساعد، والمعاضدة من العضد، والمكاتفة من الكتف. والأقرب إلى المعنى الحديث: (تظاهروا تظاهرًا)؛ فقد قالوا: تظاهر فلان بالشيء أظهره، ولكن المظاهرة شاعت حتى ليصعب على الناس العدول عنها). إذن هذا الاستعمال حادث في اللغة العربية، فلا معنى لقول د. الفنيسان: (وجاء لفظ المظاهرة في القرآن الكريم في أكثر من موضع)، ثم ذكر ثلاث آيات (التوبة: 3، والأحزاب: 26، والتحريم: 4)، وقد جاءت المظاهرة فيها كلها بمعنى المعاونة والمناصرة، وليس فيها أي دلالة على المعنى الحادث، فما وجه الاستشهاد بها سوى الاستكثار غير المحمود؟!

5- ذكر الدكتور في (وقفته السادسة): (أدلة المظاهرات السلمية)، وهي في الحقيقة لا تعدو أن تكون شبهات ضعيفة، منها:

أ‌) احتجاجه بالبراءة الأصلية، حيث كرَّر زعمه بأنها وسيلة جديدة.وقد بيَّنا أنها وسيلة قديمة، فقد عرفها المسلمون، لكنهم لم يستعملوها لمنافاتها المنهاج النبوي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولمقاصد الشريعة في بناء المجتمع المسلم، ولبنية العقيدة والتفكير والأخلاقيات الإسلامية، فلا يجوز بحث هذه المسألة بشكل ساذج دون مراعاةِ الخصوصية الإسلامية في الدين والدولة والاجتماع.ب‌) قال: (جميع آيات وأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلها أدلة للمظاهرات السلمية). وهذه دعوى عريضة، ومجازفة ظاهرة؛

فلا يخفى على أحدٍ من العقلاء ـ بله العلماء ـ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما أحكام تفصيلية تتعلق بصفتهما وحدودهما وضوابطهما ومن يجوز له أن يتصدى لهما، وكيف؟ ومتى؟ وأين؟ فليسا حكمين مطلقين يخوض فيهما كل أحدٍ، كيف شاء، وكما شاء. فالاستدلال بعموم الأدلة في مشروعيتهما على خصوص مسألة المظاهرات؛ من أبطل الباطل، لا يجوز لفقيه أن يقدم عليه.

ت‌) وذكر في أدلة الجواز: نماذج من التصرفات الاجتماعية التي تأتي في سياقها وظرفها المناسب لها، وليس لها أي مشابهة بموضوع البحث، منها: حديث الذي كان له جار يؤذيه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج متاعه في الطريق، ففعل، فاجتمع الناس عليه فقالوا: ما شأنك؟ قال: لي جار يؤذيني. فجعلوا يلعنونه، فأته جاره فقال: ارجع إلى منزلك فوالله لا أوذيك! ومنها: حديث: (لقد طاف البارحة بآل محمد سبعون امرأة، كل امرأة تشتكي زوجها، فلا تجدون أولئك خياركم). ثم قال الدكتور ـ هداه الله ـ: (فإذا كان النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خرجن جماعات أو فرادى في ليلة واحدة يشتكين ضرر أزواجهن أليست هذه هي مظاهرة سلمية؟! فما الفرق بين هذا لو خرج اليوم أو غدًا مثل هذا العدد أو أقل أو أكثر أمام وزارة الداخلية، أو وزارة العدل، أو المحكمة الشرعية، أو دار الإفتاء، يطالبن بتوظيفهن أو رفع ظلم أوليائهن أولئك الذين يمنعونهن من الزواج، أو خرجن يطالبن بإطلاق أولادهن أو أزواجهن الذين طال سجنهم مع انتهاء مدة الإحكام الصادرة بحقهم أو لم يحاكموا أصلاً! وإذا جاز هذا للنساء كما جرى في عهد النبوة فما الذي يمنعه في حق الرجال. قولوا الحقَّ يا رعاكم الله!).نعم ـ واللهِ ـ لنقولنَّ الحقَّ، ولنشهدنَّ به، وأنا العبدُ الفقيرُ لست سعوديًّا، ولا أقيم في المملكة، وإذا أردتُ أن أحصل على تأشيرةِ عمرةٍ أو زيارةٍ (أَتْبَهْدَل) من أجلها، ولكنِّي ـ بفضل الله ـ لست ممَّن قال ربُّنا العليُّ فيهم:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}؛ بل أحب هذه الدولة لقيامها بالتوحيد والسنة، وأدرك المكائد التي تحاك ضدَّها، وأتألم لما أراه من عقوق الحركيين لها، وكفرهم بمحاسنها، وتضخيمهم لعيوبها، وكأنَّهم ـ وهم يدَّعون العمل للإسلام ـ لا تهمُّهم من أمر هذه الدنيا إلا المال والأعمال، أما قيام الدين، وسلامة المعتقد، وظهور التوحيد، وقمع البدعة والخرافة، واجتماع الكلمة: فلا يهمهم من قريب ولا بعيد، حتَّى قال أشهرهم ـ وهو لسانهم الفاضح لهم لكثرة هَذْره ـ: (أهمُّ وجبة يجب أن تُقدّم للشعوب هي وجبة الحرية)أما الدِّينُ وتنفيذ أحكام الشريعة وأهمها وأعلاها: صيانة عقيدة التوحيد ونبذ الشرك والبدع؛ فلا يجري منه على لسانه ذِكرٌولا شكَّ أنَّه أخذ هذا من شيخه الأكبر الذي يزعم في كلِّ مناسبةٍ: (أن الحرية مقدَّمةٌ على تطبيق الشريعة الإسلامية!) والله المستعان.

أقول: فالحقُّ ـ يا أصلحك الله! ـ أنك أخطأت في الاستدلال، وأبعدت في القياس، فأين شكوى جارٍ من جار، في محلَّته وبين جيرانه، أو تردُّد سبعين امرأة على أمهات المؤمنين كل امرأة تشتكي زوجها ـ أي: لم تخرجن في جماعة منظمة، ولا إلى جهة واحدة، بل خرجت كل واحدة لوحدها، وذهبت إلى إحدى أمهات المؤمنين، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر بضربهنَّ، فبالغ الرجال في ذلك ـ؛ أين هذا من (المظاهرات المنظمة) التي يخرج فيها آلاف ومئات الآلاف بل الملايين، وفيهم الرجال والنساء، والصغار والكبار، والصالحون والطالحون، والعقلاء والسفهاء، وكل من هبَّ ودبَّ من عامة الناس ممن تعرف وتنكر؟

فقل الحقَّ ـ يا أصلحك الله! ـ أين هذه (المظاهرات) ذات المقاصد والغايات السياسية والاجتماعية المنظَّمة، من التجمعات المحدودة التي تجيء في سياقها الطبيعي، لسبب عارض ومعقول. فهل يعقل عدُّ خروج الناس في جنازة الإمام أحمد والإمام ابن تيمية قديمًا، وفي جنازة الإمام ابن باز في عصرنا من (المظاهرات)؟ وهل مشي عدد كبير من الطلبة خلف شيخهم وهم خارجون من المسجد أو الدرس من (المظاهرات)؟ وهل اجتماع أولياء المسجونين لعرض شكواهم على ولي الأمر في مكان ووقت جلوسه للناس من (المظاهرات)؟ وسيأتي في كلام الشيخ ابن باز نفي أن تكون إقامة شعائر الإسلام من المظاهرات.

فقل الحقَّ ـ يا أصلحك الله! ـ، وحرِّر موضع البحث، وبيِّن حدَّ (المظاهرة) بالمفهوم السياسي المعاصر، وتجنَّب التدليس والتلبيس على عباد الله!

6- لقد شعر د. سعود النفيسان بشذوذ قوله، ومخالفته لما أفتى به الراسخون في العلم منذ أن ظهرت هذه السنة السيئة في المسلمين، فحاول إيهام القرَّاء بأن الإمام الراحل عبد العزيز بن باز رحمه الله إنما أفتى بمنع المظاهرات غير السلمية، فقال: (وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (إن العلماء وجميع الدعاة وأنصار الحق أوصوا بتجنب المسيرات والمظاهرات التي تضرُّ بالدعوة ولا تنفعها، وتسبب الفرقة بين المسلمين، والفتنة بين الحكام والمحكومين) [مجموع الفتاوى: 7/344]، فسماحته لم يعترض على المظاهرات السلمية، وإنما منع المظاهرات غير السلمية، وهي التي ينتج منها المفاسد والفتن، وهذه حرام ولا شك) انتهى.

أقول: هذا إيراد بعيد عن الإنصاف:

أولاً: لأن كلام الشيخ في بيان حال ما تؤول إليه المظاهرات، وما وصفه بها من أنها ينتج منها مفاسد وفتن هذا وصف كاشفٌ لها، وليس وصفًا مقيدًا.

ثانيًا: ينبغي أن يستحضر الدكتور سعود الفنيسان أن الأصل في (المظاهرات) في العرف الغربي لها أنها تكون (سلمية)، بل لا تسمى مظاهرة إلا إذا كانت سلمية، أما إذا كانت على وجه التخريب واستخدام القوة والعنف فهي: (أعمال شغب)، ولها توصيف وأحكام خاصة في القانون الوضعي. لهذا فإن كلام سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله عامٌّ في المظاهرات، خاصَّةً أنَّ له كلامًا آخرَ يؤكد عموم المنع، وأنها ليست من سنة المسلمين، فقد قال رحمه الله: (وما ذكرتم حول المظاهرة فقد فهمته، وعلمت ضعف سند الرواية بذلك كما ذكرتم; لأن مدارها على إسحاق بن أبي فروة وهو لا يحتج به, ولو صحت الرواية فإن هذا في أول الإسلام قبل الهجرة وقبل كمال الشريعة. ولا يخفى أن العمدة في الأمر والنهي وسائر أمور الدين على ما استقرت به الشريعة بعد الهجرة, أما ما يتعلق بالجمعة والأعياد ونحو ذلك من الاجتماعات التي قد يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم كصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء, فكل ذلك من باب إظهار شعائر الإسلام، وليس له تعلق بالمظاهرات كما لا يخفى) [مجموع الفتاوى: 8/246].

وقال رحمه الله في موضع آخر: (فالمسيرات في الشوارع والهتافات والمظاهرات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة، فالطريق الصحيح بالزيارة والمكاتبات بالتي هي أحسن فتنصح الرئيس والأمير وشيخ القبيلة بهذا الطريق لا بالعنف والمظاهرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة لم يستعمل المظاهرات ولا المسيرات ولم يهدد الناس بتخريب أموالهم واغتيالهم) [مجلة البحوث الإسلامية: 38/210].

وأما النقول عن أهل العلم المعروفين بالرسوخ والعلم والإمامة في المنع منها وتحريمها فكثيرٌ، لكنِّي أكتفي بنقل واحد، يبيِّن أن علة تحريم المظاهرات عند أهل العلم هي مخالفتها لسنن المسلمين، فقد قال العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: (ولا تزال بعض الجماعات الإسلامية تتظاهر بها، غافلين عن كونها من عادات الكفار وأساليبهم التي تتناسب مع زعمهم أنَّ الحكم للشعب، وتتنافَى مع قوله صلى الله عليه وسلم : (خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم).)[سلسلة الأحاديث الضعيفة: 6531].

أسأل الله تعالى أن يحفظ بلاد المسلمين من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، إنه قويٌّ عزيز، له الحمد في الأولى والأخرى، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

عبد الحق التركماني

رئيس مركز البحوث الإسلامية في السويد

يوم السبت 5/3/2011م

 


شارك المحتوى: