أسماء الله وصفاته بين أهل السنة والمبتدعة


الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدي اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومَن يُضلِل فلا هاديَ لَهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شركَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أمَّا بعدُ:

فإنَّ أهلَ السنةِ والجماعةِ يُؤمنونَ بما جاءَ في كتابِ اللهِ وصحيحِ سنةِ رسولِ اللهِ ﷺ، بأنَّ للهِ أسماءً وصفاتٍ تليقُ بِهِ، كما قالَ سبحانهُ: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180].

وكما قالَ في إثباتِ صِفاتِهِ سبحانَهُ: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: 180-182] قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: فإنَّ اللهَ نزَّهَ نفسِهُ عمَّا يصِفُهُ المُخالِفونَ للرُّسُلِ، فدَلَّ بمفهومِهِ وبثنائِهِ على فعلِ الرُّسُلِ أنهُ يُقِرُّ بما أثبَتَتْ لَهُ الرُّسُلُ مِن صفاتِهِ سبحانهُ وتعالى.

وثبتَ في الصحيحينِ عن عائشةَ -رضي الله عنها- أنَّ النبيَّ ﷺ أرسلَ سريَّةً وجعلَ على السَّريَّةِ أميرًا، فكانَ هذا الأميرُ كُلَّمَا صلَّى بمَن معَهُ قرأَ في الركعةِ الثانيةِ سورةَ الإخلاصِ، فلما رجعوا وأخبروا النبيَّ ﷺ، قال ﷺ: «سلوهُ لِمَ يقرؤها؟» قال: إنَّ فيها صفةَ الرحمنِ، وإنِّي أُحبُّها، فقالَ النبيُّ ﷺ: «أخبروهُ أنَّ اللهَ يُحبِّهُ»، فذكرَ العلماءُ أنَّ في هذا دلالةً على إقرارِ رسولِ اللهِ ﷺ لهذا الأميرِ على السَّريَّةِ على أنَّ للهِ صفات.

فأهلُ السنةِ يُثبتونَ أنَّ للهِ أسماءً وصفاتٍ كما ثبتَ في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِ اللهِ ﷺ، إلا أنهم يسلكونَ مسلكًا دلَّ عليهِ القرآنُ، وهو أنهم يجمعونَ بينَ أمرينِ:

الأمرُ الأولُ: الإثباتُ، والأمرُ الثاني: نفيُ التشبيهِ والتمثيلِ، كما قالَ سبحانهُ في سورة الشورى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] فجَمَعتْ هذهِ الآيةُ بينَ أمرينِ:

الأمرُ الأولُ: نفيُ المثيلِ والمُشابِهِ.

الأمرُ الثاني: الإثباتُ للهِ.

فيقولُ أهلُ السنةِ: إنَّ للهِ يَدَيْنِ كما قالَ سبحانَهُ: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64] وكما قالَ سبحانهُ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75] لكنَّهُم يقولونَ: إنَّ يدي اللهِ مُغايرةٌ لأيدي المخلوقينَ، كما أنَّ للهِ ذاتًا تُغايرُ ذواتَ المخلوقينَ، فكذلكَ لهُ صفاتٌ تُغايرُ صفاتِ المخلوقينَ.

فإذَنْ أهلُ السنةِ يُثبتونَ ما جاءَ مِن الصفاتِ ويُراعونَ في ذلكَ نفيَ التمثيلِ، كما قالَ سبحانهُ: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65] وكما قالَ سبحانهُ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1-4] إلى غيرِ ذلكَ مِن الآياتِ.

فيقولُ أهلُ السنةِ: إنَّ للهِ عينينِ كما دلَّت على ذلكَ سنةُ رسولِ اللهِ ﷺ وكما أجمعَ على ذلكَ أهلُ السنةِ، ثُمَّ يقولونَ: إنَّ عيني اللهِ تُغايُرُ أعينَ المخلوقينَ.

فإنْ قالَ قائلٌ: كيفَ يُتصوَّرُ هذا؟

قالَ الإمامُ ابنُ خزيمةَ -رحمه الله تعالى- في كتابِهِ (التوحيد): يا أهلَ الحِجَا، إنَّ للفأرةِ يدينِ، وللقردِ يدينِ، وللإنسانِ يدينِ، ولا يلزَمُ مِن ذلكَ المُشابهةُ، بَل لِكُلٍّ يدانِ تليقُ بحالِهِ، وللهِ المثلُ الأعلى.

إخوةَ الإيمانِ، كُلُّ ما جاءَ في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ النبيِّ ﷺ مِن الصفاتِ، فيجبُ علينا أن نُثبِتَهَا للهِ على أكملِ حالٍ مِن غيرِ مُشابهةٍ للمخلوقينَ، وبهذا نُخالِفُ أهلَ البدعِ مِن المؤولةِ كالأشاعرةِ والماتريديةِ، وغيرهِم لمَّا تأوَّلوا صفاتِ اللهِ، قالَ أهلُ التأويلِ المبتدعِ : إنَّ معنى قولِهِ تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ أي: بَلْ نِعمَتَاهُ وقُدْرَتَاهُ مبسوطَتَانِ

فردَّ عليهِم أهلُ السنةِ -رحمهم الله تعالى- بقولِهِم: إنَّكم أثبتُّم للهِ قُدرةً وتخيَّلتُم هذهِ القُدرةَ غيرَ مُماثِلةٍ لِقُدرةِ المخلوقينَ، فَكَمَا قلتُم ذلكَ في القُدرةِ فقولوهُ في اليدينِ للهِ سبحانهُ، فكما أثبتُّم قُدرةً تليقُ باللهِ غيرَ مُشابهةٍ لِقُدرةِ المخلوقينَ، فأثبِتُوا للهِ يدينِ تليقُ بهِ غيرَ مُشابهةٍ وَلَا مُماثِلَةٍ لأيدي المخلوقينَ.

اللهَ اللهَ، أن نلزَمَ طريقَ أهلِ السنةِ حتَّى نكونَ مِن الناجينَ، ومِن الفرقةِ الناجيةِ التي أخبرَ النبيُّ ﷺ بنجاتِهَا، كما ثبتَ عِندَ أحمدَ وأبي داودَ عن معاويةَ بنِ أبي سفيانَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً – يَعْنِي: الْأَهْوَاءَ -، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ».

وهذهِ الجماعةُ هم أهلُ السنةِ، كما ثبتَ في الصحيحينِ عن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ ومعاويةَ بنِ أبي سفيانَ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ ذكرَ هذهِ الجماعةَ الناجيةَ بقولِهِ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ».

اللهُمَّ يا مَن لا إلهَ إلا أنتَ، اجعَلْنا مِمَّنْ سلَكَ طريقَ السلفِ الصالحِ فكانَ مِن الناجينَ، يا أرحمَ الراحمينَ.

أقولُ ما قُلتُ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكُمْ فاستغفروهُ، إنهُ هو الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:

فإنَّ مِمَّا يُثبتُهُ أهلُ السنةِ ما دلَّ عليهِ الكتابُ العزيزُ، والسنةُ النبويةُ، والإجماعُ والفِطرةُ والعقلُ، مِن أنَّ اللهَ سبحانهُ فوقَ مخلوقاتِهِ، إنَّ الأدلةَ الشرعيةَ قَدْ تكاثرَتْ على أنَّ اللهَ فوقَ مخلوقاتِهِ، بل ذكرَ بعضُ العلماءِ أنَّ هناكَ ألفَي دليلٍ على أنَّ اللهَ فوقَ مخلوقاتِهِ.

قالَ سبحانهُ: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: 50] وقالَ سبحانهُ: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255] وقالَ سبحانهُ: ﴿أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ [الملك: 16].

وقولُهُ: ﴿مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ أي: مَن فوقَ السماءِ، كقولِهِ تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ﴾ [الأنعام: 11] أي: فوقَ الأرضِ.

وثبتَ في صحيحِ مسلمٍ عن معاويةَ بنَ الحكمِ السُّلَميِّ -رضي الله عنه- أنهُ أرادَ أن يَعتِقَ جاريةً، فأتى بِها إلى النبيِّ ﷺ، فسألَ النبيُّ ﷺ هذهِ الجاريةَ: «أَيْنَ اللهُ؟» قالَتْ: في السماءِ، قالَ: «مَنْ أَنَا؟» قالَتْ: أنتَ رسولُ اللهِ ﷺ، قالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ».

وهذا الحديثُ صريحٌ في أنَّ اللهَ فوقَ مخلوقاتِهِ، وصريحٌ في جوابِ السؤالِ عنِ اللهِ بـ(أين) خلافًا للمتكلمينَ كالأشاعرةِ والماتُريديةِ وغيرِهِما.

وقَدْ أجمعَ أهلُ السنةِ على أنَّ اللهَ فوقَ مخلوقاتِهِ، كما تواردَ أهلُ السنةِ على حكايةِ ذلكَ في كتبِ الاعتقادِ، ودلَّتْ على ذلكَ الفِطرةُ، فإنَّ الإنسانَ إذا اشتكَى رفعَ بصرَهُ إلى السماءِ، وإذا دعا رفَعَ أَكُفَّيهِ إلى السماءِ، لعِلْمِهِ أنَّ ربَّهُ فوقَ السماواتِ، بَلْ إنَّ البهائمَ إذا اشتَكَتْ رفعَتْ بصَرَها إلى السماءِ.

وأمَّا العقلُ، فقَدْ قالَ الإمامُ أحمدُ: المكانُ مكانانِ، إمَّا مكانُ عُلُوٍّ أو مكانُ سُفْلٍ، وللهِ المكانُ الأحسَنُ ولَهُ المثلُ الأعلى، فلَهُ المكانُ الأعلى سبحانهُ وتعالى.

إذَنْ دلَّ الكتابُ والسنةُ والإجماعُ والعقلُ والفِطرةُ على أنَّ اللهَ فوقَ مخلوقاتِهِ، كما قالَ سبحانهُ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] في سبعِ آياتٍ، أي علا وارتَفَعَ وصعَدَ.

وقَدْ يَتَوهَّمُ مَن لا يدري أنَّ آياتِ المعيَّةِ كقولهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128] تدلُّ على أنَّ اللهَ ليسَ فوقَ السماءِ، وهذا خطأٌ مِن جهةِ اللغةِ، فإنَّ معنى كلمةِ (مع) تختلِفُ بحَسَبِ سياقِها.

تقولُ: وضعتُ الماءَ مَعَ اللبَنِ فمُقتضَى السياقِ أن تَخْلِطَ الماءَ مَعَ الَّلبَنِ.

وتقولُ: مَشَيْتُ وسِرْتُ مَعَ صاحِبي فمُقتضَى السياقِ أن تكونَ مُجاوِرًا لَهُ.

وتقولُ: سِرْتُ مَعَ القَمَرِ. ومُقتضى السياقُ أن تسيرَ والقمرُ فوقَ السماءِ.

ويقولُ الأميرُ والمَلِكُ لجيشِهِ: اذهبُوا وأنَا معَكُم. ومُقتَضَى السياقُ أنهُ يُؤيِّدُهُم وينصُرُهم.

إذَنْ لفظُ (مع) في لغةِ العربِ لا يقتَضي المُلاصَقَةَ وَلَا المُجاوَرَةَ وَلَا المُخالَطةَ مُطلقًا، بَلْ يتغيَّر معناها بحسبِ السياقِ.

ويلتَبِسُ على بعضِهِم قولُهُ تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزخرف: 84] ومعنَى هذهِ الآيةِ كما ذكرَ الإمامُ أحمدُ وغيرهُ مِن أهلِ العلمِ: أي هوَ المعبودُ في السماءِ والأرضِ، يعبُدُهُ مَن في السماءِ مِن الملائكةِ، ويعبُدُهُ الصالحيونَ في الأرضِ كصالِحِي بني آدمَ.

ومِمَّا يلتَبِسُ على بعضِهِم قولُهُ تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة: 7] ومعنى هذهِ الآيةِ كما تقدَّمَ أنهُ يعلَمُ حالَهُم، ويُؤيِّدُ ذلكَ ويُوضِّحُهُ، أنَّ اللهَ افتَتَحَ الآيةَ بالعلمِ واختَتَمَها بالعلمِ، قالَ سبحانهُ: ﴿أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ وقالَ في آخرِ الآيةِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.

أيها المسلمونَ، اتَّقوا اللهَ والزَمُوا اعتقادَ السَّلَفِ في رَبِّنَا سبحانهُ، وكونوا سلفيينَ على الصراطِ المستقيمَ سائرينَ، وعلى الهُدى مُتمسكينَ حتى تلقوا اللهَ ناجينَ.

اللهُمَّ يا مَن لا إلهَ إلا أنتَ، اللهُمَّ أحينا على التوحيدِ والسنةِ، وأمِتنا على ذلكَ، واجعلنا نلقاكَ راضيًا عَنَّا يا أرحمَ الراحمينَ…

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

شارك المحتوى:
0