التحذير من الاغترار بالدنيا


 

الخطبة الأولى

الحَمْدُ للهِ الّذِي جَعَلَ هَذِهِ الحَياةَ دَارَ تَكْليفٍ وَفَناءٍ، والآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ وَبَقَاءٍ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَدَ عِبادَهُ المُتَّقِينَ بِالجَزَاءِ الأَوْفَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ العَبْدُ المُصْطَفَى، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمَ وَبارِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ أَهْلِ البِرِّ وَالتَّقْوَى.

أَمَّا بَعْدَ:

عِبَادَ اللَّهِ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ – جَلَّ وَعَلَا؛ فَهِيَ سَبِيلُ السَّعَادَةِ والْفَوْزِ والنَّجَاحِ دُنْيَا وَأُخْرَى.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّنَا فِي زَمَنٍ عَضُودٍ، تَغَلَّبَتْ فِيهِ المَصَالِحُ الذّاتِيَّةُ عِنْدَ كَثيرٍ عَلَى القِيَّمِ الدِّينِيَّةِ، وَقُدِّمَت المَنَافِعُ الشَّخْصِيَّةُ عَلَى المَعَايِيرِ الأَخْلَاقِيَّةِ.

تَحَكَّمَ فِي النُّفُوسِ حُبُّ الدُّنْيَا، والِاسْتِغْرَاقُ فِي السَّيْرِ وَرَاءَ زَخَارِفِهَا، أَصْبَحَ الوَلَاءُ عِنْدَ كَثيرٍ مِنْ النَّاسِ لِهَذِهِ الدُّنْيَا الفانِيَّةِ، عَلَيْهَا يُوَالُونَ وَيُعَادُونَ، وَمِنْ أَجْلِهَا يُقَدِّمُونَ وَيُؤَخِّرُونَ، بِسَبَبِهَا يَتَصَارَعُونَ، وَمِنْ أَجْلِهَا وَلِتَحْصِيلِهَا يَتَنَازَعُونَ.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ أَعْظَمَ المَخَاطِرِ عَلَى دِينِ العَبْدِ السَّيْرُ وَرَاءَ حُبِّ هَذِهِ الدُّنْيَا الفَانِيَّةِ بِدُونِ ضَوَابِطَ شَرْعيَّةٍ، وَلَا قُيُودٍ دِينِيَّةٍ.

مِنْ أَشَدِّ الفِتَنِ عَلَى المُسْلِمِ التَّكالُبُ عَلَى مَتَاعِ هَذِهِ الحَياةِ الزَّائِلَةِ، وَجَعْلُهَا الغَايَةَ والْهَدَفَ بِحَدِّ ذَاتِهِ دُونَ رَقَابَةٍ إِيمَانِيَّةٍ، وَمُرَاعَاةٍ لِأَحْكَامٍ إِسْلَامِيَّةٍ.

نَعَمْ، عِبَادَ اللَّهِ: مِنْ الفِتَنِ الخَطيرَةِ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّهِ، وَمَبْلَغَ عِلْمِهِ، وَمِحْوَرَ سَعْيِهِ، وَغايَةَ وُجُودِهِ، يَقُولُ – جَلَّ وَعَلَا – مُتَوَعِّدًا مَنْ هَذَا شَأْنُهُ: ﴿وَوَيلٌ لِلكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ۝ الَّذِينَ يَسْتَحِبّونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ في ضَلَالٍ بَعيدٍ﴾. وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ- فِي هَذَا الشَّأْنِ: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.

قَدْ تَعَوَّذَ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ هَذِهِ الْحَالِ المُزْرِيَّةِ، فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلامُ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ مَصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا».

عِبَادَ اللَّهِ: مَنْ غَلَبَ حُبُّ دُنْيَاهُ عَلَى حُبِّ دِينِهِ، وَقَدَّمَ شَهَوَاتِهِ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ؛ فَقَدْ وَقَعَ فِي حَبائِلِ الشَّيْطَانِ الجِسَامِ، وَمَصَائِدِهِ العِظَامِ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- نَاهِيًا المُسْلِمَ عَنْ هَذِهِ السَّبِيلِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ﴾.

رَوَى البُخارِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيلَةِ، إِنْ أُعْطِيَ مِنْهَا رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ».

عِبَادَ اللَّهِ: مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذَا العَصْرِ وَقَدْ طَغَتْ فِيهِ الحَيَاةُ المَادِّيَّةُ المُتَوَحِّشَةُ، وَعُبِدَ فِيهِ الدِّرْهَمُ والدِّينَارُ، مَا أَحْوَجَنَا جَمِيعًا إِلَى مُراجَعَةٍ لِلنُّفُوسِ، وَمُعَالَجَةٍ لِأَمْرَاضِهَا الخَطِيرَةِ، وَأَدْوَائِهَا القَبِيحَةِ، مُتَذَكِّرِينَ مَواعِظَ الوَحْيَيْنِ، مُمْتَثِلِينَ لِقِيَّمِهِمَا، سَالِكِينَ رِضَا الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مُهْتَدِينَ بِسُنَّةِ النَّبيِّ الكَريمِ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ والتَّسْلِيمِ.

عِبَادَ اللَّهِ: اسْمَعُوا لِهَذِهِ الآيَةِ سَمَاعَ تَذَكَّرٍ وَتَدَبُّرٍ، سَمَاعَ اسْتِجَابَةٍ وَانْقِيَّادٍ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ۝ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

تَعَقَّلُوا -رَحِمَكُمْ اللَّهُ- حَدِيثًا جَلِيلًا مِنْ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَّ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَكَّرُ الدُّنْيَا، نَتَذَكَّرُ الفَقْرَ وَنَتَخَوَّفَهُ، فَقَالَ: «آلْفَقَرَ تَخَافُونَ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لتُصَبَّنَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا صَبًّا، حَتَّى لَا يُزِيغَ قَلْبَ أَحَدِكُمْ إِزاغَةً إِلَّا هِيَه (أَيْ: إِلَّا هَذِهِ الحَياةُ)، وايْمُ اللَّهُ، لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ البَيْضاءِ، لَيْلُها وَنَهارُهَا سَوًاءٌ».

حَدِيثٌ عَظيمٌ، عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، يُعالِجُ وَضْعَنَا الخَطِيرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، حَدِيثٌ يُبَيِّنُ أَنَّ أَسْبَابَ المَيْلِ عَن الحَقِّ، وَأَنَّ أَشَدَّ عَوَامِلِ الِانْحِرَافِ عَن الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ، وَأَنَّ أَعْظَمَ أَبْوابِ الفِتَنِ = تَحَكَّمُ الدُّنْيَا فِي القُلوبِ، والإِغْرَاقِ فِي نَيْلِ شَهَوَاتِهَا الفَانِيَّةِ، وَلَذَّاتِهَا المُضْمَحِلَّةِ.

إِنَّ تَعَلُّقَ القُلُوبِ بِالدُّنْيَا وَمَلَذَّاتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْكُومًا بِالحَقَائِقِ الإِيمَانِيَّةِ، وَالأَخْلَاقِ الإِسْلَامِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ يَجُرُّ العَبْدَ إِلَى كُلِّ صِفَةٍ ذَمِيمَةٍ وَفِعْلَةٍ قَبِيحَةٍ، وَإِلَّا فَهَلْ بَخِلَ مَنْ بَخِلَ عَنْ الزَّكَاةِ المَفْرُوضَةِ إِلَّا بِسَبَبِ حُبِّ الدِّرْهَمِ والدّينارِ؟! هَلْ حَصَلَ ظُلْمُ العِبَادِ إِلَّا بِسَبَبِ تَغْلِيبِ هَذِهِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ وَحُبِّ شَهَوَاتِهَا المُضْمَحِلَّةِ؟! هَلْ ارْتَكَسَ بَعْضٌ فِي جَرِيمَةِ الكَذِبِ وَالغِشِّ والخِدَاعِ والحَسَدِ إِلَّا بِسَبَبِ سَيْطَرَةِ هَذَا الحُطامِ الفَانِيِّ؟!

فَحُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، حُبُّ الدُّنْيَا لِذَاتِهَا بِدُونِ تَقَيُّدٍ بِأَحْكَامِ الإِسْلَامِ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، رَوَى البُخارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَّ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ، مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ»، قِيلَ: وَمَا بَرَكاتُ الأَرْضِ؟! قَالَ: «زَهْرَةُ الدُّنْيَا».

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: أَلَا نَتَعَقَّل، أَلا نَتَذَكَّر فِي حَقِيقَةِ هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا دَارٌ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَصَائِبِ، مَلِيئَةٌ بِالرَّزَايَا، مُحَاطَةٌ بِالْمَخاوِفِ والْمَخَاطِرِ؟! هَلْ مِن العَقْلِ السَّلِيمِ والمَنْهَجِ القَويمِ أَنْ نَغْتَرَّ بِزَخَارِفِهَا وبَهَارِجِهَا الخَدَّاعَةِ عَنْ نَيْلِ وَطَلَبِ الدّارِ الباقيَةِ؟!

أَلَسْتَ -أَيُّهَا المَخْلوقُ- إِلَى فَناءٍ مُحَقَّقٍ؟! أَلَمْ تَسْتَبْصِرْ أَنَّ دُنْيَاكَ مِثْلُ فَيْءٍ أَظَلَّكَ ثُمَّ أَذِنَ لِلزَّوَالِ؟!

يَقُولُ رَبُّنا -جَلَّ وَعَلا-: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

فَوَاللَّهِ، مَا أَقْبَلَ عَلَيْهَا امْرُؤٌ مُعْرِضًا عَنْ أَوامِرِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلا-، وَاقِعًا فِي نَوَاهِيهِ، وَمَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهَا أُمَّةُ الإِسْلَامِ مُبْتَعِدَةً عَنْ مَنْهَجِ الدِّينِ إِلَّا كَانَتْ النَّدامَةُ عَظيمَةً، والْعاقِبَةُ والْحَسْرَةُ كَبيرَةً.

فَيَا أَيُّهَا المُسْلِمُ: لَا تُسَاوِمْ عَلَى دِينِكَ بِشَيْءٍ مِنْ زَخَارِفِ هَذِهِ الدُّنْيَا وَلَوْ كَانَ عَظِيمًا، تَكُن السَّعادَةُ وَالعِزَّةُ والِاسْتِقْرارُ والْأَمْنُ.

يَا مَنْ أَعْمَتْهُ الدُّنْيَا وَآثَرَ حُطَامَهَا، فَسَفَكَ الدِّمَاءِ المَعْصومَةَ، وَهَتَكَ الأَعْرَاضَ المَصُونَةَ، وَسَلَبَ الأَمْوالَ المُحْتَرَمَةَ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ الدُّنْيَا: لَقَدْ أَجْرَمْتَ جُرْمًا عَظِيمًا، وَعَصَيْتَ جَبَّارًا كَبِيرًا، فَرَاقِبْ رَبَّكَ، وَعُدْ إِلَى رُشْدِكَ، وَتَذَكَّرْ مَصِيرَكَ.

يَا مَنْ غَرَّتْهُ هَذِهِ الدُّنْيَا، فَسَعَى لِجَمْعِها مِنْ الحَلَالِ والحَرَامِ، اتَّقِ اللَّهَ قَبْلَ فَوَاتِ الأَوَانِ، قَبْلَ مُفارَقَةِ الْمَالِ والْأَهْلِ والْأَوْطانِ.

يَا مَنْ يَتَعَامَلُ بِالرِّبَا وَيَنْشُرُهُ فِي التَّعَامُلَاتِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، خَفْ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلا، وَاحْذَرْ سَخَطَهُ، فَأَخْذُهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.

يَا مَنْ أَطْلَقَ العِنَانَ مِنْ أَبْنَاءِ المُسْلِمِينَ لِقَنَواتِ الفَضَائِحِ، وَنَشَرَهَا بَيْنَ إِخْوَانِهِ المُؤْمِنِينَ، تُبْ إِلَى رَبِّكَ، تَذَكَّرْ قَوْلَ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾.

يَا أَحْبَابَ القَنَوَاتِ المَاجِنَةِ، أَلَمْ يَأْنِ أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ الفِتَنَ تُحِيطُ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ؟! أَلَا تَخْشَوْنَ مِنْ عُقُوبَةٍ عاجِلَةٍ فِي مَالٍ أَوْ فِي نَفْسٍ، أَوْ مِنْ عَاقِبَةٍ سَيِّئَةٍ فِي الآخِرَةِ؟!

يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ الّذِينَ طَغَوْا فِي البِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسادَ: ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ۝ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾.

يَا مَنْ زَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، المُتَاجِرَةُ بِالْوَظِيفَةِ، فَأَصْبَحَ مِنْ المُرْتَشِينَ المُفْسِدِينَ، تَذَكَّرْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الأَعْمَالِ الإِجْرَامِيَّةِ، والْأَعْمَالِ القَبِيحَةِ. اعْلَمْ أَنَّ مَا تَأْخُذُهُ نَارٌ وَشَنَارٌ وَعارٌ، فَبادِرْ بِالتَّوْبَةِ، وَعاجِلْ بِالأَوْبَةِ.

تَذَكَّرْ الآخِرَةَ، اعْلَمْ أَنَّكَ مُفَارِقٌ هَذِهِ الدُّنْيَا الفَانِيَةَ، وَمُقْبِلٌ عَلَى دَارٍ باقِيَّةٍ، تَذَكَّرْ مَوْقِفَكَ أَمَامَ المَلِكِ الجَبَّارِ، تَذَكَّرْ السُّؤَالَ فِي القَبْرِ، أَلَمْ يَقُلْ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ، إِنَّ أَقْوَامًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ».

عِبَادَ اللَّهِ: أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ فَاسْتَغفِرُوه إنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية

الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفيقِهِ وَامْتِنانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولَهُ، الدّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدَ:

عِبَادَ اللَّهِ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ -جَلَّ وَعَلا؛ فَهِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ لِلْأَوَّلِينَ والْآخَرينَ.

عِبَادَ اللَّهِ: كَمْ مِنْ حَبِيبٍ وَدَّعْنَاهُ، وَكَمْ مِنْ قَرِيبٍ دَفْنَاهُ، وَكَمْ مِمَّنْ نَزَلَتْ بِهِ سَكَرَاتُ المَوْتِ عايَنَّاهُ، فَتَرَاهَ يَنْظُرُ إِلَى أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَأَحْبابِهِ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهُ فَيَسْمَعُهُمْ وَلَا يَنْطِقُ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهُمْ وَلَا يَفْعَلُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهُ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ إِنْقاذِهِ: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ۝ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ۝ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾.

﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ۝ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ۝ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ۝ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾.

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ النّاسِ يَغْدُو؛ فَبائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُها» [رَوَاه مُسْلِمٌ].

أَيْ: كُلُّ إِنْسَانٍ يَسْعَى بِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الحَياةِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهَا للهِ -جَلَّ وَعَلا- بِطَاعَتِهِ والتَّقَيُّدِ بِأَوَامِرِهِ، فَيُعْتِقُهَا حِينَئِذٍ مِنَ العَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهَا لِلشَّيْطَانِ وَلِلدَّنْيَا وَالهَوَى، بِاتِّبَاعِ ذَلِكَ وَتَغْلِيبِهِ عَلَى أُمورِ دينِهِ، فَيُوبِقُهَا حِينَئِذٍ؛ أَيْ: يُهْلِكُها.

عِبَادَ اللَّهِ: مِيزَانُ السَّعادَةِ الأَبَدِيَّةِ القِيَامُ بِأُمورِ الدّينِ، والسَّيْرُ فِي هَذِهِ الحَياةِ وِفْقَ الضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ والْأَحْكَامِ النَّبَويَّةِ؛ فَمَن ضَلَّ عَنْ هَذَا الطَّريقِ فَهُوَ مُتَوَعَّدٌ بِالْعَذَابِ يَوْمَ الدّينِ، يَقُولُ جَلٌّ وَعَلا: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ۝ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾.

اللهُمَّ أعزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الـشِّـرْكَ والمُـشـْرِكِين، وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّين.

اللهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِح أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا.

اللهُمَّ وَفِّقْ جَمِيعَ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِلعَمَلِ بِكِتَابِكَ، واتِّباعِ سُنَّةِ نَبِيِّكَ، وَتَحْكِيمِ شَرْعِكَ.

اللهُمَّ وَفِّق إمَامَنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ لِما فِيه عِزُّ الْإِسْلَامَ وَصَلَاحُ الْمُسْلِمِين.

اللهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَإِخْوَانَه وَأَعْوَانَه لِما تُحِبُهُ وتَرْضَاه.

اللَّهُمَّ احْفَظْ جُنودَنا المُرَابِطِينَ وَرِجالَ أَمْنِنَا، وَسَدِّدْ رَمْيَهُمْ يَا رَبَّ العالَمينَ.

اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالحَوْثِيِّينَ المُفْسِدِينَ، وَبِاَلْخَوارِجِ المَارِقينَ، وَبِجَميعِ أَعْداءِ الدّينِ.

اللَّهُمَّ اِكْفِنَا شَرَّهُمْ بِمَا شِئْتَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَدْرَأُ بِكَ فِي نُّحورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرورِهِمْ.

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتَك، وَتَحَوُّل عَافِيَتك، وَفُجَاءَة نَقِمَتِك، وَجَمِيعِ سَخَطِك.

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ البَرَصِ وَالْجُذَام وَالْجُنُونِ وَسَيِّئ الْأَسْقَام.

عِبَادَ اللَّهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾.

فَاذْكُرُوا اللَّهَ العَظيمَ الجَليلَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، واللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

جمع وتنسيق/ عبد الله بن مـحمد بن حسين النجمي

إمام وخطيب جامع الحارة الجنوبية بالنجامية بمنطقة جازان

التحذير من الاغترار بالدنيا – خطبة جمعة للشيخ عبدالله النجمي 07-04-1443 هـ


شارك المحتوى: