مشروعية تقسيم صلاة الليل في رمضان


الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده…وبعد:
فإن المشروع في ليالي رمضان إحياؤها بالقيام والصلاة والعبادة والذكر والدعاء، وتخصيص العشر الأواخر منه بمزيد تعبد واجتهاد ، طلبا للمغفرة والرحمة والعتق من النار، وتحريا لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
و صلاة التراويح وصلاة التهجد تعتبران من قيام الليل ، ولذلك فالأمر في قيام رمضان واسع ، يجوز للعبد أن يصلي في الليلة ما شاء من الركعات ، وفي أي وقت من الليل شاء .
والسلف كانوا يصلون عددا من الركعات من صلاة التراويح ثم يتوقفوا عن الصلاة للراحة ثم يكملوا بعد ذلك، وكان بعض أهل مكة في الحرم يطوفون بين التراويح .
وهذا التقسيم للصلاة في قيام رمضان له أصل عند السلف، وكان يعرف لديهم بـ”التعقيب” وهو أن يصلي بعد التراويح نافلة أخرى جماعة أو يصلي التراويح في جماعة أخرى .
قال الإمام محمد بن نصر المروزي -رحمه الله- في “قيام رمضان”(ص245):
” بَابُ التَّعْقِيبِ..
وَهُوَ رُجُوعُ النَّاسِ إِلَى الْمَسْجِدِ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ عَنْهُ عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، أَنَّهُمَا كَانَا ” يَكْرَهَانِ التَّعْقِيبِ فِي رَمَضَانَ “،
قَالَ سَعِيدٌ: ” وَهُوَ رُجُوعُ النَّاسِ إِلَى الْمَسْجِدِ بَعْدَمَا يَنْصَرِفُونَ “.
وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ كَانَ لا يَرَى بَأْسًا بِالتَّعْقِيبِ فِي رَمَضَانَ، وَقَالَ: ” إِنَّمَا يَرْجِعُونَ إِلَى خَيْرٍ يَرْجُونَهُ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْ شَرٍّ يَخَافُونَهُ “.
وَعَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ ” كَرِهَ أَنْ يَعُودُوا إِلَى الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّحَرِ “.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ ” كَرِهَ التَّعْقِيبَ فِي رَمَضَانَ “.
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنِ التَّعْقِيبِ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: عَنْ أَنَسٍ فِيهِ اخْتِلافٌ.
وَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَعْتَقِبُونَ فِي رَمَضَانَ، فَيَقُولُ الْمُؤَذِّنُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَعْتَقِبُونَ فِيهِ: ” حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ.
فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا بِدْعَةً، وَكَرِهَهُ.
قِيلَ لَهُ: فَيَجِيءُ رَجُلٌ إِلَى أَبْوَابِ النَّاسِ فَيُنَادِيهِمْ؟ قَالَ: هَذَا أَيْسَرُ ” ا.هـ
 
وقد أورد الإمام أبو بكر بن أبي شيبة -رحمه الله- في “مصنفه”(2/399) باباً سماه “التَّعْقِيبُ فِي رَمَضَانَ” وضمنه بعض الآثار التي ذكرها المروزي -كما سبق-، ويتبين من هذا أن تقسيم صلاة الليل في رمضان كانت معروفة عند السلف ولم تكن شيئا محدثا .
قال الإمام إسحاق بن راهويه -رحمه الله-:” وأما الإمام إذ صلى بالقوم ترويحة أو ترويحتين، ثم قام من آخر الليل فأرسل إلى قوم فاجتمعوا فصلى بهم بعد ما ناموا فإن ذلك جائز، إذا أراد به قيام ما أمر أن يصلي من التراويح، وأقل من ذلك خمسة” [“مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه”:2/839 رقم:492].
وأما من قال من الأئمة بكراهة تلك الصلاة فيحمل على صورة مخصوصة كما سئل الأمام أحمد فيما نقله عنه ابن نصر سابقا ، وإلا كيف يكرهون أمرا كان معروفا عند الصحابة والتابعين وأجازه أنس .
قال القاضي أبو يعلي -رحمه الله – في كتابه”الروايتين والوجهين “(1 / 161):
” التنفل في جماعة بعد صلاة التراويح:
مسألة: واختلفت في كراهية صلاة النوافل في جماعة بعد صلاة التراويح.
فنقل بكر بن محمد عن أبيه أنه سئل عن التعقيب في رمضان، فقال: أكرهه.
ويروى عن أنس أنه كرهه، ولكن يؤخرون القيام إلى آخر الليل كما قال عمر.
ونقل المروذي وأبو طالب عنه، وقد سئل عن التعقيب وهو أن يصلوا التراويح ثم ينصرفون ثم يرجعون يصلون: لا بأس. قال أبو بكر ما رواه بكر بن محمد قول قديم، والعمل على ما رواه الجماعة أنه غير مكروه، وعندي أن المذهب غير مختلف في ذلك، وأنهم إذا صلوا في جماعة في آخر الليل لم يكره، وإنما يكره أن يجمعوا بعقب صلاة التراويح، لأنه قال في رواية بكر بن محمد أكره ذلك، ولكن يؤخرون من آخر الليل، وقال في رواية أبي طالب: لا بأس إذا صلوا التراويح وانصرفوا ثم عادوا فأجاز ذلك بعد التراويح بزمان. وقد روي في ذلك عن عمر أنه قال: يدعون أفضل الليل آخره، وفي لفظ آخر: الساعة التي تنامون أحب إليَّ من الساعة التي تقومون “.
وقال الإمام ابن قدامة -رحمه الله- في “المغني “(1 /457) :” وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّلَاةُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، أَوْ إلَى آخِرِهِ، لَمْ تُكْرَهْ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا رَجَعُوا قَبْلَ النَّوْمِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ وَطَاعَةٌ، فَلَمْ يُكْرَهْ، كَمَا لَوْ أَخَّرَهُ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ ” ا.هـ
وقال الإمام ابن رجب -رحمه الله- في”فتح الباري”(6/259):”وأكثر الفقهاء على أنه لا يكره بحالٍ “.
ونقل جوازه عن الإمام أحمد ابن مفلح في الفروع (2 /341)، قال :” وَهُوَ الْمَذْهَبُ عَلَى مَا اصْطَلَحْنَاهُ فِي الْخُطْبَةِ نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ فِي الْمُغْنِي ، وَالشَّرْحِ ، وَشَرْحِ ابْنِ مُنَجَّى وَصَاحِبُ التَّصْحِيحِ ، فِي كِتَابَيْهِ الْكَبِيرِ وَالْمُخْتَصَرِ ، وَغَيْرُهُمْ ، وَقَدَّمَهُ فِي الْكَافِي وَشَرْحِ ابْنِ رَزِينٍ وَغَيْرُهُمَا ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَمُنْتَخَبِ الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِمَا “.
وقال الشيخ العلامة عبد الله أبابطين -رحمه الله- كما في “الدرر السنية” (4/364):
” مسألة في الجواب عما أنكره بعض الناس على من صلى في العشر الأواخر من رمضان زيادة على المعتاد في العشرين الأول ، وسبب إنكارها لذلك غلبة العادة ، والجهل بالسنة وما عليه الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام .
فنقول‏:‏ قد وردت الأحاديث عن النبي صلى الله وعليه وسلم بالترغيب في قيام رمضان ، والحث عليه ، وتأكيد ذلك في عشره الأخير .
إذا تبين أنه لا تحديد في عدد التراويح ، وأن وقتها عند جميع العلماء من بعد سنة العشاء إلى طلوع الفجر ، وأن إحياء العشر سنة مؤكدة ، وأن النبي صلى الله وعليه وسلم صلاها ليالي جماعة ، فكيف ينكر على من زاد في صلاة العشر الأواخر عما يفعلها أول الشهر ، فيصلي في العشر أول الليل ، كما يفعل في أول الشهر ، أو قليل ، أو كثير ، من غير أن يوتر ، وذلك لأجل الضعيف لمن يحب الاقتصار على ذلك ، ثم يزيد بعد ذلك ما يسره الله في الجماعة ، ويسمى الجميع قياماً وتراويح .
وربما اغتر المنكر لذلك بقول كثير من الفقهاء ‏:‏ يستحب أن لا يزيد الإمام على ختمة ، إلا أن يؤثر المأمومون الزيادة ، وعللوا عدم استحباب الزيادة على ختمة بالمشقة على المأمومين ، لا كون الزيادة غير مشروعة ، ودل كلامهم على أنهم لو آثروا الزيادة على ختمة كان مستحباً ، وذلك مصرح به في قولهم : إلا أن يؤثر المأمومون الزيادة‏ .‏
وأما ما يجري على ألسنة العوام من تسميتهم ما يفعل أول الليل تراويح ، وما يصلي بعد ذلك قياماً ، فهو تفريق عامي ، بل الكل قيام وتراويح ، وإنما سمي قيام رمضان تراويح لأنهم كانوا يستريحون بعد كل أربع ركعات من أجل أنهم كانوا يطيلون الصلاة ، وسبب إنكار المنكر لذلك لمخالفته ما اعتاده من عادة أهل بلده وأكثر أهل الزمان ، ولجهله بالسنة والآثار ، وما عليه الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام ، وما يظنه بعض الناس من أن صلاتنا في العشر هي صلاة التعقيب الذي كرهه بعض العلماء فليس كذلك ؛ لأن التعقيب هو التطوع جماعة بعد الفراغ من التراويح والوتر‏ .‏
هذه عبارة جميع الفقهاء في تعريف التعقيب أنه التطوع جماعة بعد الوتر عقب التراويح، فكلامهم ظاهر في أن الصلاة جماعة قبل الوتر ليس هو التعقيب “
انتهى باختصار . والله الموفق.
 
كتبه/ د. خالد بن قاسم الردادي

شارك المحتوى: