الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله ومبلغ الناس شرعه ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلام تسليما كثيرا ، أما بعد: أيها المؤمنون أوصيكم ونفسي بتقوى الله فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه ، وتقوى الله جل وعلا هي خير زاد يبلِّغ إلى رضوان الله جعلني الله وإياكم من عباده المتقين
عباد الله، إن نعمة الإسلام نعمة عظيمة، واجه أنبياء الله ابتلاءات وفتنًا عظيمة في سبيل هداية الناس وإرشادهم إلى هذا الدين ، ولهذا فلا عجب أن يكون لكل نبي من هؤلاء مثل أجور من تبعه من الناس، ولقد كان من أشدهم ابتلاءً في ذلك رسول الله ، فقد لقي من كفار قريش أهوالاً عظيمة، وكان صلوات الله وسلامه عليه صابرًا محتسبًا في ذلك، وقد جعله الله أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة، فإن أمته ثلثا أهل الجنة، كما صح بذلك الخبر.
ولما أوذي قال: (رحم الله موسى؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وهكذا عاقبة المتقين الصابرين، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ، فاتخذوا ـ أيها المسلمون ـ منهم قدوة ومن صبرهم مثلاً.
أرسل الله سبحانه نبيه موسى إلى رجل من طغاة الأرض، استعبد عباد الله وأذلهم، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ .
وما زال فرعون في طغيانه مستخفًا بقومه وهم مطيعون له
حتى كان في ليلة من الليالي في مثل هذا الشهر، وفي مثل هذا الأسبوع، أوحى الله إلى موسى أن يخرج بقومه من مصر ليلاً متجهًا إلى البحر الأحمر، فعلم فرعون فأرسل في أهل مصر فأخرجهم جميعًا، ولحق بموسى فأدركهم عند البحر الأحمر، فلما رآهم قوم موسى قالوا لموسى: إنا لمدركون، البحر أمامنا، وفرعون وقومه خلفنا، قال لهم موسى وهو واثق بالله: كَلاَ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ أي: سيدلني على ما فيه النجاة، فأوحى الله إليه: أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ، فضربه فجعله الله اثني عشر طريقًا، فدخل موسى وقومه وتبعهم فرعون وقومه، فخرج قوم موسى وأوحى الله إلى البحر فانطبق على فرعون وقومه.
وأورث الله بلادهم وأملاكهم لموسى وقومه، كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ
السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ،
ولنا مع الحدث وقفات:
الوقفة الأولى: شهر الله المحرّم أول شهور السنّة الهجرية وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.. الآية
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) رواه البخاري. وسمي بذلك لكونه شهرا محرما متأكد التحريم.
وقوله تعالى في الآية السابقة: فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في
الإثم من غيرها.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ) مسلم
إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا،
ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء .
الوقفة الثانية: عباد الله وإن من الأيام العظيمة الفاضلة يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من هذا الشهر جاء في فضله أحاديث عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وحثّ صلى الله عليه وسلم على صيامه ورغب في ذلك وصامه عليه الصلاة والسلام وصامه صحابته الأخيار. لما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة رأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال ما هذا؟ قالوا هذا يوم صالح وفي رواية قالوا هذا يوم عظيم نجا الله فيه موسى ومن معه وأغرق فيه فرعون ومن معه فصامه موسى شكرا لله عز وجل فنحن نصومه لذلك فقال صلوات وسلامه عليه نحن أحقّ وأولى بموسى منكم فصامه عليه الصلاة والسلام وأمر الصحابة الكرام بصيامه .
ثم إن صيام يوم عاشوراء كان في بداية الإسلام فرضا
لازما وواجبا محتما ، ثم لما نزلت فريضة الصيام صيام شهر رمضان في نفس العام الثاني من الهجرة أصبح صيامه أمرا مستحبا فقال عليه الصلاة والسلام “يوم عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء منكم صام ومن شاء أفطر” ، فصيام هذا اليوم يوم عاشوراء مستحب للمسلمين شكرا لله جل وعلا على تلك النعمة العظيمة والمنة الجسيمة وطلبا لعظيم موعوده سبحانه الذي أعده للصائمين لهذا اليوم حيث قال عليه الصلاة والسلام أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ثم إن الصيام عباد الله طاعة عظيمة وعبادة جليلة ثوابها عند الله عظيم وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “من صام يوما في سبيل الله باعد به وجهه عن النار سبعين خريفا”
عباد الله والسنة في صيام عاشوراء أن يصوم المسلم
يوما قبله لأنه ثبت في الحديث الصّحيح أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن اليهود يصومون هذا اليوم ويتخذونه عيدا ويعظمونه فقال عليه الصلاة والسلام لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع أي (مضافا ومضموما إلى العاشر ) .
فالسنة عباد الله أن يصوم المسلم يوم عاشوراء طلبا لهذا الأجر العظيم وأن يصوم معه اليوم التاسع مخالفة لليهود
واقتداء بنبينا الكريم عليه الصلاة والسلام.
الوقفة الثالثة: أن نعرف فضل الله تعالى علينا في أن جعل
لنا مواسم نتوب فيها ونرجع إلى الله فيكفر عنا الخطايا، ولكن مع ذلك لا بد أن نعلم أن الخطايا التي تكفر إنما هي الصغائر، فليحذر الكثير من الناس الذين يرتكبون الموبقات ويتركون الفرائض وينتهكون الحرمات ويظنون أن ذلك يكفر بصيام هذا اليوم، وينسون أن أمر الكبائر يحتاج إلى توبة وعزم على عدم الرجوع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وتكفير الطّهارة والصّلاة وصيام رمضان وعرفة وعاشوراء للصّغائر فقط”.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن بهداهم اقتفى اما بعد : اتماما للوقفات :
الوقفة الرابعة : نأخذ من قول النبي : (نحن أحق بموسى منكم) أن هذه الأمة المباركة هي امتداد للأنبياء والصالحين، وأن كل نبي وكل صالح من الأمم السابقة فإنما هو تابع لهذه الأمة، ونحن أحق بكل نبي من قومه الذين كذبوه وعصوه، وأن الأنبياء عليهم السلام امتداد لتاريخنا، وقد قال الله تعالى بعد أن ذكر قصص الأنبياء: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ . هذه أمتكم أمة الأنبياء، أمة واحدة، تدين بعقيدة واحدة، وتتجه اتجاها واحدا، هو الاتجاه إلى الله وحده دون سواه.
الوقفة الخامسة: نأخذ من أمر النبي بمخالفة اليهود
والأحاديث التي جاءت في النهي عن التشبه بالكفار في كل شيء كثيرة جدًا ومنها قوله في عاشوراء: (لئن عشتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع)، يقول هذا عليه الصلاة والسلام مع أن صيام اليهود كان صياما صحيحا على شرع موسى عليه السلام، ولكنه التأكيد على المخالفة التي طالما أظهر تأكيدها النبي ، حتى قال اليهود: ما يُرِيدُ هذا الرَّجلُ أن يَدَعَ من أَمْرِنَا شيئا إلا خالفنا فيه.
لقد كان الرسول يريد لنا الرفعة عن مشابهة الكفار، ويريد لنا العزة، ويريد لنا التميز، فلماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! نحن أمة مرفوعة، فلم نكون خاضعين؟! نحن أمة متبوعة، فلم نكون تابعين؟!
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبينا محمد، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم هداة مهتدين، صالحين مصلحين يا رب العالمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .