“حفظ اللسان، وبعض آفاته”
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق الإنسانَ ويعلم ما توسوس به نفسُهُ وهو أقرب إليه من حبل الوريد {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه أشرفُ العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المزيد، وسلم تسليمًا. أما بعد:
أيها المؤمنون:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أنّ مِنْ أعظم خِصَالِ الْإِيمَانِ استقامةَ اللسان، روى الإمامُ أحمدُ أنّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»، وفي الصحيحين أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». وحفظُ اللسانِ أصلُ كلِّ خير، ومن مَلَك لسانَه فَقَدْ مَلَكَ أَمْرَهُ وَأَحْكَمَهُ وَضَبَطَهُ؛ لذا فقد قال -صلى الله عليه وسلم- لمعاذٍ -رضي الله عنه-: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟» فقال معاذ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ»، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟» قال: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» قال: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، -أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قال ابن رجب -رحمه الله-: “وَظَاهِرُ حَدِيثِ مُعَاذٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ بِهِ النَّاسُ النَّارَ النُّطْقُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النُّطْقِ يَدْخُلُ فِيهَا الشِّرْكُ وَهِيَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَهُوَ قَرِينُ الشِّرْكِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا شَهَادَةُ الزُّورِ الَّتِي عَدَلَتِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَدْخُلُ فِيهَا السِّحْرُ وَالْقَذْفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ؛ كَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ”.
ألا وإنّ من أعظم آفات اللسان الشائعات؛ فإنّ لها خطرًا عظيمًا على الأفراد والمجتمعات. وقد ابتلي كثيرٌ من الناس لاسيما في هذا العصر الذي تعددت فيه وسائل النشر بالترويج لتلك الشائعات، وبثها بين الناس في المجالس وعبر التطبيقات.
أيها المؤمنون:
لقد أمر اللهُ تعالى بالتبيّنِ في الأنباء، والتثبّت في الأخبار، فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا}؛ فإنّ التثبت في الأمور يحصل فيه من الفوائدِ الكثيرةِ، والكفِّ لشرورٍ عظيمة، ما به يُعرف دينُ العبدِ وعقلُه ورزانتُه، بخلاف المستعجلِ للأمورِ في بدايتِها قبل أن يتبينَ له حكمُها، فإنّ ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم اللهُ في الآية. وقال تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا} قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: “قوله: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} إنكارٌ على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة”. وفي صحيح مسلمٍ أنّ رسولَ -صلى الله عليه وسلم- قال: «كفى بالمرئِ إثمًا أن يحدثَ بكلِّ ما سمع»، وفي الصحيحين أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قيل وقال. قال ابن كثير -رحمه الله -: “أي: الذي يكثر من الحديثِ عما يقول الناسُ من غير تثبت، ولا تدبر، ولا تبين”.
فالواجبُ على المسلمِ تجاه الشائعات التثبتُ منها، وعدمُ ترديدِها وإذاعتِها والخوضِ فيها؛ لأنّ في ذلك انتشارًا لها، ومساهمةً في ترويجها، كما يجب ردُّ الأمورِ إلى أهلِ الاختصاص، كما قال تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}.
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أيها المؤمنون:
اتقوا الله تعالى، وكونوا عباد الله إخوانًا. المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يكذبه، ولا يحقره، بحسبِ امرئٍ من الشرِّ أن يحقرَ أخاه المسلم. كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ؛ دمهُ ومالُه وعرضُه.
واعلموا أنّ من أعظم آفات اللسان الغيبةَ والنميمة. أما الغِيبة فهي ذكرُ الإنسانِ الغائبِ بما يكره، وقد صوّر الله من فعل ذلك بأبشعِ صورةٍ، مثلَّه بمن يأكل لحمَ أخيه ميتًا، فقال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}، ولقد مر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاسٍ يخمشون بها وجوهَهم وصدورَهم، فقال: «مَنْ هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحومَ الناسِ ويقعون في أعراضِهِم» رواه أحمد وصححه الألباني، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ! لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُم، وَلَا تَطْلُبوا عَثَرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْ عَوْرَةَ الْمُسْلِمِ؛ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ؛ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ» رواه ابن حبان، وقال الألباني: حسن صحيح.
أيها المسلمون:
إنّ كثيرًا من أهل الغِيبة إذا نُصِحوا قالوا: نحن لا نكذب عليه هو يعمل كذا، ولقد قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» رواه مسلم. فبيَّن لأمته -صلى الله عليه وسلم- أنّ الغِيبةَ أن تعيبَ أخاك بما فيه، أما إذا اغتبته بما ليس فيه، فإنّ ذلك جامعٌ لمفسدتين البهتانِ والغِيبة.
وأما النميمةُ فهي أن ينقلَ الإنسانُ الكلامَ بين الناس، فيذهب إلى الشخص، ويقول: قال فيك فلانٌ كذا وكذا؛ لقصدِ الإفسادِ، وإلقاءِ العداوةِ والبغضاءِ بين المسلمين، فهذه النميمة التي هي من كبائر الذنوب، ومن أسباب عذاب القبر وعذاب النار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل الجنةَ نَمَّام» رواه مسلم، ومر -صلى الله عليه وسلم- بقبرين، فقال: «أَمَا إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون:
إنّ الواجبَ على من نقلَ إليه أحدٌ أنَ فلانًا يقول فيه كذا أن يُنكِرَ عليه، وينهاهُ عن ذلك، وليحذر منه؛ فإن من نقل إليك كلامَ الناسِ فيك نقل عنك ما لم تقله، قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}، وهكذا يجب التعامل مع أهل الغيبة والإشاعات.
هذا، وصلوا وسلموا رحمكم الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه… .
أعدّ الخطبة/ د. بدر بن خضير الشمري.
خطبة في خطر الشائعات والغيبة وآفات اللسان