بين البدعة والمصلحة المرسلة


 

الحمدّ لله وحدَه ؛ والصلاةُ والسلام على مَن لا نبيَّ بعدَه .. أما بعد : فإن أهمية معرفة الفروق بين المسميات الشرعية تكمن في التمييز بين الأمور المتداخلة في بعض أوجهها ؛ وكذلك في تبصرة الجاهل الذي يظن تناقض الشريعة في أحكامها { وإن الظن لا يُغني من الحق شيئا }

فمعرفة الفروق من العلوم التي يمتاز بها أهل الفطنة والبصيرة عن غيرهم ؛ حتى قال بدر الدين الزركشي رحمه الله : من أنواع الفقه : معرفة الجمع والفرق ؛ وعليه جل مناظرات السلف ، حتى قال بعضهم : الفقه جمع وفرق .
[ المنثور في القواعد (1/12 ) ]

وإن مما ضلَّت به أفهام كثير من الناس ؛ ونتج عن ذلك الضلال في عباداتهم … عدم التفريق بين البدعة التي سمَّاها رسول الله ﷺ ضلالة ؛ وتوعد أهلها بنار جهنم ؛ وبين المصلحة المرسلة التي لم يمنع منها الشارع الحكيم ؛ ودعت إليها مصالح المسلمين ؛ وصدقتها مقاصد الشريعة ؛ وقام بها الخلفاء الراشدون ٬ ثم مَن جاء بعدهم من أهل العلم والفضل ؛ فجُمع القران ؛ وكُتبت دواوين الجيش ؛ وأُنشأت المعاهد الشرعية وطُبعت الكتب …

ودونك -أخي القارئ- خمسة من الفروق الفاصلة بين البدعة المنكرة ؛ وبين المصلحة المرسلة :

١) البدعة وُجد الداعي إلى فعلها في عهد النبوة ولم تُفعل ؛ والمصلحة المرسلة لم يوجد الداعي إلى فعلها في العهد النبوي .

🔸 مثال البدعة : الأذان لصلاة العيد ؛ فقد وُجد الداعي لذلك في العهد النبوي (وهو دعوة الناس لهذه الصلاة) ومع ذلك لم يؤذن للعيد ؛ فيكون الأذان بدعة لا يجوز .

🔹 ومثال المصلحة المرسلة : جمع القرآن ؛ فلم يكن الداعي لجمعه موجودًا في العهد النبوي ؛ إذ لم يكن ثمة خشية من ضياع شيء منه ؛ ولما وجد الداعي لجمعه بموت جَمْعٍ من القراء في وقعة اليمامة ؛ فجمعه أبو بكر رضي الله عنه ؛ فكان مصلحة مرسلة ؛ وفضيلة من فضائل الصدِّيق .

٢) البدعة تكون في باب العبادات المحضة ؛ فليست معقولة المعنى ؛ والمصلحة المرسلة تكون في باب وسائط العبادة ؛ فهي معقولة المعنى .

🔸 مثال البدعة : الأذكار الجماعية ؛ فهي عند أربابها عبادة من أحسن العبادات ؛ ويزعمون أن الملائكة تحفُّهم ؛ والحقيقة أن الشياطين أولى بهم من الملائكة ؛ إذ جعلوا ذكر الله لهوًا ولعبًا ؛ وتمايلًا وغناءً … !

🔹 ومثال المصلحة المرسلة : طباعة الكتب ؛ فهي واسطة لحفظ العلم ؛ وإيصاله إلى الناس ؛ ولو وُجدت وسيلة أنفع منه ؛ لَصِير إليها .

٣) البدعة يُتعبد بها لذاتها ؛ والمصلحة المرسلة لا يُتعبد بها لذاتها .

🔸 مثال البدعة : الاحتفال بالمولد النبوي ؛ فهو مقصود لذاته عند من يحتفل به ؛ ويرون أنه من أعظم القربات إلى الله ! وليس الأمر كذلك .

🔹 ومثال المصلحة المرسلة : إنشاء المعاهد والجامعات الشرعية ؛ فلا يُتعبد لله بمجرد عمارة الجدران ؛ وإنما كون هذا البناء سيكون سببًا في تعليم الناس ما للهِ عليهم من حقوق .

٤) البدعة عبارة عن زيادة في الدين ؛ فهي تشريع ؛ والمصلحة المرسلة هي ما يُحفظ به الدين ؛ فهي محل اجتهاد ونظر .

🔸 مثال البدعة : صلاة الرغائب في شهر رجب ؛ فهي عبادة زائدة عما شرعه الله ورسوله ﷺ .

🔹 ومثال المصلحة المرسلة : تأليف الكتب في فنون الشريعة ؛ فقد كانت أحد أهم أسباب حفظ هذا الدين ؛ ووصوله إلى هذه القرون المتأخرة .

٥) البدعة تزاحم السنن النبوية ؛ فيضيع معها الدين ؛ حتى قال أبو إدريس الخولاني : ما أَحدثت أمة في دينها بدعة ؛ إلَّا رفع اللهُ بها عنهم سنة ! والمصلحة المرسلة يَحفظ الله بها دينه ؛ ولا تعارض سنة من سنن الرسول ﷺ .

🔸 مثال البدعة : استخدام السُّبحة وسيلة لذكر الله ؛ والسنة التي كان عليها النبي ﷺ هي عقد التسبيح بأنامل اليد اليمنى .

🔹 ومثال المصلحة المرسلة : كتابة المصحف بالرسم العثماني ؛ وتنقيطه … فقد كان ذلك سببًا في حفظ القرآن الكريم كما أنزله اللهُ ؛ من عهد الخلفاء الراشدين إلى يومنا هذا .

💡 هذه خمسة فروق -معتبرة عند أهل العلم- بين ما يُحبه اللهُ ورسولُه ﷺ ؛ وبين ما لا يُحبه اللهُ ورسولُه ﷺ ؛ فاحفظها جيدًا كي لا يُلبِّس عليك أهل البدع ؛ فيَخلطون بدعهم المنكرة ؛ بمصالح المسلمين المعتبرة !

أسألُ اللهَ تعالى أن يجعلنا ممن فقُه في دينه ؛ فعلم نافعًا ؛ وعمل صالحًا ؛ وأحياه الله على الإسلام ؛ وأماته على الإيمان … إنه حسبنا ونعم الوكيل ؛ والحمدُ لله أولا وآخرًا ؛ وظاهرًا وباطنًا …

أخوكم فراس الرفاعي
الأربعاء ٤ ربيع الاول ١٤٣٩هـ


شارك المحتوى:
0