أسوء هذيان ظهر حتى الآن في فتنة اختلاط الجنسين في بلاد الحرمين


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فمن المعلوم أن من نعم الله على بلاد الحرمين في الزمان المتأخر أن جعل ولايتها في أسرة كريمة، بدأت تلك الولاية في منتصف القرن الثاني عشر الهجري على يد الإمام محمد بن سعود رحمه الله بمؤازرة وتأييد وتسديد من الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقد قامت على أساس الالتزام بأحكام الكتاب والسنة، ومن ذلك احتشام النساء واحتجابهن وبعدهن عن مخالطة الرجال، وكان ذلك الالتزام بأحكام الشريعة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب بقائها واستمرارها، في الوقت الذي حرص كثيرون على الظفر بالولاية فلم يفرحوا بذلك ولم تقر لهم به عين، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وقد مرت الدولة السعودية بعهود ثلاثة، بدأ العهد الثالث منها قبل مائة عام بولاية الملك عبد العزيز رحمه الله مؤسس المملكة العربية السعودية، وقد ظلت النساء في هذا العهد محافظة على الحشمة والفضيلة والسلامة من التبرج والاختلاط بالرجال وبقيت متميزة على غيرها من البلاد الأخرى التي بدأ انفلات النساء فيها بكشف الوجوه، ثم الكشف عما هو أكثر من ذلك من أجسامهن واختلاطهن بالرجال في مختلف المجالات حتى في العمل والدراسة والتدريس، وقد ذكر الشيخ علي الطنطاوي رحمه في ذكرياته (5/226) أن أول امرأة مسلمة كشفت وجهها في بلاد الشام كان قبل الحرب العالمية الأولى وأنه يذكر ذلك في صغره، ثم ذكر ما آل إليه أمر النساء في تلك البلاد من التهتك والانفلات، وقد نقلت كلامه في رسالة ((وجوب تغطية المرأة وجهها وتحريم اختلاطها بغير محارمها)) (ص 41)، وفي رسالة: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم أسباب قيام الدولة السعودية وبقائها)) (ص 31)، وكانت محافظة النساء في بلاد الحرمين على الحجاب وعدم اختلاطهن بالرجال برعاية وتوجيه واهتمام من ولاة الأمور فيها وبعناية واهتمام من هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللملك عبد العزيز رحمه الله كلام عظيم رصين في ذم اختلاط الرجال بالنساء مثبت في كتاب ((المصحف والسيف: مجموعة من خطابات وكلمات ومذكرات وأحاديث جلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله)) جمع وإعداد محيي الدين القابسي (ص 322)، ومنه قوله: ((أقبح ما هنالك في الأخلاق ما حصل من الفساد في أمر اختلاط النساء بدعوى تهذيبهن وفتح المجال لهن في أعمال لم يخلقن لها، حتى نبذن وظائفهن الأساسية: من تدبير المنزل، وتربية الأطفال، وتوجيه الناشئة الذين هم فلذات أكبادهن وأمل المستقبل … وادعاء أن ذلك من عمل التقدم والتمدن، فلا ـ والله! ـ ليس هذا (التمدن) في شرعنا وعرفنا وعادتنا، ولا يرضى أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان وإسلام ومروءة أن يرى زوجته أو أحداً من عائلته أو من المنتسبين إليه في هذا الموقف المخزي، هذه طريق شائكة تدفع بالأمة إلى هوَّة الدمار، ولا يقبل السير عليها إلاَّ رجل خارج عن دينه، خارج من عقله، خارج من تربيته))، وقوله: ((إنَّني لأعجب أكبر العجب ممن يدَّعي النور والعلم وحب الرقي لبلاده، من الشبيبة التي ترى بأعينها وتلمس بأيديها ما نوَّهنا عنه من الخطر الخلقي الحائق بغيرنا من الأمم، ثم لا ترعوي عن ذلك، وتتبارى في طغيانها، وتستمر في عمل كلِّ أمر يخالف تقاليدنا وعاداتنا الإسلامية والعربية، ولا ترجع إلى تعاليم الدين الحنيف الذي جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة وهدى لنا ولسائر البشر)).
وقد أوردت كلامه رحمه الله في الرسالتين السابقتين (ص 55 ــ 59) و (ص 44 ــ 4 وفي رسالة: ((لماذا لا تقود المرأة السيارة في المملكة العربية السعودية؟)) (ص 21 ــ 25).
وآخر الولاة الذين مضوا من أبناء الملك عبد العزيز رحمه الله الملك فهد رحمه الله، وقد امتدت ولايته إلى ما يقرب من ربع قرن ــ وكان طولُ مدة ولايته رحمه الله طولاً في أعمار إخوته ولاة الأمر من بعده حفظهم الله وجعلهم ممن طالت أعمارهم وحسنت أعمالهم وحفظ بهم بلاد الحرمين من كل سوء ــ وقد أصدر فيها ثلاثة تعاميم في منع اختلاط النساء بالرجال برقم: 11651 في 16/5/1403هـ، و2966/م في 19/9/1404هـ، و46/س/2 في 28/4/1421هـ، ونص التعميم الأخير الموجه لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله إبان ولايته للعهد والمعطى منه نسخة لكل وزارة ومصلحة حكومية أو مؤسسة عامة للاعتماد:
((نشير إلى الأمر التعميمي رقم 11651 في 16/5/1403هـ المتضمن أن السماح للمرأة للعمل الذي يؤدي إلى اختلاطها بالرجال سواء في الإدارات الحكومية أو غيرها من المؤسسات العامة أو الخاصة أو الشركات أو المهن ونحوها أمر غير ممكن سواء كانت سعودية أو غير سعودية لأن ذلك محرم شرعاً ويتنافى مع عادات وتقاليد هذه البلاد، وإذا كان يوجد دائرة تقوم بتشغيل المرأة في غير الأعمال التي تناسب طبيعتها أو في أعمال تؤدي إلى اختلاطها بالرجال، فهذا خطأ يجب تلافيه، وعلى الجهات الرقابية ملاحظة ذلك والرفع عنه، المؤكد عليه بالأمر رقم 2966/م في 19/9/1404هـ.
وحيث رفع لنا سماحة المفتي العام للملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء بخطابه رقم 46/س/2 في 28/4/1421هـ حول ما تقوم به النساء من عمل لا يتناسب مع الدين والخلق، وهو توظيفهن مندوبات للتسويق لدى عدد من التجار والمؤسسات الخاصة والشركات، وأن الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفاد سماحته بأن ذلك صحيح وواقع، وما أشار إليه سماحته من أن هذا منكر ظاهر يجب منعه حمايةً لنساء المسلمين مما لا تحمد عقباه عليهن وعلى المجتمع، وأنه قد صدر من هيئة كبار العلماء القرار رقم (172) في 2/8/1412هـ بمنع تولي النساء للأعمال والوظائف التي تتنافى مع الحياء والحشمة مما فيه اختلاط بالرجال وشغل النساء عن أعمالهن اللائقة بهن والتي لا يقوم بها غيرهن، مما يفوِّت على المجتمع مرفقاً هاماً، وأشار سماحته إلى الأمرين سالفي الذكر وطلب تجديد الأمر بالتقيد بموجبه والتأكيد على ذلك ومحاسبة من يخالفه حفاظاً على كرامة الأمة وإبعاداً لها عن أسباب الفتن والشرور.
ونرغب إليكم التأكيد على المسئولين لديكم بالتقيد بما قضى به الأمران المشار إليهما، فأكملوا ما يلزم بموجبه)).
وفي السنوات الأخيرة تغير حال النساء وحصل منهن السفور واختلاطهن بالرجال في بعض الغرف التجارية وفي المنتديات والحوارات ومختلف اللقاءات وغير ذلك، ويزداد هذا الانفلات شيئاً فشيئاً مما يعود على هذه البلاد بالخطر والضرر، وقد تولى كبر ذلك دعاة تغريب المرأة ومتبعو الأهواء والشهوات من أبناء هذه البلاد الذين أعجبوا بما عليه النساء في بلاد الغرب والبلاد الإسلامية التي تابعتها في انفلات النساء.
وقد كتبت في انفلات النساء في بلاد الحرمين وخطره كلمات نُشرت في شبكة المعلومات بالإضافة إلى الرسائل الثلاث المتقدمة، هي:
(1): ((دعاة تغريب المرأة ومتبعو الأهواء والشهوات هم الذين وراء بدء انفلات بعض النساء أخيراً في بلاد الحرمين)) في 18/2/1430هـ.
(2): ((لا يجوز للمرأة الولاية على الرجال)) في 2/3/1430هـ.
(3): ((خطر الأندية الرياضية للفتيات)) في 5/7/1430هـ.
(4): ((قيادة المرأة السيارة يقودها إلى الانفلات)) في 8/7/1430هـ.
(5): ((صور ونماذج مؤلمة من انفلات النساء أخيراً في بلاد الحرمين)) في 29/7/1430هـ.
(6): ((لا يجمع بين البنين والبنات في الصفوف الأولية الابتدائية)) في 13/9/1430هـ.
ولما فُتحت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في 4 شوال 1430هـ، وحصل فيها التبرج والاختلاط بين الجنسين كما أخبرني بذلك من أثق بهم ممن طلبت منهم الاطلاع على موقع الجامعة في شبكة المعلومات نشطت الصحف في الاتصال بمن يؤمِّلون فيهم تأييد الاختلاط وحرصوا على استنطاق بعض من ينتسب للعلم لتأييد هذا الاختلاط المشين، فوجدوا ضالتهم المنشودة عند المسئول المكبر الذي أشرت إليه في المقال المنشور في 18/11/1430هـ بعنوان: ((لماذا النشاط المحموم في تأييد اختلاط الجنسين في بلاد الحرمين))، ثم تابعه على ذلك بعض المتكلفين ممن ينتسب للعلم، وفيهم من أثبت الصحفيون كلامه، ومن حكوا كلامه بتصرف لا يُجزم بصحة نسبته إليه، وفي بعض ما نطقوا به العتب على من يحذر من الاختلاط في تحذيره وتوجسه ــ بزعمهم ــ في تخصص الجامعة،ونسبة النيل من تخصص الجامعة إلى من يحذر من الاختلاط نسبة باطلة؛ فإن الاهتمام بالعلوم والتقنيات أمر مطلوب، والاختلاط في التعليم وغيره لا يسوغ، فالحلال حلال والحرام حرام، ومما قلته في الكلمة السابقة: ((ومن الجامعات التي قام بإنشائها خادم الحرمين حفظه الله: ((جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية))، وقد أولاها حفظه الله عنايته وهيأ لها من الإمكانات ما يؤمل أن يتحقق لها من قوة في مجال اختصاصها تعود آثاره على هذه البلاد وغيرها بالنفع العظيم والفائدة الكبيرة على الوجه الذي يرضي الله عز وجل وينفع عباده، ولا شك أن من الخير لهذه الجامعة ولمؤسسها حفظه الله ولبلاد الحرمين حرسها الله أن تصان هذه الجامعة وتحفظ من أي شيء لا تقره شريعة الإسلام التي مكن الله للدولة السعودية في هذه البلاد بسبب قيامها بها وتطبيقها لأحكامها، فتصان من كل ما لا يسوغ شرعاً وعلى الأخص اختلاط الجنسين في قاعات الدراسة وغيرها، وقد طلبت من عدد أثق بهم الاطلاع على موقع الجامعة في شبكة المعلومات فأخبروني بوجود التبرج والاختلاط، والواجب أن تكون دراسة الطالبات وكل ما يتعلق بهن في أماكن خاصة بهن لا يكون فيها مجال لاختلاطهن بالرجال.
وهذه الجامعة اكتسبت قوتها الحسية والمعنوية من قوة مؤسسها حفظه الله، لذلك نشطت الصحف وكثير من كتَّابها المفتونين بتغريب المرأة في بلاد الحرمين في تهوين أمر الاختلاط والنيل ممن ينادي بمنعه لتسلم هذه البلاد وأهلها من آثاره السيئة في العاجل والآجل)).
وأسوء هذيان ظهر حتى الآن في فتنة اختلاط الجنسين في بلاد الحرمين ما سودت به جريدة عكاظ صفحتين من عدديها الصادرين في 22 و23/12/1430هـ، من مقال لشخص غير معروف سألت عنه بعض من نسبتُهم نسبتُه في المدينة فلم يعرفوه، وقد جعل فيه المنكر معروفاً والمعروف منكراً مع أنه من منسوبي ((هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))!! وهذا يسقط أهليته لهذه النسبة، وقد أتى فيه بطامات لم يسبق إلى مثلها في موضوع انفلات النساء من جواز الاختلاط بإطلاق والنظر بين الجنسين والمصافحة والمس والخلوة من (غير تهمة!!!)، فكان حاله في التناهي في السوء كما قال الشاعر:

وإني وإن كنت الأخير زمانه

لآت بما لم تأت فيه الأوائل

 

وقد بالغ في التعالم والتلبيس، فذكر عدة أحاديث على جواز ما دعى إليه من باطل وعدة أحاديث لمن قال بالحق وردَّ هذا الباطل، زاعما أن من هذه الأحاديث ما هو ضعيف ومنها ما هو صحيح وهو حجة على المانعين لا لهم، ولا يتسع المقام في هذه الكلمة لكشف كل ما في هذا المقال من باطل، وحسبي أن أورد فيه نماذج يتضح بها جهله وتعالمه وسوء فهمه في الاستدلال سنداً ومتناً.
وقبل إيراد هذه النماذج في بيان فساد استدلاله أنقل هنا جملة من عباراته السيئة قال: ((والحق أن مصطلح الاختلاط بهذا الاصطلاح المتأخر لم يعرف عند المتقدمين من أهل العلم؛ لأنه لم يكن موضوع مسألة لحكم شرعي كغيره من مسائل الفقه، بل كان الاختلاط أمرا طبيعيا في حياة الأمة ومجتمعاتها!))
وقال: ((لكن بعض المتأخرين لما بالغ في موضوع اختلاط النساء بالرجال وصار اللفظ المعاصر ينصرف إليه بإطلاق، تولد ذلك المصطلح الدخيل المتأخر، فغالط به من لم يميز أو من أراد التلبيس!)).
وقال: ((أما ما يتعلق بجواز الاختلاط من عدمه فمرده إلى الأدلة الشرعية، وهذا ما يعنينا على وجه التحديد هنا بصورة أكبر، ولذلك كان الخلط في حكمه أكثر جناية حين قال بتحريمه قلة لم يعتبروا بالبراءة الأصلية في إباحته، ولم يتأملوا أدلة جوازه، ولم يقتفوا هدي المجتمع النبوي فيه، وهو قدوتنا في امتثال التشريع في كل شؤون الحياة المختلفة، والحق أنه لم يكن الاختلاط من منهيات التشريع مطلقا بل كان واقعا في حياة الصحابة!!! ولقد استمر ذلك الحال على مر العصور حتى طرأ على ذلك الأصل ما غيره من العادات والتقاليد، وبقي منه ما لا يمكن أن تمحوه تلك العادات والتقاليد، فظل كما هو؛ لأنه ارتبط بما شرع الله امتثاله من الطاعات على النساء والرجال كالطواف والسعي والصلاة فهم يؤدونها في مكان واحد!)).
وقال: ((لقد ارتفع ضجيج المانعين، وعلت أصواتهم في قضية «الاختلاط» مع أن الحجة مع من أجازه بأدلة صريحة صحيحة، فضلا عن استصحاب البراءة الأصلية، وليس مع المانعين دليل إلا ضعيف الإسناد، أو صحيح دلالته عليهم لا لهم!!)).
وقال في تعليقه على حديثين: ((ومن لوازم ذلك نظر المرأة للرجال ومخالطتهم!))، و((وفيه جواز مخالطة الرجال والنظر إليهم!)).
وعلق على حديث بقوله: ((ففيه جواز الاختلاط، وجواز وضوء الرجال مع غير محارمهم من النساء، ولا يلزم منه رؤية ما لا يجوز من المرأة!)).
وعلق على حديث بقوله: ((وفيه جواز الاختلاط، وجواز الخلوة بالمرأة عند الناس، وكل خلوة تنتفي فيها التهمة لا يتحقق فيها النهي على الصحيح، وإنما المحرم منها ما تحققت فيه التهمة فقط!!)).
وعلق على حديث بقوله: ((وفيه جواز دخول الرجل على المرأة في غير تهمة، وفيه جواز فلي المرأة رأس الرجل، ونحوه القص والحلق!!!)).
وعلق على حديث بقوله: ((فحديث أم عطية رضي الله عنها يفيد جواز ما هو أكثر من الاختلاط وهي المصافحة)).
وقال: ((فكما ترى النصوص الصحيحة الصريحة كلها تفيد جواز نظر النساء إلى الرجال ونظر الرجال إلى النساء في غير فتنة، كما تفيد جواز الخلوة بالمرأة عند الناس ومصافحتها، والاختلاط بين الجنسين من لوازم ذلك قطعا، سواء كان في الأسواق والمحال للبيع والشراء أو العمل والدراسة، والمساجد والمصليات، والطرقات، وغيرها من الأماكن ولا نص لمن قال بتحريم شيء من ذلك دون شيء في غير تهمة أو مزاحمة، ولا يعارض هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على جواز الاختلاط شيء كما ترى والأمر بغض البصر، وحفظ الفروج، والبعد عن الفتنة، لا يناقض ذلك؛ لأن الاختلاط لا يسوغ ما لا يجوز من الأقوال والأفعال بين الجنسين، وهذه الأحاديث الصحيحة دلت صراحة على جواز الاختلاط وأنه لا حدَّ يمنع منه الشرع في القرب بين الرجال والنساء، حتى لو سمي اختلاطا!!)).
وقال: ((… فلم يبق إلا أن يكون القول بالتحريم افتياتا على الشارع والافتيات عليه ابتداع في الدين!!)).
وقال: ((والحق الخالص أنه لم يقم دليل على منع القرب بين الجنسين في غير تهمة، لا بمسافة، ولا بزمن دون زمن، ولا بمكان دون مكان، والأصل في المسكوت عنه الإباحة، فكيف بما وردت فيه النصوص بالجواز، وإنما قال بتحريم الاختلاط من قال توسعا في العمل بقاعدة سد الذرائع، وبأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح!)).
وقال هذا الكاتب الجديد قبل ذكر ما أورده من أدله: ((ونشير هنا إلى أهمية سياق الأدلة الصحيحة الصريحة، وسياق ما احتج به المانعون؛ ليبصر الحق كل منصف دون تعسف أو شطط)).
ومن الأدلة التي استدل بها على جواز الاختلاط بإطلاق قوله: ((وعن سالم بن سريج أبي النعمان قال: سمعت أم صبية الجهنية تقول: (ربما اختلفت يدي بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من إناء واحد)، قلت: أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وإسناده صحيح، وأم صبية الجهنية ليست من محارمه صلى الله عليه وسلم، ففيه جواز الاختلاط، وجواز وضوء الرجال مع غير محارمهم من النساء، ولا يلزم منه رؤية ما لا يجوز من المرأة، ويشهد لذلك ما رواه ابن عمر قال: (كان الرجال والنساء يتوضأون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا)، قلت: أخرجه البخاري، وفيه جواز الاختلاط عموما، وأنه ليس من خصوصياته عليه السلام، وفي رواية بلفظ: (أنه ــ أي ابن عمر ــ أبصر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتطهرون والنساء معهم، الرجال والنساء من إناء واحد، كلهم يتطهر منه)، قلت: أخرجها ابن خزيمة، وإسنادها صحيح، وفي رواية بلفظ: (كنا نتوضأ نحن والنساء على عهد رسول الله من إناء واحد، ندلي فيه أيدينا)، قلت: أخرجها أبو داود، وإسنادها صحيح، والمعنى في هذه الألفاظ واحد، وكلها تفيد جواز الاختلاط عموما، وقد وجهه البعض بأن القصد هو وضوء الرجل وزوجه فقط، وهو توجيه باطل، يرده منطوق تلك الروايات التي تقطع بجواز الاختلاط عموما)).
فقد حمل هذا الكاتب تلك الأحاديث في وضوء النساء مع الرجال على جواز الاختلاط بإطلاق مع المحارم والأجنبيات، وهو حملٌ لها على أسوء المحامل، أما العلماء فقد حملوها على أحسن المحامل، فقالوا: إن ذلك قبل الحجاب فيما يتعلق بالأجنبيات، وقبله وبعده بالنسبة لذوات المحارم، وقد بوَّب البخاري لحديث ابن عمر (193): ((كان الرجال والنساء يتوضأون في زمان رسول الله جميعاً)) بـ((باب وضوء الرجل مع امرأته)) حملاً للحديث على أن الوضوء فيه مع ذوات المحارم، ولم يشر الحافظ ابن حجر في شرحه إلى استدلال أحد من العلماء به على جواز وضوء الرجال مع النساء الأجنبيات، بل ذكر أن من العلماء من حمله على الوضوء في مكان واحد: الرجال على حدة، والنساء على حدة، ومنهم من حمله على أن الرجال يتوضأون ويذهبون ثم تأتي النساء، ثم بيَّن الراجح عنده بقوله: ((والأولى في الجواب أن يقال: لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم)).
