أسمع قاعدتين: يغتفر تبعًا ما لا يغتفر أصلًا؛ والحاجة إذا عمت تنزل منزلة الضرورة، فما معناهما؟ وما دليلهما؟
يقال: أما قاعدة “يغتفر تبعًا مالا يغتفر أصلًا”، أي: أن الشيء قد يكون محرمًا، فلو تُقُصِّد وجُعِل أصلًا مقصودًا ففعله محرَّمٌ، لكن لو لم يُتقصَّد وإنما تقصد غيره وجاء تبعًا للمحرم فإن مثل هذا يجوز.
ومن أدلة هذه القاعدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيحين قال:((مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّر، فَثَمَرَتُهَا لِلَّبائع، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ)).
معنى هذا الحديث: أن من اشترى نخلًا، وقد لُقِّح، فثمرة هذا النخل للبائع إذا لم يشترط المشتري؛ إذن الأصل في هذا الثمر أنه للبائع.
مفهوم المخالفة: أن النخل إذا لم يُؤبَّر، لم يُلقَّح فثمرته للمشتري، ففي مثل هذا جاز أن يشترى الثمر قبل أن يبدوَ صلاحه؛ والشريعة نهت عن بيع الثمر قبل أن يبدوَ صلاحه، كما في حديث ابن عمر أيضًا في الصحيحين: ((نهي عن بيع الثمار؛ حتى يبدوَ صلاحها)).
لكن في مثل هذا الحديث جاز بيع الثمار قبل أن يبدوَ صلاحها، لماذا جاز؟ جاز؛ لأنه تبع للأصل، فيغتفر تبعا ما لا يغتفر أصلًا.
وأعيد بيان وجه الدلالة من الحديث، قال: نهي عن بيع الثمار، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا))، أي: اشترى نخلًا ((بعد أن تُؤبر))، أي: تلَّقح، ((فثمرتها للبائع)).
مفهوم المخالفة: قبل أن تلقح، فثمرتها لمن؟ للمشتري، كيف جاز للمشتري أن يشتري هذا الثمر وهو لم يَبْدُ صلاحه؟ جاز؛ لأنه تبعٌ للأصل، وهو للنخلة، فيغتفر تبعًا ما لا يغتفر أصلًا.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في “الفتاوى الكبرى” أن جواز مثل هذا، أي: قبل أن تُؤبر، جائز للمشتري بإجماع أهل العلم.
إذن هذا من الأدلة على أنه يغتفر تبعًا لما لا يغتفر أصلًا.
وهذه القاعدة مهمة في حياتنا المعاصرة، فمثلًا لو أراد رجلٌ أن يؤجِّر بيتًا لعائلة، وهذه العائلة استأجرت البيت للسُكنى، ولكنها قد تفعل في هذا للبيت المحرمات، قد تشاهد ما حرم الله إلى غير ذلك.
فيقال: الأصل هو السُكنى، وما حصل من المحرمات فهو تبعًا، فيغتفر تبعًا ما لا يغتفر أصلًا.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: قد يستأجر رجلٌ من رجلٍ ما نسميه نحن بالبقالة أو التموينات، أي: لبيع المواد الغذائية وغيرها، إذا استأجر من هذا الرجل هذا المكان، فالأصل أنه استأجرها لبيع المبيحات، ولكن قد يبيع المحرمات كالدخان، فهل يحرم التأجير لمن يبيع الدخان مع المواد الغذائية؟
فيقال في مثل هذا: أنه جائز بقاعدة “يغتفر تبعًا ما لا يغتفر أصلًا”، وعلى هذا فقس، هذه قاعدة مهمة في تسهيل كثيرٍ من الأمور .
أما القاعدة الثانية: “الحاجة إذا عمَّت تنزَّل منزلة الضرورة”.
فمعنى هذه القاعدة: أن المحرمات لا تباح إلا عند الضرورة، كما قال تعالى:﴿ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إليهِ ﴾ [الأنعام :119].
أما الحاجيات فإنها لا تبيح الضرورة إلا في حال واحدة، وهي إذا عمت، يحتاج لها كثيرٌ من المسلمين، فصارت عامة، ففي مثل هذا تبيح الحاجة المحرَّم؛ وذلك أن الحاجة إذا عمّت تكون في منزلة الضرورة، فتبيح المحرمات.
وهذه القاعدة ذكرها جمع من أهل العلم، فقد ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب “بدائع الفوائد”، وذكرها ابن نجيم في “الأشباه النظائر”، وذكرها السيوطي في “الأشباه والنظائر”.
واستدل السيوطي، وابن نجيم على هذه القاعدة: بأن الشريعة أجازت الإجارة ،وأجازت الجُعالة، وحقيقة الإجارة والجُعالة أن فيها غررًا، لكن هذا الغرر عفت عنه الشريعة؛ لأن الناس محتاجون للإجارة، ومحتاجون للجعالة؛ فلأجل هذا صارت الحاجة عامة، والحاجة إذا صارت عامة تنزّل منزلة الضرورة.
فلو استأجرتَ رجلًا على أن يبنى لك حائطًا، وقلت: لك في كل ساعة خمسون ريالًا، فهذا الرجل قد ينجز كثيرًا، وقد ينجز قليلًا، أو وسطًا.
إذن في هذا غرر، فكيف أجازت الشريعة هذا؟ ولم تلتفت إلى هذا الغرر؟ لأنه حاجة، لأن احتياج الإجارة حاجة عامة تنزل منزلة الضرورة.
ومثل ذلك الجُعالة، لو قلت لقائلٍ: فقدت سيارتي أو فقدت هاتفي النقال، فمن وجده، فله كذا وكذا من المال.
فإن الباحث عن هذا قد يجده في خلال ساعة، وقد يجده بعد يومين مع شدة بحثٍ.
إذن الجهد الذي يبذله قد يكون كثيرًا، وقد يكون قليلًا؛ لكن الشريعة عَفت عن هذا، ولم تلتفت إلى هذا الضرر، وإلى هذا الغرر للباحث أو للذي جعل الجُعالة لأنه قد يجده سريعًا، عَفت عن هذا من باب قاعدة: الحاجة إذا عمّت تنزّل منزلة الضرورة، ولهذه القاعدة أمثلة يحتاج إليها كثيرًا، ومن أمثلة ذلك :
ما يسمى في زماننا باشتراء بطاقات الإنترنت مسبوقة الدفع، يأتي رجل فيشتري بطاقة إنترنت بمبلغ معين، وتكون مفتوحة، أو تكون محددة بحجم معيّن، ويسمح له أن يستفيد منها شهرًا، بمعنى: إذا ذهب هذا الشهر ولم يستعملها فقد ذهبت عليه؛ هذا في الأصل محرَّم؛ لأن فيه غررًا؛ لذلك الشريعة لا تجيز مثل هذا إلا أن يكون المال مقابل الاستفادة، لكن مثل هذا يجاز – والله أعلم- بقاعدة: الحاجة إذا عمّت تنزَّل منزلة الضرورة، وذلك بأنك لو استأجرت إنترنت مفتوحًا، أو بطاقة مفتوحة للإنترنت قد تستعملها كثيرًا، وقد تستعملها قليلًا، وقد لا تستعملها، وإذا ذهب شهرٌ، ذهبت عليك، هذا كما تقدم فيه غرر، والشريعة نهت عن الغرر، وهو محرم شرعًا، لكن بماذا يجاز مثل هذا؟ يجاز بقاعدة: الحاجة إذا عمَّت تنزل منزلة الضرورة.
ولهذه القاعدة أمثلة، ويحتاج إليها كثيرًا.
وهاتان القاعدتان، وهي قاعدة “يغتفر تبعًا ما لا يغتفر أصلًا”، وقاعدة “الحاجة إذا عمَّت تنزَّل منزلة الضرورة” كلا هذين القاعدتين مندرجتان تحت القاعدة الكلية التي هي إحدى القواعد الخمس الكلية: أن المشقة تجلب التيسير.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يفقّهنا في الدين، وأن يعلّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علّمنا، إنه الرحمن الرحيم، وجزاكم الله خيرًا.