« أسئلة في عرصات يوم القيامة »
محمد بن سليمان المهوس /جامع الحمادي بالدمام
30/5/ 1447
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: روى التِّرمِذِيُّ في سُنَنِهِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ –: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ: عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ].
أيُّهَا المُسْلِمُونَ: فِي مَوْقِفِ الحِسَابِ، عِنْدَمَا يُحْشَرُ النَّاسُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 47]، تَقِفُ العُمُومُ مِنَ الأَقْدَامِ وَلاَ تَتَحَرَّكُ حَتَّى يَسْأَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ عَبْدٍ عَنْ عِدَّةِ أَشْيَاءَ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ – كَمَا ذَكَرَ أَهْلُ العِلْمِ – مَنْ جَاءَ فِيهِ النَّصُّ أَنَّهُ لاَ يُحَاسَبُ، كَالسَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ.
يُسْأَلُ العَبْدُ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الأَحَادِيثِ: «وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ». فَالإِنْسَانُ يُحَاسَبُ عَلَى المُدَّةِ الزَّمَنِيَّةِ الَّتِي عَاشَهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَهِيَ مُكَوَّنَةٌ مِنْ أَنْفَاسٍ وَسَاعَاتٍ وَأَيَّامٍ وَشُهُورٍ؛ يُحَاسَبُ الإِنْسَانُ: كَيْفَ قَضَاهَا؟ وَفِي مَاذَا قَضَى هَذِهِ السَّاعَاتِ؟ وَفِي مَاذَا قَضَى هَذِهِ الأَيَّامَ؟ هَلْ قَضَاهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ؟ أَمْ أَضَاعَ زَمَانَهُ وَقَضَاهُ فِي مَعْصِيَتِهِ، حَتَّى تَصَرَّمَ عُمُرُهُ دُونَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ أَوْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ يَنْفَعُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؟
وَيُسْأَلُ عَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ فِيهِ؛ أَيْ: يُحَاسَبُ عَنِ العِلْمِ الَّذِي مَعَهُ، هَلْ تَعَلَّمَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ خَالِصًا أَمْ رِيَاءً وَسُمْعَةً؟ وَهَلْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَمْ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ؟ تَعَلَّمَ التَّوْحِيدَ، فَمَاذَا عَمِلَ بِهَذَا العِلْمِ؟ هَلْ طَبَّقَهُ عَلَى نَفْسِهِ؟ وَتَعَلَّمَ سُنَّةَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – فَهَلْ عَمِلَ بِهَا وَجَانَبَ البِدَعَ فِي القَوْلِ وَالعَمَلِ؟ وَتَعَلَّمَ أَنَّ الصَّلاَةَ فَرْضٌ وَوَاجِبَةٌ مَعَ الجَمَاعَةِ فِي المَسْجِدِ، فَهَلْ حَضَرَ الصَّلاَةَ وَحَافَظَ عَلَيْهَا جَمَاعَةً مَعَ المُسْلِمِينَ؟ تَعَلَّمَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَظْلِمَ عِبَادَ اللَّهِ، وَلاَ يَتَعَدَّى عَلَى حُقُوقِهِمْ بِمَالٍ أَوْ عِرْضٍ، وَلاَ يَنْظُرَ إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَهَلِ الْتَزَمَ بِذَلِكَ وَوَقَفَ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى؟ تَعَلَّمَ أَنَّ المُسْكِرَاتِ أُمُّ الخَبَائِثِ، وَأَنَّ الرِّبَا حَرْبٌ مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ مَلْعُونٌ مَنْ يَتَعَاطَاهَا وَيَتَعَامَلُ بِهَا، فَهَلِ الْتَزَمَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ؟
وَيُسْأَلُ عَنْ مَالِهِ: مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ هَلِ اكْتَسَبَهُ مِنْ طَرِيقٍ حَلاَلٍ وَأَنْفَقَهُ فِي وُجُوهِ الخَيْرِ، فَرُزِقَ البَرَكَةَ وَالفَلاَحَ وَالقَنَاعَةَ فِيهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ –: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]
أَمِ اكْتَسَبَ المَالَ بِالحَرَامِ، أَوْ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ تُوصِلُهُ إِلَيْهِ: كَالْغِشِّ، وَالخِدَاعِ، وَالمَكْرِ، وَالكَذِبِ، وَالغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالرِّشْوَةِ، وَالغُلُولِ؛ حَتَّى أَصْبَحَ – كَمَا وَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ –: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالقَطِيفَةِ وَالخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ].
وَيُسْأَلُ عَنْ أَمْوَالِهِ: كَيْفَ أَنْفَقَهَا؟ هَلْ سَخَّرَهَا فِي مَعْصِيَةٍ؟ أَمْ أَضَاعَهَا بِالإِسْرَافِ وَالمُبَاهَاةِ وَالتَّبْذِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ المُحَرَّمَةِ؟
فَاتَّقُوا اللهَ – أيُّهَا المُسْلِمُونَ – وَأَعِدُّوا لِلسُّؤالِ جَوَاباً، وَلِلْجَوابِ صَواباً فَالْأَمْرُ جِدُّ خَطِيِرٌ ، وَالنَّاقِدُ بَصِيِرٌ ، وَلاحَوْلَ وَلاقُوَّةَ إِلا بِاللهِ .
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلاً صَالِحًا مُتَقَبَّلاً.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ سَيُسْأَلُ عَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ ؛ هَذَا الْجِسْمُ بِعَافِيَتِهِ وَصِحَّتِهِ، هَلِ اسْتَغَلَّهُ فِي طَاعَةِ اللهِ وَالسَّعْيِ فِي مَرْضَاتِهِ؟ أَوْ أَنَّهُ اسْتَغَلَّ هَذِهِ الْعَافِيَةَ وَهَذَا الْجِسْمَ فِي الْمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشِ، وَأَذِيَّةِ النَّاسِ، وَإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِمْ، وَالتَّعَالِي عَلَيْهِمْ فِي الأَرْضِ؟
كُلُّ مَا فِي جِسْمِ الْعَبْدِ سَيَسْأَلُ اللهُ الْعَبْدَ عَنْهُ؛ حَتَّى الْعَيْنُ وَالأُذُنُ وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ وَسَائِرُ الأَعْضَاءِ وَالأَبْعَاضِ، هَذِهِ الأَشْيَاءُ كَيْفَ تَصَرَّفَ بِهَا؟ كَيْفَ عَمِلَ بِهَا؟ هَلْ شَكَرَ اللهَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ، أَوْ أَنَّهُ اسْتَغَلَّهَا فِي مَعْصِيَةِ رَبِّهِ؟ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾ [الإسراء: 36].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عِنْدَ السُّؤَالِ، وَهَوِّنْ عَلَيْنَا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَارْزُقْنَا الْجَنَّةَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِالإِسْلامِ قَائِمِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلامِ قَاعِدِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلامِ رَاقِدِينَ، وَلا تُشْمِتْ بِنَا أَعْدَاءً وَلا حَاسِدِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ عَهْدِهِ ، وَوَفِّقْ جَمِيعَ وُلاةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَمَل بِكِتَابِكَ وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ .
اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.