ومن أدلته على جواز الاختلاط وما هو أكثر منه قوله: ((وعن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمعه يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطعمته، وجعلت تفلي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ، وهو يضحك، قالت فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ((ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر… الحديث))، قلت: أخرجه البخاري ومسلم، وفيه جواز دخول الرجل على المرأة في غير تهمة، وفيه جواز فلي المرأة رأس الرجل، ونحوه القص والحلق، وقصة أم حرام هذه وقعت بعد نزول الحجاب، وبعد حجة الوداع كما حكاه ابن حجر في الفتح في شرح كتاب الاستئذان، وقد أشكل توجيهها على البعض فقال ابن عبد البر: أظن أن أم حرام قد أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم أو أختها أم سليم، فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة.
قلت: لم يذكر ابن عبد البر لذلك دليلا إلا قوله أظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، وليس له في ذلك مستند يعتمد عليه، فإن أمهات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع معلومات، وليس فيهن أحد من الأنصار البتة … ومن زعم أن ذلك من خصوصياته عليه السلام، فقد تحكم بغير برهان فإن الخصوصية حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل، والأصل مشروعية التأسي بأفعاله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )) وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ، ولا يترفع عن التأسي بأفعال المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا متهوك ضال، والصواب أن فلي المرأة رأس الرجل من الأمور الجائزة ونحوه القص والحلق، فالحديث يفيد جوازه وجواز الاختلاط!!
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالبطحاء، فقال: أحججت؟ قلت: نعم، قال: بما أهللت؟ قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أحسنت، انطلق، فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من نساء بني قيس ففلت رأسي، ثم أهللت بالحج… الحديث.
قلت: أخرجه البخاري ومسلم، وهذا الفعل من أبي موسى يشعر بأن ذلك أمر لم يكن يستخفى به، بل حدث به دون نكير وفعل أبي موسى رضي الله عنه وفهمه يعضد ما تقدم من الرد على من زعم خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك)).
وهذا الكاتب الجديد استدل بقصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم على أم حرام وفليها رأسه ودخول أبي موسى على امرأة من بني قيس وفليها رأسه على جواز خلوة الرجل بالأجنبية وملامستها رأسه بالفلي والقص والحلق، وهو حمل للحديثين على أسوأ المحامل، أما كلام العلماء فهو دائر بين وجود المحرمية من نسب أو رضاع بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وقد اقتصر النووي في شرح مسلم (13/57) على المحرمية وحكى الاتفاق على ذلك، وحكى الحافظ ابن حجر في الفتح (11/7 بعض الأقوال في نوع المحرمية والقول بأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم ورجحه فقال: ((وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية، ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل؛ لأن الدليل على ذلك واضح، والله أعلم))، وفي جوابه هذا بيان أن هذا الذي حصل للرسول صلى الله عليه وسلم مع أم حرام هو نفسه دليل على اختصاصه بذلك لا يحتاج معه إلى إثبات دعوى الخصوصية من غير هذا الحديث، أما غيره فلا يخرجون عن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)) رواه البخاري (1862) ومسلم (3272) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)) رواه البخاري (5232) ومسلم (2172) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، والحمو المحرَّم دخوله على المرأة كل قريب للزوج سوى آبائه وأبنائه، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يخلوَنَّ أحدكم بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما)) وهو حديث صحيح رواه أحمد (114) (177) والترمذي (2165)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يُطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له)) أورده المنذري في الترغيب والترهيب (4/111) وقال: ((رواه الطبراني والبيهقي ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح))، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (226) بإسناد الروياني وقال: ((وهذا سند جيد؛ رجاله كلهم ثقات من رجال الشيخين غير شداد بن سعيد فمن رجال مسلم وحده، وفيه كلام يسير لا ينزل به حديثه عن رتبة الحسن، ولذلك فإن مسلماً إنما أخرج له في الشواهد، وقال الذهبي في الميزان: صالح الحديث، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطيء))، وذكره مرسلاً أو معضلاً من كتاب الطب لأبي نعيم بلفظ: ((لأن يُقرع الرجل قرعاً يخلص إلى عظم رأسه خير له من أن تضع امرأة يدها على رأسه لا تحل له … الحديث)).
والحديث ذكره الكاتب الجديد في أدلة المانعين من الاختلاط والمصافحة قادحا في ثبوته فقال: ((واحتجوا في منع جواز المصافحة بحديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن في رأس رجل بمخيط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له)، قلت: أخرجه الطبراني والروياني واختلف فيه رفعا ووقفا والموقوف أرجح، إلا أنه ليس مما له حكم الرفع، وإسناد المرفوع ضعيف لضعف شداد بن سعيد وتفرده به)).
وقد قال بثبوت الحديث مرفوعاً المنذري ثم الألباني، ولم أقف عليه موقوفاً، ولو ثبت ذلك لكان له حكم الرفع؛ لأن الوعيد المتضمن تحديد عقوبة مما له حكم الرفع، فمن أين للكاتب الجديد أنه ليس مما له حكم الرفع؟! وقال الشيخ الألباني: ((وفي الحديث وعيد شديد لمن مس امرأة لا تحل له، ففيه دليل على تحريم مصافحة النساء؛ لأن ذلك مما يشمله المس دون شك)).
وأما فعل أبي موسى رضي الله عنه فقد قال النووي في شرح مسلم (8/199): ((هذا محمول على أن هذه المرأة كانت محرماً له))، وقال الحافظ في الفتح (3/417): ((قوله: (فأتيتُ امرأة من وقومي) في رواية شعبة: (امرأة من قيس)، والمتبادر إلى الذهن من هذا الإطلاق أنها من قيس عيلان وليس بينهم وبين الأشعريين نسبة، لكن في رواية أيوب بن عائذ: (امرأة من نساء بني قيس)، وظهر لي من ذلك أن المراد بقيس قيس بن سليم والد أبي موسى الأشعري وأن المرأة زوج بعض إخوته، وكان لأبي موسى من الإخوة أبو رهم وأبو برده قيل: ومحمد))، وقول الحافظ: ((وأن المرأة زوج بعض إخوته)) هو وهم منه أو ذهول، ولعل العبارة: ((وأن المرأة بنت بعض إخوته))؛ لأن زوجة الأخ أجنبية، وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الدخول عليها كما في حديث الحمو المتقدم، ومما يوضح ذلك قوله المتقدم في قصة أم حرام: ((وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية، ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل؛ لأن الدليل على ذلك واضح، والله أعلم))،يوضح ذلك ما قاله العيني في عمدة القاري (9/18: ((وقال بعضهم: (وكانت المرأة زوجة بعض إخوة أبي موسى رضي الله تعالى عنه، وكان له من الإخوة أبو رهم وأبو بردة ومحمد)، قلت: قال الكرماني: (فأتيت امرأة) محمول على أن هذه المرأة كانت محرماً له، وامرأة الأخ ليست بمحرم، فالصواب مع الكرماني، فيُحمل حينئذ على أن المرأة كانت بنت بعض إخوته)).
ومن الأدلة التي ذكرها عن المانعين من الاختلاط وردَّ الاستدلال بها قوله: ((وعن ‏أم سلمة رضي الله عنها ‏زوج النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏قالت شكوت إلى رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أني أشتكي، فقال: ‏طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، قلت: أخرجه البخاري، وليس فيه إلا إرشادها لما كانت شاكية أي مريضة أن تطوف راكبة من وراء الناس؛ لئلا تؤذيهم بدابتها، وهذا يشير إلى جواز الطواف مع الرجال لو لم تكن راكبة على الدابة!!)).
ولم يذكر هذا الكاتب بقية الحديث (464) الذي فيه الدلالة على أن الرجال في صلاة وليسوا في طواف، وهو قولها: ((فطفتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بـ ((وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ ))، وهذا الطواف هو طواف الوداع، يوضح ذلك الرواية الأخرى في صحيح البخاري أيضاً (1626) وهو قوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة رضي الله عنها: ((إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون))، فلا يستقيم مع هذا قول الكاتب المتقدم، بل لو لم تكن راكبة لفعلت ما فعله غيرها من النساء في الصلاة والطواف، والأولى في طواف النساء أن يكنَّ من وراء الرجال كما في صحيح البخاري (161: ((كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم))، وإذا احتاجت المرأة للطواف مع محرمها لحاجتها إلى مساعدته أو غير ذلك فلا بأس بطوافها مع الرجال مع حرص الرجال والنساء على ألا يمس بعضهم بعضاً، وكان عدد من أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقفون أحياناً في المطاف يرشدون النساء ممن لا محارم معهن أن يطفن من وراء الرجال، ولا يجوز أن يُستدل بطواف النساء مع الرجال على جواز الاختلاط بين الرجال والنساء مطلقاً كما حرص عليه الكاتب.
ومنها قوله: ((كما استدل بعض من منع الاختلاط بحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)، قلت: أخرجه أبو يعلى وإسناده صحيح وليس فيه ما يدل على تحريم الاختلاط، بل الاختلاط واقع فيه كما ترى!)).
وقد أبعد هذا الكاتب الجديد النجعة؛ فعزى الحديث إلى مسند أبي يعلى مع أنه موجود في صحيح مسلم (985) بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه اختلاط كما زعم، بل النساء يصلين على حدة ويخرجن قبل أن ينصرف الرجال كما في صحيح البخاري (870) وسنن النسائي (1333).
ومنها قوله: ((واحتجوا بحديث أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها أنها قالت: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه، فقلنا: يا رسول الله! نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، قال: فيما استطعتن وأطقتن، قالت: فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله! فقال رسول الله: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)، قلت أخرجه أحمد والحاكم وأصحاب السنن وإسناده ضعيف تفرد محمد بن المنكدر به، وهو كثير الإرسال، روى عن كثير من الصحابة وهو لم يلقهم أو يسمع منهم ولم يتابعه عليه أحد، وأميمة لم يرو لها إلا هذا الحديث، وفي معناه نكارة فضلا عن مخالفته لما صح، أما النكارة ففي قوله: (فيما استطعتن وأطقتن) فقيَّده بالطاقة مع تضمنه أعظم المنهيات وهو الشرك وترك الشرك لا يحتاج فيه المكلف إلا الكف عنه، ولذلك لم يرد التقييد بالطاقة في المنهيات، وإنما جاء في المأمورات، والمخالفة لما جاء في النصوص الصحيحة الدالة على خلافه)).
وقد زعم هذا الكاتب أن الحديث ضعيف لتفرد محمد بن المنكدر به، ووصفه بكثرة الإرسال، وبكون أميمة بنت رقيقة لم يُرو لها إلا هذا الحديث، وبنكارة المتن التي زعمها.
فأما تفرد محمد بن المنكدر به فإنه لا يقدح في صحته؛ لأن تفرد الثقة بالحديث لا يقدح في ثبوته، ومن أمثلة ذلك أول حديث في صحيح البخاري وآخر حديث فيه، فقد حصل تفرد بعض الثقات بهما ولم يَعتبر ذلك أحد قدحاً في ثبوتهما، فحديث عمر ((إنما الأعمال بالنيات)) انفرد بروايته عنه علقمة بن وقاص الليثي، وانفرد به عنه محمد بن إبراهيم التيمي، وانفرد به عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم رواه عن يحيى جم غفير، وحديث أبي هريرة ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن… الحديث)) تفرد به عن أبي هريرة أبو زرعة بن عمرو بن جرير، وتفرد به عنه عمارة بن القعقاع، وتفرد به عنه محمد بن الفضيل، ثم كثر رواته عن محمد بن فضيل.
وأما وصف محمد بن المنكدر بكثرة الإرسال فقد قال الحافظ في التقريب عنه: ((ثقة فاضل)) ولم يصفه بإرسال فضلاً عن كثرته، وفي تهذيب التهذيب أنه أرسل عن سلمان رضي الله عنه، وذكر احتمال إرساله عن بعض الصحابة، والقاعدة أن من عرف بالإرسال إذا صرح بالسماع زال احتمال إرساله كما أن من وصف بالتدليس إذا صرح بالسماع زال احتمال تدليسه، ومحمد بن المنكدر صرح بسماع هذا الحديث من هذه الصحابية في مسند الإمام أحمد (27006) و(27010) وفي جامع الترمذي (1597) وسنن ابن ماجه (2874) وقلة ما يرويه الصحابي من الحديث لا يؤثر في ثبوت حديثه، وأميمة بنت رقيقة لها في الكتب الستة حديثان كما في تحفة الأشراف للمزي (15781) و(15782)، ومن أمثلة ذلك الصعب بن جثَّامة له في الكتب الستة ثلاثة أحاديث كما في تحفة الأشراف وكذا الأغر بن يسار وحزن بن وهب جد سعيد بن المسيب لكل منهما حديثان.
وأما ما زعمه من النكارة في متنه فذلك من سوء فهمه؛ فإن التقييد بالاستطاعة في آخر الحديث ليس راجعاً إلى المنهيات الخمسة فيه، بل هو راجع إلى الجملة الأخيرة وهي قول النساء المبايعات: ((ولا نعصيك في معروف))، والمراد بذلك المأمورات التي يأتي بها المكلف على حسب طاقته، وترك المأمور معصية كما أن فعل المحظور معصية، وقد حكى الله عن موسى أنه قال لهارون (( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ))، وقال الله عز وجل عن خزنة النار من الملائكة: ((لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )) وبهذا يتبين أن النكارة في ادعاء هذه النكارة، ولو أتعَب نفسه في البحث والتفتيش لم يجد أحداً سبقه إلى هذا الفهم الخاطئ، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه فوقف عند حده واتهم رأيه في الدين ولم يتشبع بما لم يُعط.
وأما ما زعمه من النكارة في مخالفة الأحاديث الصحيحة فغير صحيح، فالحديث صحيح وصريح في نفي المصافحة ولم يأت حديث صحيح صريح في إثباتها.
هذه أجوبة على نماذج مما أورده من أحاديث مستدلاً بها على جواز الاختلاط بين الرجال والنساء وما هو أكثر من ذلك كالنظر والمصافحة والخلوة ولمس الرؤوس وقصها وحلقها توضح فساد هذا الاستدلال، وكذا ما أورده من أحاديث للمانعين من الاختلاط وغيره، قادحاً في دلالتها على ذلك، وقد تبين بما ذكرته من الجواب على نماذج منها فساد هذا القدح وبطلانه،وما زعمه في كلامه من أن الاختلاط بإطلاق فيه استصحاب البراءة الأصلية باطل، لأن البراءة الأصلية في احتشام النساء لا في انفلاتهن.
وقد شان هذا الكاتب نفسه بمقاله الذي لم يُعرف إلا به، وبلغ من شينه أن أظهر استنكاره واستهجانه كثيرون من طلاب العلم في داخل البلاد وخارجها، ومنهم تسعة عشر من قبيلة الكاتب كما جاء في بيان لهم فقد بالغوا في إنكار ما جاء في مقاله المشين، وذكروا عنه معلومات خاصة، وجدير به وقد توالت الصيحات عليه أن يثوب إلى رشده، ويتوب إلى الله عز وجل مما شذ فيه، والحق أحق أن يتبع والرجوع إليه خير من التمادي في الباطل، والأمر يتطلب شجاعة وصدق عزيمة، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
وفي مقابل كلام هذا الكاتب الجديد وغيره من المتكلفين الهابط الساقط في تأييد اختلاط الجنسين في بلاد الحرمين في العمل والدراسة وغير ذلك أنقل كلام بعض المشايخ الذين سبقت بلادهم إلى انفلات النساء واختلاطها بالرجال في مختلف المجالات وقد شاهدوا أضرار وآثار تلك الفتنة واكتووا بنارها ولا ينبئك مثل خبير.
قال الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله في كتاب ((كلمة الحق)) (ص 55) في كلام له تحت عنوان: ((ولاية المرأة القضاء)) قال: ((وثانياً: أيجوز في شرع الله أن تذهب الفتيات في فورة الشباب إلى المدارس والجامعات لتدرس القانون أو غيره، سواء مما يجوز تعلمه ومما لا يجوز؟! وأن يختلط الفتيان والفتيات هذا الاختلاط المعيب الذي نراه ونسمع أخباره ونعرف أحواله.
أيجوز في شرع الله هذا السفور الفاجر الداعر الذي تأباه الفطرة السليمة والخلق القويم، والذي ترفضه الأديان كافة على الرغم مما يظن الأغرار وعبَّاد الشهوات؟!)).
وقال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في كتاب ((فصول اجتماعية)) (ص 156)وقد ذكر مرض الشبهات ثم مرض الشهوات قال: ((وأول ما يتمثل المرض الثاني في هتك حجاب المسلمات واختلاط البنين بالبنات وتمهيد طريق الفاحشة للشبان والشابات))، وقال أيضاً (ص 234) بعد أن ذكر جملة من المغريات للشباب بالفساد قال: ((وشر من هذا الاختلاطُ بين الجنسين في كل مكان، لاسيما في الجامعات، حيث نجد الطالبة وكأنها ذاهبة على عرس لا إلى مدرسة من فرط الزينة وكثرة التكشف!))، وقال في ذكرياته (5/351): ((هذا هو باب الشهوات، وهو أخطر الأبواب، عرف ذلك خصوم الإسلام فاستغلوه، وأول هذا الطريق هو الاختلاط))، وقال أيضاً (5/309) متألماً متوجعاً من الانفلات والانحدار الذي وصل إليه الشباب والشابات في بلاد الشام: ((ألا مَن كان له قلب فليتفطر اليوم أسفاً على الحياء، مَن كانت له عين فلتَبْكِ اليوم دماً على الأخلاق، مَن كان له عقل فليفكر بعقله، فما بالفجور يكون عز الوطن وضمان الاستقلال، ولكن بالأخلاق تحفظ الأمجاد وتسمو الأوطان، فإذا كنتم تحسبون أن إطلاق الغرائز من قيد الدين والخلق، والعورات من أسر الحجاب والستر، إذا ظننتم ذلك من دواعي التقدم ولوازم الحضارة، وتركتم كل إنسان وشهوته وهواه، فإنكم لا تحمدون مغبة ما تفعلون…)).
وقد ذكرت في الكلمة المنشورة في 18/11/1430هـ أنه بمناسبة وجود الاختلاط بين الجنسين في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية نشطت الصحف في نشر كل ما فيه تأييد للاختلاط في التعليم الجامعي وغيره، لاسيما ما يصطادونه من تأييد لذلك من بعض من ينتسب للعلم، وذكرت فيها قصة الخليفة العباسي المهدي رحمه الله الذي كان يلعب بحمام فأمر بذبحه بعدما تورط رجل بوضع حديث يوافق هوى المهدي، وقال: ((أنا حملته على ذلك))، وقلت إنه أحسن بتخلصه من هذا الحمام وأن خادم الحرمين الملك عبد الله حفظه الله أولى منه بمثل هذا الإحسان؛ لأن ضرر اللعب بالحمام مختص بالمهدي، وأما اختلاط الجنسين في بلاد الحرمين في التعليم وغيره فضرره عام للحكومة والشعب، وقلت: فالمؤمل منه حفظه الله التقرب إلى الله بإصدار أمره المطاع بمنع الاختلاط بين الرجال والنساء في هذه الجامعة التي تورط بسببها من تورط، وكذا منع الاختلاط في المجالات الأخرى في بلاد الحرمين.
وقد هلك بسبب هذا الاختلاط المسئول المكبَّر الذي سبقت الإشارة إليه ومن تابعه، وآخرهم وأسوأهم هذا الكاتب الجديد الذي شغل الناس في الداخل والخارج بمقاله، والمأمول من خادم الحرمين حفظه الله التوجيه بالمبادرة إلى منع اختلاط الجنسين في جميع المجالات حتى لا يزداد الهلكى بسبب وجود الاختلاط في هذه الجامعة، وخير ما يذكر به خادم الحرمين حفظه الله بهذه المناسبة ــ والذكرى تنفع المؤمنين ــ قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: (({ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ))
وقوله: (( فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ ))
وقوله ((وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ ))
وأسأل الله عز وجل أن يحفظ خادم الحرمين وولاة الأمر في هذه البلاد من كل سوء ويوفقهم لكل خير، وأن يحفظ بلاد الحرمين من حصول كل ما يعود عليها حكومةً وشعباً بالضرر في العاجل والآجل، إنه سبحانه وتعالى جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عبد المحسن بن حمد العباد البدر
10/1/1431هـ،

Tags:

شارك المحتوى: