عاشوراء وفتون موسى


الحمد لله، الحمد أوّل كتابه وآخر دعوى أحبابه ساكني دار ثوابه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له توحيدًا وتقديسًا لجنابِه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه. أما بعد، عباد الله:﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾

أيها المسلمون : لقد أخبر النبي  عن فتن الدين بما يحدث من المغريات المادية والفكرية فقال : (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا) رواه مسلم ، فتُحدث انتكاسًا للناس؛ فيرى الرجل حلالاً ما كان يراه حرامًا والعكس، وتتفاقم وتكثر ( وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ، (يعني تكون الأولى أهون من الثانية، وتُنسي شدة الثانية هول الأولى ) فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَر)

تكون فتنٌ يتمنى بعض الناس الموت، يقول -عليه الصلاة والسلام-: (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه ) لخوفه على دينه لظهور المعاصي والمنكرات .

إلا أننا اليوم أحوجُ ما نكون إلى الفأل والعمل والبِشارة وتحفِيز الهمم ومعرفةِ السنن سننِ الله في أوليائه وأعدائه، سننِ الإدالة والنّصر ؛ حتى يطمئنَّ مؤمن ولا يغترَّ فاجِر، ولئلا يكونَ كثرةُ الباطل مدعاةً لليأس والقنوط، وقد قال الله تعالى لنبيِّه : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) ولا يجوز أن يضعُف صاحبُ الحقّ أو يهين؛ فإنّ لهذا الدين إقبالا وغُربة وظهورا ، ففي الصحيحين: ( أن هرقل قال لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف الحرب بينكم؟ قال: سِجال، يُدال علينا مرةً ونُدَالُ عليهِ أخرى، قال: كذلك الرسلُ تُبتَلَى ثم تكونُ لهمُ العاقِبة ) ، وسنةٌ ماضية:( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا )

عباد الله : ومما جاء في أَمْرُ الفُتُون ، ما ذكره الله جل وعلا عن نبيه موسى عليه السلام ، مما يوافق العاشر من هذا الشهر المحرم ، والذي هو سابع مراحل الفتون لنبي الله موسى عليه السلام والذي ذكره الله بقوله: ﴿ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ﴾.

ولقد ذَكَرَ حَبْرُ الأُمَّةِ عبدُ الله بن عباس رضي الله تعالى

عنهما أنه كان على مراحل:

الأولى: عندما تَذَاكَرَ فرعونُ وجلساؤه ما كان اللهُ وَعَدَ إبراهيمَ عليه السلام أن يجعلَ في ذريته أنبياءَ وملوكا, فأْتَمَرُوا وأَجْمَعُوا أَمْرَهُم على أن يبعث رجالا معهم الشِّفَارُ، يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه. فكانوا يَذْبَحون عاما, ويَتْرُكون عاما, كي لا يفنى بنوا إسرائيل فلا يجدون من يخدمهم. فحملت أمُّ موسى بهارون في العام الذي لا يُذْبَح فيه الغِلمان، فلما كان من قابِل حَمَلَت بموسى عليه السلام ، فوقع في قلبها الهم والحزن، فدخل هذا الهم إلى موسى وهو في بطن أمه, وهذا من الفتون المذكور في الآية.

الثانية: عندما خافت عليه أُمُّه من الذَّبَّاحين, فوضعته في تابوت بِوَحْي من الله ثم ألقته في النهر, فانتهى به الماء إلى الجانب الذي يستقي منه جواري امرأة فرعون, فلما رَأَيْنَه غلاما, عَرَضْنَهُ على امرأةِ فرعون فوقع في قلبها حُبُّه, وفرحت به, فجاء الذبَّاحون يُهْرَعون إليه ،إلا أن امرأة فرعون اسْتَوْهَبَتْهُ من زوجها, وقالت:( قُرَّةُ عينٍ لي ولك). فقال: قرة عين لكِ أنتِ, وأما أنا فلا.

الثالثة: عندما أَبَى أن يَرْضَعَ من المُرضعات, وكاد أن يموت, فخافوا عليه, فقالت أختُه عندما بَصُرَت به عن جُنُب: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه؟ فَشَكُّوا في ذلك وقالوا: ما يدريكِ؟ وكادوا يمنعونها مِنْ أَخْذِه إلى المرضعة وهي أمه, ولكن الله سلَّم.

الرابعة: عندما فطمته أمه, فطلبت امرأة فرعون من أم موسى أن تبعث لها موسى, وأَمَرَت خُزَّانَها والمُرْضِعات باستقباله استقبالا يليق به ، فلما دخلت به على فرعون جَعَلَهُ في حِجْره، فتناول موسى لحيةَ فرعون يمدُّها إلى الأرض، فقال الغُواةُ من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وَعَدَ اللهُ إبراهيمَ نَبِيَّه، إنه زعم أن يرثُك ويعلُوك ويصرعُك، فأرسل إلى الذبَّاحين ليذبحوه ،إلا أن الله أنقذه بشفاعة امرأة فرعون.

الخامسة: عندما قَتَلَ موسى عليه السلام فِرْعَوْنِيًّا كان يتشاجر مع إسرائيلي من قوم موسى. جاء رجل من أقصى المدينة يخبر موسى بأن فرعون عَلِمَ بأمره وأرسل مَنْ يقتله. فَفَرَّ موسى خائفا,  فأنجاه الله منه.

السادسة: عندما بَلَّغَ موسى رسالةَ ربه ودعا فرعونَ إلى عبادةِ الله, وَأَراه من الآيات والمعجزات ما يدل على صدق رسالته, اتهمه فرعون بالسحر, وجمع له سَحَرَةَ المدائن ليغلبوه, فلما ألقوا حبالهم وعصيهم ورأى موسى هَوْلَ ما ألقَوه, أصابه الخوف مما رأى, وهذا من الفتون المذكور في الآية, إلا أن الله أوحى إليه أن يُلْقِيَ عصاه فإذا هي تلتهم جميع الحبال والعُصِيّ أمام الملأ كُلِهم.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم.

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:

عباد الله: المرحلة السابعة من أَمْرِ الفُتون: لَمَّا أَجْمَعَ فرعونُ على قتلِ موسى ومن معه, أمر اللهُ موسى بالخروجِ بقومِهِ ليلاً, فعلم فرعون فأرسل في المدائن حاشرين, فلحق موسى ومن معه متوجهين صوب البحر, فلما دنوا من البحر, قال أصحاب موسى: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾. فلما دنا أوائل جند فرعون, ضرب موسى البحر بالعصا فانفلق اثنتي عشرة فِرْقاً, فلما خرج موسى ومن معه, وتكامل فرعون وجنودُهُ داخل البحر. التقى عليهم البحر بأمرِ اللهِ فأغرقهم .

وهذه المرحلة يا عباد الله كانت في اليومِ العاشرِ من محرّم

، فصامه موسى عليه السلام شكرا الله على هذا النصر وهذه النعمة، وصامه بنو إسرائيل من بعده واستمروا على صيامه حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وفيها من اليهود من يصومون يوم عاشوراء فسألهم صلى الله عليه وسلم: لما تصومون هذا اليوم؟ مذكرا لهم وإلا فهو يعلم فضل هذا اليوم وما جرى فيه قالوا: هذا يوم نجا الله فيه موسى وقومه فصامه موسى شكرا لله فنحن نصومه قال صلى الله عليه وسلم: نحن أحق وأولى موسى منكم فصامه وأمر بصيامه وقال: لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ والعاشر ، استقر صيامه سنة في هذه الأمة شكرا لله عز وجل لأن انتصار موسى عليه السلام انتصار للمؤمنين في كل زمان انتصار للحق في كل زمان ، مِمَّا يَبْعَثُ الفَرَحَ والتفاؤلَ في نُفُوسِ المؤمنين, ويُقَوِّي جانِب الثقة بالله في قلوبهم, فإن الله وَعَدَ عباده المؤمنين, وَوَعْدُه صادق, وَأَمْرُه نافذ, متى ما قاموا بلوازم الإيمان, وتَوَفَّرَت فيهم عَوامِلُ النصر وأسبابُه, بالنصر على عدوِّهم والتمكينِ في الأرض.

 وواللهِ إنَّ مَا أَصَابَنَا من بلايا وفتن بِسَبَبِ ذُنُوبِنا وإِسرَافِنَا في أَمرِنَا وبِما فَعَلَهُ السُّفَهَاءُ مِنَّا، فأَظهِروا الحَاجةَ والاضطِرَارَ، والمَسكَنَةَ والافتِقَارَ، واصدُقُوا التَّوبَةَ والاعتِذَارَ، وأَكثِروا من الدُّعاءِ والاستغفَارِ، قَالَ اللهُ تَعالى:( فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ).

وابتعِدوا عباد الله : عن مَواطِنِ الزَّلَلِ،وآثِروا السَّلامَةَ حالَ الفِتَنِ، واسلُكُوا المَسَالِكَ الرَّشِيدَةَ، ورَاعُوا المَصَالِحَ والمَفاسِدَ، وَادفِنُوا الفِتنَةَ في مَهدِهَا،فَمَن فَتَحَ بَابَهَا صَرَعَتهُ،وَمَنْ أَدَارَ رَحَاهَا أَهلَكَتهُ! وذلكم بالتَزِامُ جَمَاعَةَ المُسلِمِينَ وإمَامَهُم،وأصدروا عن عُلَمَائِهِم،وَمِنَ المَعلُومِ لكم بِالاضطِرَارِ أَنَّهُ لا طَاعَةَ لِمَخلُوقٍ فِي مَعصِيَةِ الخَالِقِ، وعلماؤنا الراسخون ومن شابت في العلم لحاهم كمفتي البلاد والشيخ صالح الفوزان واللحيدان وإخوانهم  هم هم من كانوا قبل والآن بفتاواهم ونصحهم وغيرتهم على دينهم,لا تَأَخُذُهُم فِي اللهِ لَومَةُ لائِمٍ،ولا يُؤثِرونَ على الحَقِّ أَحدَاً ، فلا يهولنكم ارجاف المبطلين ولا نبز المفتونين

وبلادكم لا تزال بخير ، والإيمان يأرز الى أكنافها ، فلا تزدروا نعمة الله عليكم وتنتقصوا فضله ، فلا زلتم بخير ، وتطلبوا المزيد بالطرق الشرعية ، وأنتم اليوم تحت ولاية دولة تنصر التوحيد والسنة وتعظم العلم والعلماء ، فلا يكن كرهنا لشيء دافع لتنكبنا عن نصرة ديننا .

فاللهم يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلوبَنا على دِينِكِ، اللهم أرنا الحقَّ حقاً وارزقنا إتباعه والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ياربَّ العالمين. اللهم إنَّا نعوذُ بك من الفتنِ ما ظهر منها وما بطن ياربَّ العلمين.اللهم أبرم لهذه الأمةِ أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطَّاعةِ ويُهدى فيه أهلُ المعصيةِ ويؤمرُ فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر ياربَّ العالمين.اللهم أدم علينا نعمة الأمن والإيمان ووفقنا لما تحبُّ وترضى.

اللهم وفِّق ولاةَ أمورِنَا لِمَا تُحِبُّ وترضى وأعنهم على البرِّ والتقوى,وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة ياربَّ العالمين.

اللهم كن لإخواننا المستضعفين والمضطهدين في كلِّ مكانٍ ياربَّ العالمين .

( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ).

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد .


شارك المحتوى:
1