فضل الصدقة


 

الخطبة الأولى

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك به وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد:

فقد قال الله – عز وجلّ – : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ‌وَافْعَلُوا ‌الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) يأمر تبارك وتعالى عباده المؤمنين في هذه الآية بالصلاة، وخص منها الركوع والسجود؛ لفضلهما وركنيتهما.

كما يأمر بعبادته التي هي قرة العيون، وسلوة القلب المحزون، وأنّ ربوبيته وإحسانه على العباد، يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة.

ويأمرهم بفعل الخير عمومًا.

وقد علّق سبحانه الفلاح على هذه الأمور، فقال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فلا طريق للفلاح سوى الإخلاص في عبادة الخالق، والسعي في نفع عبيده.

وقد دلّنا رسولنا – صلى الله عليه وسلم – على الطرق الموصلة إلى الخير، فقد قال لمعاذ بن جبلٍ – رضي الله عنه -: (ألا أدلك على ‌أبواب ‌الخير؟: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. فجَعَل هذه الأشياءَ أبوابَ الخير؛ لأنّ الصوم شديدٌ على النفس، وكذا إخراج المال في الصدقة، وكذا الصلاة في جوف الليل، فمَن اعتاد هذه العبادات يسهُل عليه كلُّ خير، ويأتي منه كلُّ خير.

عباد الله:

إنّ للصدقة عند الله فضلٌ عظيمٌ اختُصت به من بين سائر الأعمال.

فقد شبّه سبحانه نفقة المنفق في سبيله بمن بذر بذرًا فأنبتت كل حبة سبع سنابل، اشتملت كل سنبلة على مائة حبة، قال سبحانه وتعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي: يضاعف لمن يشاء فوق ذلك، وذلك بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه.

وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ ‌مَخْطُومَةٍ، فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا ‌مَخْطُومَةٌ» رواه مسلم.

وقد وعد سبحانه بتنمية المال الذي أُخرِجت منه الصدقة وإنزال البركة فيه، فقال سبحانه: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ‌وَيُرْبِي ‌الصَّدَقَاتِ)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ ‌فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» رواه البخاري ومسلم، وعنه أيضًا أنّ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «‌مَا ‌نَقَصَتْ ‌صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» رواه مسلم.

وعَن أبي هُرَيْرَة – رَضِي الله عَنهُ – أَنّ النَّبِي – صلى الله عَلَيْهِ وَسلم – قَالَ: «مَا من يَوْم يصبح الْعباد فِيهِ إِلَّا ملكان ينزلان فَيَقُول أَحدهمَا: اللَّهُمَّ أعْط منفقًا خلفًا، وَيَقُول الآخر: اللَّهُمَّ أعْط ممسكا تلفًا» رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم، ومصداقه قولُ الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}.

وقد بيّن رسولنا – صلى الله عليه وسلم – أنّ الصدقة تفدي العبد من عذاب الله تعالى، ومن أحوال وأهوال يوم القيامة؛ ولهذا قال النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح لما خطب النساء يوم العيد «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي ‌رَأَيْتُكُنَّ ‌أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» وكأنه حثهن ورغبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار.

وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، ‌فَيَنْظُرُ ‌أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، ففي الحديث الْحَثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَأَنَّهُ لَا ينبغي الامتناع عنها؛ لِقِلَّتِهَا، وَأَنَّ قَلِيلَهَا سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ.

وفي الصحيحين عَن أبي هُرَيْرَة – رَضِي الله عَنهُ – عَن النَّبِي – صلى الله عَلَيْهِ وَسلم – أنه قَالَ: «سَبْعَة يظلهم الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله»، وذكر منهم:َ رجلًا تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه.

وروى الإمام أحمد وصححه الألباني أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصل بين الناس».

وللصدقة – معاشر المؤمنين – تأثيرٌ عجيبٌ في دفع  البلاء، فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنّ النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: «إنّ ‌الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء».

وكما أنها تطفئ غضب الرب – تبارك وتعالى – فهي تطفئ الذنوب والخطايا كما تطفئ الماء النار، فقد قال – صلى الله عليه وسلم -: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار».

وقد ضرب لنا رسولنا – صلى الله عليه وسلم – أروعَ الأمثلة في هذا الباب، فكان – صلى الله عليه وسلم – أَعْظَمَ النَّاسِ صَدَقَةً بِمَا مَلَكَتْ يَدُهُ، وَكَانَ لَا يَسْتَكْثِرُ شَيْئًا أَعْطَاهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَسْتَقِلُّهُ، وَكَانَ لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ شَيْئًا عِنْدَهُ إِلَّا أَعْطَاهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَكَانَ عَطَاؤُهُ عَطَاءَ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَقْرَ، وَكَانَ الْعَطَاءُ وَالصَّدَقَةُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَكَانَ سُرُورُهُ وَفَرَحُهُ بِمَا يُعْطِيهِ أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِ الْآخِذِ بِمَا يَأْخُذُهُ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، يَمِينُهُ كَالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، فاللهم صلّ وسلم عليه يا رب العالمين.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فاتقوا الله تعالى – عباد الله -، واعلموا أنّ للصدقة في أيام الحاجة وأوقات العسرة شأنًا كبيرًا؛ فإنّ ‌الصدقة كلما كانت أنفع للخلق وأخلص للرب كانت أفضل وأعظم أجرًا.

فتفقدوا إخوانكم الفقراء وجودوا عليهم مما جاد الله به عليكم، فقد قال رسولكم – صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ»، قَالَ أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – “فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ” رواه البخاري.

وإنّ من أعظم صور الإنفاق في سبيل الله وأنفعها التيسيرُ على المعسرين من العاجزين عن قضاء ديونهم، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أنّ رَسُول اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ ‌عَلَى ‌مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» رواه مسلم.

وقد سهّلت الدولةُ – بفضل الله – الوصولَ إلى المحتاجين والمعسرين ممن صدرت بحقهم أحكامٌ قضائيّة، وذلك عبر خدامتها في منصة “إحسان”، ومنها خدمة “تيسّرت”، فحريٌ بنا أن نستغل تلك الخدمات المقدّمة، وأن نحث غيرنا على الاستفادة منها، وأن نشجع القائمين عليها.

اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، وأعنهم على القيام بما فيه صلاح البلاد والعباد، وهيّء لهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه يارب العالمين.

اللَّهُمَّ إِنّا نعُوذُ بِكَ مِنَ ‌الهَمِّ ‌وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ.

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

 

 

كتبها/ بدر بن خضير الشمري

 

 


شارك المحتوى: