يقولوا التي هي أحسن


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾

عباد الله : نقف مع آية من كتاب الله الهادي كما قال جل وعلا : ﴿ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ أي: أعدل وأعلى من العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع أموره.

يقول سبحانه:﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ

الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ﴾ قال الشيخ السعدي رحمه الله: “وهذا من لطفه بعباده حيث أمرهم بأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال الموجبة للسعادة في الدنيا والآخرة فقال: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ وهذا أمر بكل كلام يقرب إلى الله من قراءة وذكر وعلم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وكلام حسن لطيف مع الخلق على اختلاف مراتبهم ومنازلهم، وأنه إذا دار الأمر بين أمرين حسنين فإنه يأمر بإيثار أحسنهما إن لم يمكن الجمع بينهما.

والقول الحسن داع لكل خلق جميل وعمل صالح فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره”

ففي الآية الأمر من الله عز وجل للعباد في تخاطباتهم أن يتخيروا من القول أحسنه ، ومن الكلام أطيبه ، ومن المنطق أجمله ، وبيَّن عز وجل أن الشيطان حاضرٌ عند المرء في قوله لينزغ في قول المرء ليقول القول السيء ، فيترتب على ذلك تقطع الأواصر وفساد الصلات .

اللسان نعمة من أجل وأعظم نعم الله علينا به النطق والبيان، وبه التسبيح والتهليل وسائر الأذكار، فاللسان كما أنه سبب في دخول النار كذلك هو سبب في دخول الجنان، فهو سلاح ذو حدين، روى الترمذي وحسنه الألباني عن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن في الجنة غرفا ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها)، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال:(لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)

الكلمة الطيبة مِن تَمَامِ الإِيمَانِ، وتَرقَى إِلى مَنزِلَةِ الصَّدَقَةِ حَيثُ يَقُولُ عليه الصلاة والسلام في بداية حديث: “مَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَليَقُلْ خَيرًا أَو

لِيَصمُتْ” متفق عليه، وفي        “وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ”.

وروى أحمد وصححه الألباني عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ) فمنه يعلم بطلان ما يتناقله العامة عن بعض سيء الكلام بأنه طاهر القلب ، إذ لو طهر قلبه لطهر لسانه ، ترجمان القلب، والمعبر عنه .

وهل يستطيع صاحب الكلام الطيب أن يحصي حسنات لسانه الذي لا ينطق إلا بالخير، بل قد يكون ذلك وقاية له من عذاب النار، لقول النبي الكريم في الصحيحين: “.. فاتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمرَةٍ، فَمَن لم يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ”.

عباد الله : رب كلمة يقولها الإنسان لا يلقي لها بالاً يرفعه

الله بها، ورب كلمة يقولها لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم)

هذا عن كلمة واحدة، فماذا يكون مصير من لا يحلو لهم الحديث إلا في أعراض الناس وأسرارهم، وأعظم ذلك أثما كما قال الشيخ ابن عثيمين الهمز في ولاة الأمر من العلماء والحكام فيتلذذون في الطعن فيهم وغيبتهم ، روى ابن ابي عاصم باسناد صحيح عن أنس قال : قال صلى الله عليه وسلم : ” لا تسبوا أمراءكم ، ولا تغُشّوهم ، ولا تبغضوهم ، واتقوا الله واصبروا ، فإن الأمر قريب ” وفي لفظ : ” كان الأكابر من أصحاب رسول الله ينهوننا عن سب الأمراء ” .وقد جاء عن السلف أن سب الإمام الحالقة أي حالقة الدين إذ هي تظهر في الغالب في قالب النصح والدين وهي خلو منه .

ذلك أن الكلام فيهم كما قال ابن عثيمين ملء لقلوب الشعوب بغضا لهم وعداء لهم الأمر الذي ينتهي بالخروج عليهم .

وعند البخاري  عنه صلى الله عليه وسلم ضمان الجنة لمن حفظ للسانه فعن سهل بن سعد رضي الله عنه: (مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ)

لهذا فالجوارح كل يوم تتوسل وتتذلل للسان كما روى

أحمد والترمذي وحسنه ابن حجر عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ : اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا) قال ابن القيم: “وإنما خضعت للسان؛ لأنه بريد القلب، وترجمانه، والواسطة بينه وبين الأعضاء، وقولها: إنما نحن بك أي نجاتنا بك، وهلاكنا بك، ولهذا قالت: فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججتاعوججنا )

لذلك أعظم العلاج  والحصن الواقي وهو من الحكمة والمروءة الإقلال من الكلام، فإن كثرة الكلام مدعاة للوقوع في المحظور، اذ الكثير من مباح الكلام يجر صاحبه ويستدرجه إلى ما فيه إثم، وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب: “من كثر كلامه، كثر سقطه، ومن كثر سقطه، كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به”.

أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى أن يوفقنا أجمعين لأن نقول التي هي أحسن ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ؛ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله

جاء عن الحسن البصري رحمه الله تعالى في معنى هذه الآية قول الله عز وجل: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ قال: «التي هي أحسن: أن لا يقول له مثل الذي يقول ، بل يقول له : غفر الله لك وعفا الله عنك ونحو ذلك» . وبهذا القول -عباد الله- تُطفئ جمرة العداوة ويُقطع الطريق على الشيطان في نزغه بين الناس ، ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾: أي يحرش ويوغر القلوب ويوجد العداوات ، ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾

عباد الله : إن أولى من يختار لهم أحسن الأقوال وأجمل العبارات في الحديث معهم، هم الوالدان؛ فإن الله تعالى قد أمر بالإحسان إليهما بشتى الأصناف والأنواع في الأقوال والأعمال، ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾ ولو كان شيئا دون الأف لنهى عنه .

ولما كانت العبارات والكلمات الطيبة لا حصر لها، فإن الله جل وعلا جعل لها وصفًا: ﴿ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾، وهنا يتفاوت الناس في مشاربهم وثقافاتهم

أعاذنا الله أجمعين من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه .

وصلُّوا وسلموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللهم صلِّ على نبك محمدٍ وعلى آل محمد وعلى صحابته والتابعين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ،

وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينا ، وحافظًا ومؤيدا . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا وولي عهده لهداك ، وأعِنهم على طاعتك وانصر بهم دينك واقهر بهم عدوك وكن لهم ولا تكن عليهم وانصرهم على من بغى عليهم .

اللهم أنزل في أرضنا زينتها ، وبارك لنا فيما أعطيتنا واجعل ما أنزلته علينا قوة على طاعتك ومتاع الى حين .

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .


شارك المحتوى: