(جريمة)أكل المال الحرام ، نماذج وصور من الواقع (3/4)


(جريمة)أكل المال الحرام ، نماذج وصور من الواقع (3/4)

د. عارف عوض الركابي

أكتب هذه الحلقات وبلادنا تعاني من غلاء في الأسعار ، وسوء في الأحوال الاقتصادية ، مع توقع زيادة الحال سوءاً إذا تم رفع الدعم عن الوقود .. ومن له علم بسنن الله تعالى في هذا الكون يدرك أن : تصحيح المسار ، والعودة إلى الله تعالى ، والإنابة إليه ، والتوبة والاستغفار ، ورد الحقوق إلى أهلها ، ونشر الهدى والخير والحق وفتح أبوابها ، ومحاربة الفساد بأنواعه العقدي والأخلاقي والمالي والمنكر والباطل والبغي وإغلاق أبوابها ، هو من أهم أسباب رفع ما نحن فيه من بلاء عظيم .. والقارئ الكريم ليس بحاجة لأن أستشهد له بالنصوص الشرعية التي تبين وتؤكد هذه الحقيقة المهمة الثابتة الراسخة ، فهي حقيقة لا يختلف عليها اثنان ، وإنما التذكير بأهمية وضرورة العمل بمقتضى هذه السنة الكونية ، وما ذكرته هو أعظم الأسباب لتفريج ما نحن فيه من كرب ، ومن تكالب للأعداء ، ومن ضيق في العيش وغلاء في الأسعار ، فلزم علينا أن نصلح من أحوالنا ونجتهد في ذلك ، حكاماً ومحكومين ، رعاة ورعية ، كباراً وصغاراً ، عالمين ومتعلمين ، ويجب أن تكثر الوصية بهذا الأمر العظيم في هذه الأوقات ، فما وقع بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة ، ومن يقرأ القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام يجد التربية على هذا الأمر ، وفي ما حدث يوم أحد ويوم حنين دروس عظيمة لمن تدبرها. ونحن بحاجة إلى تحقيق الأسباب التي يرحمنا بها الله سبحانه وتعالى ، وإن أسباب رحمته بخلقه معلومة ، وهو على كل شيء قدير ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.. فالتعويل والتركيز على بعض الأسباب المادية التي تأتي في درجة تالية في الأهمية دون العمل والعناية بتحقيق هذا السبب هو من عدم التوفيق ، وسأتطرق لهذه الجزئية في مقال مستقل بمشيئة الله تعالى.

ومن جملة ما يجب أن يصحح ويحسم ما نحن بصدد الحديث عنه في هذه الحلقات ، الكسب الحرام ، وأكل المال بالباطل ، فهذا الأمر من الجرائم التي انتشرت في المجتمع ، وقد تطرقت لبعض ما يؤكد ذلك في الحلقتين السابقتين ، وإن عدم مبالاة كثيرين في هذا الأمر يصدق عليه المثل (يزيد الطين بلة) .. و(اتسع به الخرق على الراقع) ، وإن من الصور الواقعية لهذا الجريمة مما ينتشر في مجتمعنا للأسف (أكل الربا)، وهو جريمة وكبيرة عظيمة من كبائر الذنوب بل (موبقة) من الموبقات ، كما أخبر نبي الهدى والرحمة عليه الصلاة والسلام في حديث اجتنبوا السبع الموبقات ، والموبقة تعني المهلكة ..فالربا هلاك في العاجل والآجل ، وأكل الربا جريمة خطيرة استحقت أن يكون جزاء مرتكبها هذه العقوبة العظيمة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ..) سورة البقرة. وكان من عقوبة الواقع فيها ومن يعينه في تنفيذ هذه (الجريمة) : لعنة الله ، واللعن يعني الطرد والإبعاد من رحمة الله ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنهما قَالَ : (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ) رواه مسلم وغيره .. والنصوص الواردة في شأن هذه الجريمة كثيرة وقد تحدث عن هذه الجريمة بهذه الصحيفة في الأيام الماضية الشيخ سعد أحمد سعد ، وهي جريمة يتجلى فيها الظلم في صور هي من أبشع صوره ، وهو أخذ الزيادة التي لا تجوز لآكل الربا ، وزيادة الفقير فقراً ، وفيها أكل المال بالباطل ، وقد اعتنى الإسلام في تشريعاته بإبطال الربا لما فيه من ظلم الفقراء والمحتاجين والمضطرين للقروض ، فالإسلام دين راعى حقوق الإنسان قبل أن توجد دول ومنظمات تتحدث الآن عن حقوق الإنسان ، بل إنه كفل حقوق الحيوان والنبات والبيئة والطريق .. وتتعدد صور أكل الربا في مجتمعنا ، فمنه ما هو معلن على الملأ ومنه ما هو مستتر يتوصل إليه بحيل واضحة لا تغير من حقيقته شيئاً ، فبعض المؤسسات المالية والمصرفية تقوم بعض معاملاتها على الربا ، وبعض الأسواق يدار فيها المال بصورة كبيرة عن طريق الربا وينتشر فيها بيع (العينة) ، وهو نوع من نوعيْ بيع (الكسر) المنتشر في كثير من معارض السيارات (الكرينات) وبعض أسواق المحاصيل والسلع الغذائية ، وقد وضحت ذلك في مقال سابق بعنوان (مصطلح الكسر بين الطلاب والتجار) ، وهو شراء السلعة آجلاً بإعطاء شيك أو غيره ، ثم بيعها لنفس البائع أو وكيله نقداً بمبلغ أقل منه ، فهذا البيع المنتشر بكثرة هو بيع ربوي ، وجريمة توعد الله تعالى الواقعين فيها بالعقاب الذي ذكرته ، وفرق بين بيع العينة ومسألة (التورق) فالتورق يقوم المشتري ببيع السلعة لشخص آخر ليس هو البائع ولا وكيله. وصور البيع الربوي كثيرة ومتعددة.ومنها صور تنتشر إلا أن أحكامها تخفى على بعض الناس ولا يرون أنها قائمة على الربا وهي بحاجة إلى توضيح وبيان وتفصيل.

فأكل الربا من الجرائم التي فيها أكل للمال بالباطل وهو من وسائل الكسب المحرم ، وهو كسب ممحوق ، وأنى لأمر بين الله سبحانه وتعالى أنه ممحوق وغير مبارك فيه أن تتحقق به أو منه فائدة !! قال الله تعالى : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) سورة البقرة ، ويجب على كل من كان حريصا على سلامة ونجاة نفسه ومن يعول أن يكون من أبعد الناس عن هذا الكسب الخبيث ، فلنجتهد في إيقاف الواقعين في هذه الجريمة عند حدهم بتذكيرهم وتخويفهم من المصير العاجل والآجل الذي ينتظرهم بسبب جرمهم..

وفي الحلقة القادمة إن شاء الله أتحدث عن جريمة أكل المال الحرام من التكسب بالدجل والشعوذة والسحر


شارك المحتوى: