الدنيا بين الحقيقة والوهم


الخطبة الأولى:

إِنَّ الحمدَ للهِ نَحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَن يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضلِلْ فَلَا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا ‌قَوْلًا ‌سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].

أمَّا بعدُ:

فإنَّ الدُّنيا سريعةُ الانقضاءِ والزوالِ، وكلَّ يومٍ يذهبُ مِن عُمُرِكَ فهو يُنقِصُ مِن أَجَلِكَ، وإِنَّ الأيامَ تعمَلُ فينا بأقدارِهَا، فاعمَلْ فيهَا بطاعةِ خالِقِكَ وخالِقِهَا.

وَبِمَا أنَّنَا أحياءٌ فإنَّنَا في ابتلاءٍ وامتحانٍ، قالَ تعالَى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2] وقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الكهف: 7].

وقد زُيِّنتْ الدُّنيا بِمَا هو فتنةٌ لَنَا لِيتبيَّنَ الفائِزُ مِن الخاسِرِ، والنَّاجِي مِن الهالِكِ، قالَ تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14].

وقال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد: 20].

وَعَن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ -رضي الله عنه- قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «‌إِنَّ ‌الدُّنْيَا ‌حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ»، رواهُ مسلمٌ.

وَمَا تَرَى في الدُّنيا مِن نعيمٍ بِشتَّى أنواعِهِ وأصنافِهِ فهُوَ لا شيءٌ عندَ العُقلاءِ والعارفينَ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [القصص: 60].

وعَن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَيْهِ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟» فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟» قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ! فَقَالَ: «فَوَاللهِ، لَلدُّنْيَا ‌أَهْوَنُ ‌عَلَى ‌اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ»، رواهُ مسلمٌ.

لكن أينَ العقلاءُ؟ أينَ العارِفونَ؟ أينَ المُعْتَبِرونَ؟

ما أقلَّهُمْ، وأنْدَرَهُمْ،

اللهُمَّ اجْعَلْنا مِنْهُم.

يا للهِ، كَمْ كانَتْ الدُّنيا الحقيرةُ سَبَبًا لسَفْكِ الدِّماءِ، وقطيعةِ الأرحامِ، وعقوقِ الوالدينِ، وأكلِ الحرامِ.

يا للهِ، كَمْ اغتَرَرْنَا بِها، وَلَهَوْنَا، وصِرْنَا نتسابَقُ في رِئاسَتِهَا وتحصيلِهَا وجَمْعِهَا مِن غيرِ مُراعاةٍ لِحِلٍّ ولا حُرْمَةٍ، حَتَّى أصبَحَ مِعيارُ النجاحِ عِندنَا الإكثارَ مِن جَمْعِها.

أسألُ اللهَ أنْ يَرزُقَنَا الاعتِبارَ وأَنْ يجعَلَنا مِمَّنْ يستعمِلُ الدُّنيا في طاعةِ الجبارِ، وأنْ يُبعِدَهَا مِن قلوبِنَا، وأنْ يُعيذَنَا مِن فِتْنَتِهَا، إِنَّهُ الرَّحمنُ الرحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:

فإنَّ هذِهِ الحياةَ الدُّنيا بِمَا فيها مِن مالٍ وقُصُورٍ ونِساءٍ وذَهَبٍ وفِضَّةٍ كالحُلُمِ ينتَهِي بالموتِ الذي هو كائِنٌ وَلَا مَفَرَّ.

قالَ اللهُ تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].

وقال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون: 10-11].

وإنَّمَا غرَّنَا طولُ الأمَلِ والتسويفُ والغفلَةُ حتَّى لَمْ نأخُذْ العِبَرةَ مِمَّنْ ماتَ قبلَنَا، قال تعالى عَمَّا تَوَعَّدَ بِهِ إبْليسُ: ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ﴾ إلى أنْ قالَ تعالَى واصِفًا حقيقةَ تَوَعُّدِ إبليسَ: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ [النساء: 119-120].

فاعْتَبِروا يا أُولي الألبابِ والعقولِ.

عَن عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: ” ‌ارْتَحَلَتِ ‌الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتِ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ “رواهُ البخاريُّ.

اللهُمَّ اجْعَلْنَا مِن أبناءِ الآخِرَةِ.

يا عِبادَ اللهِ، حاسِبُوا أنْفُسَكُمْ قبلَ أنْ تُحاسَبُوا، قالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 18-19].

يا عِبادَ اللهِ، اتَّقوا اللهَ في والِدَيْكُمْ، -الأمهاتِ والآباءِ-، اتَّقُوا اللهَ في صِلَةِ أرْحَامِكُمْ، اتَّقُوا اللهَ في ظُلْمِ مَن تحتَ أيديكُمْ مِن العَمَالَةِ وغيرِها، اتَّقوا اللهَ في أمْوَالِكُمْ مِن أينَ اكْتَسَبْتُمُوهَا، وفِيمَ أنفَقْتُمُوهَا.

اتَّقُوا اللهَ في أولادِكُمْ ذُكُورًا وإناثًا، وتذكَّرُوا قَوَامَتَكُمْ وأَمَانَتَكُمْ فِيمَنْ تحتَ أيديكُمْ، فاحْذَرُوا أنْ تَتَساهَلُوا في أمرِ البَنَاتِ والنساءِ بأنْ يُترَكَ لَهُنَّ الحبلُ عَلَى الغَارِبِ، في اختلاطٍ محرَّمٍ لِوظيفةٍ، أو تبرُّجٍ وسُفُورٍ لِمُتابَعَةِ الآخرينَ، أو غيرِ ذلكَ.

اتَّقُوا اللهَ في أقوالِكُمْ مِن غيبةٍ ونميمةٍ وغيرِهِما مِن المحرماتِ، اتَّقُوا اللهَ في أسْمَاعِكُمْ ألَّا تَسْمَعُوا مَا حَرَّمَ اللهُ مِن أغانِي مَصْحُوبَةٍ بالمَعازِفِ وغيرِ ذلكَ.

اتَّقوا اللهَ في أبصَارِكُمْ في النَّظَرِ فيمَا حرَّمَ اللهُ، فإِنَّ البَصَرَ أسرَعُ طريقٍ إلى القَلْبِ، وهو بوَّابَتُهُ، فاتَّقُوا اللهَ فيهِ، فَكَمْ أفَسَدَ إطلاقُ البَصَرِ مِن قلبٍ كانَ صالِحًا وعامِرًا بطاعةِ اللهِ، نسألُ اللهَ الهِدَايةَ والصَّلَاحَ.

اللهُمَّ يا مَنْ لَا إلهَ إِلَّا أنْتَ أَعِذْنَا مِن فِتْنَةِ الدُّنيا، اللهُمَّ أَعِذْنَا مِن فِتْنَةِ الدُّنيا، اللهُمَّ أَعِذْنَا مِن فِتْنَةِ الدُّنيا، اللهُمَّ أَعِذْنَا مِن فتنةِ المَحْيَا والمَمَاتِ، اللهُمَّ إِنَّا نعوذُ بِكَ مِن الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

وقُومُوا إلى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمْكُم اللهُ.

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب
dsadsdsdsdsads

شارك المحتوى:
0