إلى متى وهم بالفتوى يعبثون؟!


إلى متى وهم بالفتوى يعبثون؟!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن الفتوى عند السلف الصالح: أمانة عظيمة، وحِمل ثقيل؛ فأحب ما على أحدهم أن يُكفى أمرها، وربما أخّر المستفتي حتى يتأمل؛ وعند أدنى شك أو اشتباه بادر بلا تلكؤ بـ: لا أدري، وإذا لم يجد بُدا من الجواب أجاب خوفا من كتمان العلم، وقلبه يرجف خشية الكذب على دين الله، قال عطاء بن السائب التابعي رحمه الله: (أدركت أقواما يُسأل أحدهم عن الشيء؛ فيتكلم وهو يرعد!)، هذا وهو في العلم أثقلُ من أُحد، وأثبتُ من الوَشم.

والذي مضى عليه أهل الشوكة والسلطة فيهم: أن الإفتاء حمى محفوظ، لا يُمكّن من تسوّره كلُّ من هب ودب.
وربما لم يُنصب للمفتي كرسيه حتى يشهد له علماء بلده أنه أهلٌ له، قال الإمام مالك رحمه الله: (ما أفتيت حتى شهد لي سبعون [أي من العلماء] أني أهلٌ لذلك).
أما العامة؛ فمستجيبة لوصية علمائها: (إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم).

هذا ما كانوا عليه .. ثم آل الأمر في هذا الزمان المتأخر إلى حال مؤسفة، ساوت فيها العراقيب المناكب! (… اتخذ الناس رُءُوسًا جهالا؛ فسُئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا).

إنها ظاهرة “المفتين الخِفاف” التي تفاقمت في الآونة الأخيرة؛ فأوقعت في الناس حيرة واضطرابا؛ فالإفتاء عند هؤلاء غنيمةٌ وأي غنيمة! يُسابقون إليها، ويتواثبون عليها.

ترى أحدهم يتصدى للفتاوى العامة -في الفضائيات أو الصحف أو الشبكة- جذلانا، ومهما عُرض عليه من جليل المسائل: سارع بالجواب، وهي التي ربما لو عُرضت على عُمر لجمع لها أهل بدر!
وهذا الحرص والتقحم مقيتٌ لو كان في هذا المفتي الخفيف شيء من الأهلية؛ فكيف وهو من العلم عارٍ، والرسوخ في علوم الشريعة -عقيدة وفقها وأصولا وتفسيرا وحديثا ولغة- منه أبعد من بيض الأَنُوق!
لم يشهد له بالعلم “صبيان حارته” بله علماء بلده!

الرصيد الذي يحمله: جهلٌ مضموم إلى جُرأة، وربما انضافت إليهما رغبةٌ في شهرة، أو ظفر بحظ دنيء من دنيا.
إن هذه الحال -والله- عجيبة! فالأمر الملكي المؤكَّد ذي الرقم (13876/ب بتاريخ:2/9/1431هـ) يقضي بقصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء ومن يأذن لهم المفتي العام؛ وكثير من القنوات والصحف والمفتين الخِفاف قد رموا به عُرض الحائط! فها هي -عند كل حادثة- تسابق إليهم -أو هم يسابقون إليها- ليستمتع بعضهم ببعض!
وإذا كان تمكين الجهال من منصب الإفتاء خطبا جسيما؛ فكيف إذا كان وراء الأكمة ما وراءها!

فقد بات من الواضح أنه إذا أريد “تمرير” شيء ما؛ فلا يحتاج الأمر إلى أكثر من “تحريك” واحد أو اثنين من هؤلاء الجهال أهل الخِفّة والفتوى “المطلوبة” ستكون جاهزة -بالمقاس- في طرفة عين!
حتى إن جملة من ذوي الأغراض والتوجهات الفاسدة قد استغنوا عن كثير من العناء ومجابهة الصالحين بهؤلاء؛ فجاهلٌ أو منتكسٌ صاحبُ هوى، يُرقم تحت اسمه -تسويقا-: (فضيلة الشيخ، أو: الباحث الإسلامي ..) ينهض بالمطلوب بكفاية!
فالمقص الصدئ والخيط بيده؛ “يقصقص” ويشذب، ويفصّل ويخيط من الأحكام ما يهوى، وما يشتهون، ومركب التعليل ذلول؛ وهو تطويع (المصلحة، الحاجة، مقاصد الشرعية، الخلاف ..) للأهواء، مع عدم نسيان الطبع بالطابع العائم: وفق الضوابط الشرعية!

وهم إن أقنعوا فئة من العامة بما يرومون ترويجه فهو مكسب لا بأس به، وإلا فمجرد إثارة الغبار وتحريك المياه الراكدة -أول مرة- كافٍ؛ فبعض الأغرار لا يحتاج إلى أكثر من هذا؛ ليقنع نفسه، أو يشيع في المجالس ووسائل التواصل: (ترى المشايخ حلّلوه!) أو: (على الأقل المسألة فيها خلاف!)، فإذا طُرح الموضوع مرة ثانية ثم ثالثة: صار القولَ المشهور!
إن هذه المعضلة جلل، وهي جديرة بالوقوف الجاد أمامها، والكل مسئول، والمقام يحتاج إلى مزيد بسط وتفصيل، وما هذه الكلمات إلا نفثة مصدور والتفاتة مذعور.

إن على الصادقين أن يفقهوا؛ فالواقع يُنذر بشرٍّ مستطير؛ فإنه إن تمادى الزمان وحبل المفتين -المفتونين- مُلقى على غاربهم؛ فالثمرة مُرّة؛ فإن القوم جادّون في تفصيل دين تُلوى فيه الأدلة حسب الأمزجة، يتوافق والرغبات، ويخضع للنزوات.
وقد نذروا أنفسهم لمراغمة أهل العلم، وإقناع العامة بأن فتاوى علمائهم الراسخين: دينٌ رجعي، وتشدد في تشدد! والمشتكى إلى الله.
اللهم اكفِ المسلمين شر كل ذي شر.

كتبه: أ.د. صالح بن عبدالعزيز سندي
21/6/1439هـ


شارك المحتوى: