مكانة أبي بكر الصديق، وحال منتقصيه ومنتقص الصحابة


 

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذِي اصطفَى أولياءَهُ، وفاضلَ بينهمْ فِي الرتبةِ والمكانةِ، وَالصلاةُ والسلامُ علَى رسولِ اللهِ، أحبِّ الخلقِ إلَى اللهِ، وصحابتُه أفضلُ الناسِ بعدَ الأنبياءِ والمرسلينَ.

وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لَا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]

أمَّا بعدُ:

فإنَّ خيرَ هذهِ الأمةِ الذينَ اصطفاهمُ اللهُ لصحبةِ نبينَا محمدٍ ﷺ روَى الإمامُ أحمدُ عنِ ابنِ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: ” إنَّ اللهَ نظرَ فِي قلوبِ العبادِ، فوجدَ قلبَ محمدٍ ﷺ خيرَ قلوبِ العبادِ، فاصطفاهُ لنفسِه، فابتعثَهُ برسالتِه، ثمَّ نظرَ فِي قلوبِ العبادِ بعدَ قلبِ محمدٍ، فوجدَ قلوبَ أصحابِه خيرَ قلوبِ العبادِ، فجعلَهم وزراءَ نبيِّه”.

وروَى البخاريُّ ومسلمٌ عنِ ابنِ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «خيرُ الناسِ قرنِي، ثمَّ الذينَ يلونهُمْ، ثمَّ الذينَ يلونهُمْ».

وقدْ زكَّاهمُ اللهُ منْ فوقِ سبعِ سماواتِه، فقالَ سبحانَهُ: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

وقالَ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾.

فلعلوُّ منزلتِهم روَى البخاريُّ ومسلمٌ عنْ أبِي سعيدٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «لَا تسبُّوا أصحابِي، فلَو أنَّ أحدَكم أنفقَ مثلَ أُحدٍ، ذَهبًا مَا بلغَ مدَّ أحدِهم، ولا نصيفَه».

ومنْ لطيفِ مَا قَال فيهِم شيخُ الْإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَه اللهُ تعالَى- فِي (العقيدةِ الواسطيةِ):

(وَمَن نظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خِيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ؛ لاَ كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ.)

وأفضلُ هؤلاءِ الصحابةُ الأخيارُ أبُو بكرٍ الصديقُ -رضيَ اللهُ عنهُ- وهوَ عبدُ اللهِ بنُ عثمانَ التيميِّ، فهوَ الصِّديقُ الأكبرُ والخليفةُ الراشدُ الأولُ، وأولُ الصحابةِ إسلامًا وأكثرُهم صحبةً لرسولِ اللهِ ﷺ وأحبُّ الناسِ إليهِ، وهُو صاحبُه فِي الهجرةِ وجليسُه فِي الغارِ، قالَ اللهُ تعالَى فيهِ: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾.

وقالَ: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾.

وقدْ حكَى المفسرونَ أنَّ المرادَ بهذِه الآياتِ الثلاثِ أبُو بكرٍ الصديقُ -رضيَ اللهُ عنهُ-.

وروَى البخاريُّ عنْ عمارٍ بنِ ياسرٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: رأيتُ رسولَ اللهِ ﷺ ومَا معهُ إلا خمسةُ أعبُدٍ وامرأتانِ وأبو بكرٍ.

أيْ: كانَ الأولَ إسلامًا -رضيَ اللهُ عنهُ وأرضاهُ- ووصفَه رسولُ اللهِ ﷺ بأنَّه صديقٌ، وقدْ روَى البخاريُّ ومسلمٌ عنْ أنسٍ بنِ مالكٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ صعَدَ أحدًا (جبلَ أحدٍ) وأبُو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ، فقالَ: «اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ».

وروَى البخاريُّ ومسلمٌ عنْ عمرٍو بنِ العاصِ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّه سألَ النبيَّ ﷺ: مَن أحبُّ الناسِ إليكَ؟ قالَ: «عائشةُ»، فقلتُ: مِنَ الرجالِ؟ قالَ: «أبُوهَا». أيْ: أبُو بكرٍ الصديقُ.

وروَى البخاريُّ عنِ ابنِ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: «كُنَّا نُخَيِّرُ [أي: نُفضِّل] بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ»

ولعظيمِ مكانتِه فِي الإسلامِ فقدْ ذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلَى أنَّ مجردَ سبِّه وانتقاصِه ردةٌ وكفرٌ يُقتلُ بهِ سابُّه ومُنتقصُه؛ لأنَّه مُكذِّب لمَا جاءَ فِي دينِ اللهِ منْ فضائلِه -رضيَ اللهُ عنهُ- ومنْ فضائلِه العظيمةِ أنَّ اللهَ جمعَ بهِ الناسَ بعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ ﷺ فأجمعُوا علَى خلافتِه، فإنَّهم لوْ لمْ يجتمعُوا عليهِ خُشِيَ تفرُّقُ المسلمينَ بعدَ وفاةِ النبيِّ ﷺ فيُبدَّل جمعُهم تفرُّقًا، وقوتُهم ضعفًا، فيقوَى المنافقونَ ويطمعُ فيهمُ الكافرونَ.

روَى البخاريُّ عنْ عمرَ بنِ الخطابِ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّه لمَّا ذكرَ خبَرَ سقيفةَ بنِي ساعدةَ والاختلافَ فِي البيعةِ بعدَ رسولِ اللهِ ﷺ قالَ عمرُ -رضيَ اللهُ عنهُ-: «… فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ: «قُومُوا عَنِّي، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ» فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ، مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كِتَابِهِ»

ولمعرفةِ المهاجرينَ والأنصارِ بمكانتِه لمْ يترددْ أحدٌ ببيعتِه لمَّا بسطَ يدَه وبايعَه عمرُ بنُ الخطابِ -رضيَ اللهُ عنهُ-.

 

أقولُ مَا تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم فاستغفروهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ علَى نعمِه الظاهرةِ والباطنةِ قديمًا وحديثًا، والصلاةُ والسلامُ علَى عبدِه ورسولِه نبينِّا محمدٍ، وعلَى أصحابِه الذينَ سارُوا فِي نصرةِ دينِه سيرًا حثيثًا، وعلَى أتباعِهم الذينَ ورثُوا علمَهم، والعلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، أكرمَ بهمْ وارثًا وموروثًا، أمَّا بعدُ:

فقدْ كانَ السلفُ يحرصونَ علَى تعلُّمِ سِيَرِ الأمجادِ السابقينَ ليزدادَ حبُّهم فِي قلوبِهم، وقدْ روَى البخاريُّ ومسلمٌ عنِ ابنِ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّه جاءَ رجلٌ إلَى رسولِ اللهِ ﷺ فقالَ: يَا رسولَ اللهِ، كيفَ ترَى فِي رجلٍ أحبَّ قومًا وَلمَّا يلحقْ بهِم؟ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «المرءُ معَ منْ أحبَّ».

وروَى ابنُ عبدِ البرِّ فِي (جامعُ بيانِ العلمِ وفضلِه) عنْ مسروقٍ -رحمَه اللهُ تعالَى- أنهُ قالَ: ” حبُّ أبِي بكرٍ وعمرَ رضيَ اللهُ عنهمَا ومعرفةُ فضلِهما منَ السنةِ “.

وروَى اللالكائيُّ فِي (شرحُ أصولِ اعتقادِ أهلِ السنةِ والجماعةِ) أنَّه قيلَ للحسنِ: حبُّ أبِي بكرٍ وعمرَ سنةٌ؟ قالَ: لَا، بلْ فريضةٌ.

أيُّها المسلمونَ، اعرفُوا سِيَرَ الصحابةِ منَ المهاجرينَ والأنصارِ، وتذاكرُوا فضائلَهم ومكانتَهم فِي الإسلامِ، فإنَّ هذَا يزيدُ منْ حبِّهم والشوقِ لهمْ، والمرءُ معَ منْ أحبَّ، وإنَّه ليوشكُ أنْ يُطالعَنا مَا بينَ حينٍ وآخرَ أقوامٌ متحذلقونَ وبالرافضةِ مشابهُونَ، ينتقصونَ أصحابَ النبيِّ ﷺ ألَا وإنَّ كلَّ مَنِ انتقصَ صحابيًّا واحدًا فضلًا عمَّا هوَ أكثرُ، فهوَ مبتدعٌ ضالٌّ ولوْ كانَ صوَّامًا بالنهارِ قوَّامًا بالليلِ حسَنَ الأخلاقِ كثيرَ الصدقاتِ، كمَا أجمعَ علَى هذَا أهلُ السنةِ فيمَا قررُوه فِي كتبِ الاعتقادِ.

ألَا فاحذرُوا ذلكَ وحذِّروا منْ كلِّ مَنْ ينتقصُهم، فإنَّه بذلكَ مُخالفٌ للتنزيلِ، ومُصادمٌ لسنةِ النبيِّ الأمينِ ﷺ.

قالَ الإمامُ مالكٌ -رحمهُ اللهُ تعالَى- فِي الذينَ يسبُّونَ الصحابةِ: إنَّما هؤلاءِ أقوامٌ أرادُوا القدحَ فِي النبيِّ ﷺ فلمْ يمكنْهم ذلكَ، فقدحُوا فِي أصحابِه حتَّى يُقالَ رجلُ سوءٍ، لو كانَ رجلًا صالحًا لكانَ أصحابُه صالحينَ.

وقالَ الإمامُ أحمدُ -رحمهُ اللهُ تعالَى-: إذَا رأيتَ رجلًا يذكرُ أحدًا منَ الصحابةِ بسوءٍ فاتهمْه علَى الإسلامِ.

وقالَ أبُو زرعةَ -رحمهُ اللهُ تعالَى-: إذَا رأيتَ الرجلَ ينتقصُ أحدًا منْ أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ فاعلمْ أنَّه زنديقٌ؛ وذلكَ أنَّ الرسولَ ﷺ عندنَا حقٌّ، والقرآنَ حقٌّ، وإنمَا أدَّى إلينَا هذَا القرآنَ والسنةَ أصحابُ رسولِ اللهِ ﷺ، وإنمَا يريدونَ أن يجرحُوا شهودَنَا ليُبطلُوا الكتابَ والسنةَ، والجرحُ بهِمْ أولَى وهمْ زنادقةٌ.

إلَى آخرِ كلماتِ أئمةِ الإسلامِ فِي بيانِ خطورةِ القدْحِ فِي الصحابةِ الأخيارِ.

اللهمَّ اغفرْ لنَا بحبِّهم واجعلنَا ممَّنْ لحقَهمْ، فإنَّ المرءَ معَ منْ أحبَّ

اللهمَّ اهدنَا فيمنْ هديتَ وتوَّلنا فيمنْ توليتَ.

 

 

 

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

شارك المحتوى:
0