الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه ومبلغ الناس شرعه فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد عباد الله فأوصيكم ونفسي بتقوى الله فإن من اتقى الله وقاه وهداه إلي صالح أمر دينه ودنياه , ثم اعلموا رحمكم الله أن من القصص العجيب الذي أعاده الله في القرآن وثناه قصة موسى عليه السلام مع فرعون لكونها مشتملة على حكم عظيمة وعبر بالغة وعظات مؤثرة ، ذكرنا في الخطبة السابقة شيئا منها ، واليوم نكمله لنصل إلى حدث عاشوراء .
لما سمع صاحب مدين أخبار موسى وقصصه طمأنه بقوله
(لَا تَخَفْ)، هذه البلد ليس لفرعون وجنوده سلطان عليها، لاستقلالها، فلن يستطيعوا اللحاق بك:( نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
فأشارت البنت على أبيها: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ) بعد ما رأت من موسى ما رأت وعرفت أنه قويٌ أمين، فهي فرصة لا تفوت ؛ وفيها فكاك للبنتين العفيفتين من مغبة الخروج، ومزاولة العمل خارج البيت، وما فيه من مخاطر ، وفيه أيضا أن قضايا الزواج ليست حِكراً في ابتدائها على الأب، بل يمكن أن تشير البنت، وتتكلم وتدلي برأيها:( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) رجل تتوفر فيه صفتان مهمتان عظيمتان لابد منهما في الأعمال، (إن خير من استئجرت القوي ) واحد، (الأمين) الثانية، وهكذا حصل العرض: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ) ، والمقابل: (عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا) وتبرعت بسنتين إضافيتين ( فَمِنْ عِندِكَ ) ومن فضلك، وتطوّع من قبلك وليس واجباً عليك.
فلم يكن عند موسى مهر يمهر به زوجته سوى أن يؤجر نفسه لهذا العمل ، تحصيلا للزواج واعفافا للنفس ، ويستفيد مطعماً ومشرباً ومسكناً ومأوى،
وهذا فيه جواز: أن يعرض الرجل ابنته أو من هي تحت ولايته على الرجل الصالح ليتزوجها ولا غضاضة في ذلك، فعله صالح مدين، وفعله الصالحون من أمة محمد ﷺ فهي سنّه قديمة، وليس في ذلك ما يدعو إلى خجلٍ، وليس في ذلك عيبٌ.
فقبل موسى العرض وكيف لا يقبل وقد جاءته فرصة فيها عفة وإحصان، وسكن وعيش مع أهل الإيمان، وكفاية الحاجة ،خير عظيم ساقه الله إليه (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ)
سئل ابن عباس -رضي الله عنه- أيُّ الأجلين قضى موسى؟ قال: “أتمهما وأكملهما، إنَّ نبي الله إذا قال فعل” هذا الإحسان إتمام، إتمام المعروف، عشر سنوات إعداد رباني لموسى -عليه السلام- قبل تلقي الوحي، وهذا من موسى شكر للرجل الصالح صاحب مدين بصنيعه له فكافأه بهاتين السنتين زيادة.
ولما انتهت المدة أراد أن يرجع إلى مصر حيث أهلهُ وقومه، ولعل مضيّ هذه المدة تكون الأمور قد تغيرت، لكن لمّا خرج موسى من مدين هذه المرة تاه، ولم يصل إلى مقصوده مباشرةً، فتاه في الطريق، وكانت ليلةً مظلمةً باردة، فجعل يحاول أن يوري الزناد لعله يرى شيئاً.
واشتد الظلام والبرد وهو يبحثُ عن شيءٍ يستدفئُ به
أهله؛ أبصر ناراً تتأجّج في الجانب الغربي من جبل الطور،
عن يمينه، فقال لأهله: امكثوا. وهذه اللفتة في إبقاء المرأة بعيداً عن الخطر؛ لأنه لا يدري من عند النار، ولو ذهب بامرأةٍ قد تمس بسوء. فقال لأهله: امكثوا. دَرسٌ للأزواج في رعاية الزوجات، وحماية الزوجات، والمحافظة على الزوجات، والمحرم مع المرأة هذه وضيفته، وهذا سفر: (قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ واستعلم عن الطريق أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)
فأتى منها بخبرٍ لكن بأي خبر؟! خبر، هُدى، ونور، ونبوة ، فناداه ربهُ في ذلك الوادي المبارك، المقدس: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) تعظيماً لتلك البقعة المباركة لاسِيّما في تلك الليلة المباركة، وأخبره من هو: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وقال له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي) هذه عصاي أعرفها وأتحققُها وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى أدفعُ سبعاً، أقتل عدواً، فقال له الله (أَلْقِهَا يَا مُوسى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)، والخوف طبعي مهما كان الرجل شجاعاً ف(وَلَّى مُدْبِرًا) لما رأى، وَلَمْ يُعَقِّبْ ولم يلتفت، فناداه ربّه: (يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) فلم يتردد موسى في أخذ الحية لقول ربه له: إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ فلن تلدغك، ولن يحصل لك شر: خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى) فأخذها فرجعت عصا كما كانت .
وهناك بشارة وآية أخرى: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أدخلها (تَخْرُجْ بَيْضَاء) تتلألأ، (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) برص، ولا بهقٍ، (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) فإذا خفت ضع يدك على فؤادك يسكن جأشُك مهما كان الخوف (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)
أقول ما سمعتم ,,,
الخطبة الثانية :
الحمد لله ربِّ العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين . أما بعد ؛
عباد الله : واصل نبي الله موسى طريقه لمن أرسله الله إليه وهو فرعون وقومه فبلغه دعوة ربه ، إلا أن فرعون تكبر وكفر، ونكل ببني إسرائيل، فجمع موسى _عليه السلام_ قومه للخروج، وتبعهم فرعون ، فجاء الوحي في ذلك اليوم العظيم بأن يضرب موسى _عليه السلام_ البحر بعصاه (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) أي كالجبل العظيم، وصار البحر اثني عشر طريقاً فلما رأى فرعون هذه الآية العظيمة لم يتعظ ، بل زاد في طغيانه ومضى بجنوده يريد اللحاق بموسى _عليه السلام_ وقومه ، فأغرقه الله _عز وجل_ ، ونجى موسى ومن معه من بني إسرائيل ، قال _تعالى_: “وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِين”
روى الشيخان َنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ ؟ ) .فَقَالُوا : هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا ؛ فَنَحْنُ نَصُومُهُ ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ ) ؛ فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) إنه يوم عاشوراء قال صلى الله عليه وسلم بشأنه: «يكفر السنة الماضية» رواه مسلم وفي لفظ: «صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله». وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم بصوم يوم التاسع ، إضافة إلى العاشر ، مخالفةً لليهود والنصارى، فعند (م) عن ابن عباس قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع» قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كان الصحابة رضي الله عنهم يُصوِّمون فيه صبيانهم تعويداً لهم على الفضل ، ففي (خ) عن الربيع بنت معوذ قالت: كنا نصومه بعدُ ونُصوِّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار).
فحري بنا طلبا للأجر وجبرا للنقص الحرص على صيامه
وهو الموافق ليوم غد السبت .
رزقنا الله الإخلاص والقبول ، والإعانة والتوفيق .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشِّرْك والمشركين ، وانصر عبادك المؤمنين .
اللَّهُمَّ وَوَفِّقِ وُلاَةَ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ .
اللهم من أراد بلادنا بسوء في دينها أو أمننها أو استقرارها اللهم اشغله في نفسه ورد كيده في نحره وجعل تدبيره تدميرا له وافضحه يا رب العالمين ، اللَّهُمَّ أَعْطِنَا وَلا تَحْرِمْنَا وَأَكْرِمْنَا ولا تُهِنَّا, اللَّهُمَّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَليْنَا, اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنَا .
اللهم أنجِ إخواننا المستضعفين في سائر الأرض يا أرحم الراحمين، اللهم ارفع الفتن والقتل عنهم، واجمع على الحق
شملهم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.