انتشر بين بعض إخواننا السلفيين الدعوة إلى التمذهب وترك العمل بالدليل، فما توجيهك؟


يقول السائل: بدأت تنتشر في هذه الأوقات بين بعض إخواننا السلفيين الدعوة إلى التمذهب بمذهبٍ من المذاهب الأربعة وترك العمل بالدليل، والدعوة إلى تخطئة طريقة الترجيح بين المذاهب بدعوى أنه يجب أولًا دراسة أصول كل مذهب، وأنه كلما زاد المرء علمًا بهذا قلَّ ترجيحه، وبناءً عليه بدأ الطعن في العلماء الذين دعوا إلى نبذ التقليد واتهامهم بأنهم أفسدوا الفقه، نريد توجيهك.

الجواب:

إنَّ الانتساب إلى المذهب ليس ممنوعًا، وإنما هو من باب الإخبار، كإخبار الرجل بقبيلته أو بلده أو غير ذلك، ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية كما في (مجموع الفتاوى).

لذا لا مانع شرعًا من الانتساب إلى مذهب، فالرجل إذا قال: أنا حنفيٌّ، فمعناه أنه تفقَّه على المذهب الحنفي، لكن الانتساب شيءٌ والتعصُّبُ للمذهبِ شيءٌ آخر، وهو من باب الإخبار كما تقدم.

إلا أنَّه إذا لم يكن للانتساب حاجة فلا فائدة من هذا الانتساب، بل ذكرهُ إذا لم يكن له حاجة قد يضر أكثر مما ينفع، وإنما يصح الانتساب إليه إذا دعت الحاجة لذلك، كأن يكون داعية التوحيد بأرضٍ ينتسب أهلها إلى مذهبٍ أو مذاهب فقهية، فله أن ينتسب إلى المذهب الفقهي الذي درس عليه ليدعوهم إلى التوحيد حتى لا يردوا دعوته بحُجة أنه جاء بمذهب جديد وغير ذلك.

وهذه هي الطريقة التي سلكها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وسلكها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، فأغلقوا هذا الباب الذي يدخل منه المنفِّرون بقولهم: إنكم أتيتم بمذهبٍ جديدٍ.

ثم إنه لا يصح لمَن درسَ مذهبًا من المذاهب الفقهية على المتون الفقهية أن يتعبَّد بما في هذه المتون؛ لأنَّ أصحابها كتبوا هذه المتون لما يظنونه راجحًا في المذهب، فكتبوه نظرًا للراجح في المذهب باجتهاد، وإلا غيرهم يُخالفهم.

والمذاهب الفقهية في ذِكر الراجح مختلفون ومتنازعون، وإذا أردت أن تعرف ذلك بالنظر إلى المذهب الحنبلي -مثلًا- انظر إلى كتاب (الإنصاف) لا تكاد تجد مسألة إلا وتجد فيها خلافًا بين الحنابلة أنفسهم، أيُّ القولين أو الثلاثة هو المذهب؟

فالمقصود أنَّ أصحاب المذاهب إذا كتبوا في المذهب فهم لا يكتبونه للتعبُّد، وإنما لمعرفة ما يظنونه راجحًا في المذهب نفسه، لذا لا يصح لأحد أن يتعبَّد بمثل هذا، ومما نُقل عن بعضهم أنه يقول: إذا ألَّفتُ، ألَّفتُ على المذهب، وإذا أفتيتُ، أفتيتُ فكأنَّما الجنة والنار بين عينيَّ، فلا أُفتي إلا بالدليل.

ففرقٌ بين أن يتعبَّد رجلٌ بفتوى عالم -سواء كان معاصرًا أو من الماضين- وبين أن يتعبَّد بما في هذه المتون الفقهية، فإنَّ هذا خطأ؛ لما تقدم ذكره.

وإنَّ مَن أخذ بقول عالم بغير دليل فهو عاميٌّ بالإجماع، ذكر هذا ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- في كتابه (جامع بيان العلم وفضله)، وابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) وفي (النونية)، وذكره غيرهم من أهل العلم.

فمَن أخذَ قول عالم بغير معرفته بالدليل فهو مقلِّد، والمقلِّدُ عاميٌّ، فلو أنَّ رجلًا أخذَ مسائل العلم من فتاوى العلامة ابن باز -رحمه الله تعالى- فله أن يتعبَّد بقوله؛ لأنه يُفتي بالدليل، لكنه لا يخرج عن كونه عاميًّا.

لكن فرقٌ بين هذا وبين مَن يتعلَّم مذهبًا، فمَن تعلَّم مثلًا (زاد المستقنع) أو (دليل الطالب) أو غيرها من المتون الفقهية، فلا يصح له أن يتعبَّد بهذا القول ولا يُسمَّى فقيهًا، بل هو درسَ الفقه وبدأ ببوابة الفقه ليتعلَّم الفقه، لكن لا يُسمَّى فقيهًا ولا يخرج عن كونه عاميًّا.

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى: من الخطأ الكبير أن يُتعمَّق في هذه المذاهب وأن يُبحَث أيُّ الأقوال الراجح فيها، فإنه لا فائدة تُذكر من وراءِ هذا، بل فيه إضاعة للوقت وإهدارٌ للعمر وتضييع للجهد والحماسة، وإنما الذي ينبغي أن يُعمَل أن يُدرَس المذهب على أنه مسائل فقهية قد جُمعَت، وبعبارة أخرى: كأنه فهرس لمسائل الفقه، فيدرُس هذه المسائل ويتصوَّرُها ليعرف مراد أهل العلم بهذه المسائل، هذا هو الفائدة المرجوَّة مِن دراسة هذه المذاهب.

أما بذل الوقت والعمر في بيان ما الرَّاجح في المذهب، وأيُّها المذهب …إلى غير ذلك، ففيه إضاعة كبيرة للوقت ولا فائدة منه على ما تقدم ذكره، وإنما يُدرَس الفقه على أحد متون المذاهب الفقهية لتُتصوَّر مسائل الفقه، لا أنْ يُتعمَّق في أيِّها الراجح عند المذهب …إلى غير ذلك.

ومما أظنه نافعًا كثيرًا في دراسة الفقه: أن يدرُسَ الطالب أوَّل ما يدرس الفقه على متنٍ في مذهبٍ، سواء كان في المذهب الحنفي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي، والدراسة على المذهب الشافعي والحنبلي أنفع، فيدرس متنًا فقهيًّا دراسةً سريعةً على أحد المشايخ العارفين ليُصوِّر له المسائل.

لكن لا يُطيل الدراسة، ويحاول أن يختم الفقه ختمةً سريعةً في سنةٍ مع تصوِّرِ المسائل، ثم بعدَ ذلك يُعيد الدراسة بالنظر إلى الدليل، يدرسه على شيخٍ عارفٍ بالدليل صِحَّةً وضعفًا، وعارفٍ بأصول الفقه، حتى يُرجِّح له، فيُعوِّدهُ على الترجيح ويُعلِّمه أصول الفقه، فيُدرِّبهُ على معرفة الراجح بدليلهِ، وهكذا حتى يشتدَّ ساعِدهُ ويتعبَّد الله بهذه المسائل.

ويُحاول أن يجمع بين علم أصول الفقه وعلم الحديث، وأن يأخذ المسألة بدليلها ويتعود الاجتهاد وتنزيل مسائل الفقه مع المسائل الفقهية، فيتعامل مع الأدلة بطريقة الأصول، فمَن فعلَ ذلك استفادَ كثيرًا.

ومن الأخطاء في هذا الزمن أمور:

الأمر الأول: أنَّ كثيرين صاروا يدعون إلى التمذهب وإلى دراسة الفقه على المذهب، وهذا حق، لكن المشكلة والخطأ فيما بعد ذلك، وهو أنهم يبدأون بمتنٍ ثم يختمون هذا المتن وينتقلون إلى متن آخر، وهكذا يتنقل من متنٍ إلى متن، وهي على طريقة التصوير، وإذا ذكرَ الدليل ذكره أحيانًا ولا يُميِّز صحيحه مِن ضعيفه، وقد يُعلل … إلى غير ذلك، فأذهبَ عمره وعمر مَن أحبَّه ووثق فيه بمثل هذا.

ثم إذا ذهبت الأيام يستحيي أن يقول: نحن جهَّال ولا زلنا عوام، لأننا لم نتعلم المسائل العلمية بدليلها، فيتعصبون لمثل هذا، ثم يزعمون أنَّ هذه هي الطريقة الصحيحة، ثم يزعمون بعد ذلك أنه لا يكون الرجل فقيهًا إلا بهذه الطريقة، ثم يقدحون فيمَن يُخالف هذه الطريقة، وهكذا.

والسبب في هذا أنهم ساروا على هذه الطريقة وضعُفت همَّتهم عن دراسة المسائل بدليلها، فبعد ذلك فزعوا إلى الأعذار الواهية ليُنفِّروا الناس من معرفة المسائل بدليلها، وهذا من الخطأ الكبير، ومن إضاعة طلاب العلم الواثقين به.

بل الذي ينبغي أن يُعلِّمهم المذهب ويُبيِّن لهم أنَّ هذا من باب الفهرس للمسائل ومعرفة المسائل، وأنَّ المهم أن يعرفوا المسائل بدليلها وأنه يُدرِّسهم بعد ذلك المسائل بدليلها، أما ألا يُعرف عن الرجل إلا الإجمالات وقد يُحقق مسائل قليلة، وأكثر مسائله على إجمالات وعلى المذهب، ثم يزعم أنَّ هذا هو الفقه وما عدا ذلك ليس فقهًا، ثم يبدأ بالقدح فيمَن يتَّبعون الدليل ويدعون للدليل بطريقةٍ منتظِمة مُراعين فيها أصول الفقه وغير ذلك من الطرق الشرعية، فهذا خطأ ولا شك.

ومما يُتحسَّر له أنَّ مثل هذا بدأ ينتشر اليوم، وسلوك الطلاب له لأسباب، منها ضعف الهمة، ليس عندهم همة أن يدرسوا الفقه بدليله، فرأوا أنَّ هذه الطريقة أسرع طريقة لدراسة الفقه، ويظنون بعد ذلك أنهم صاروا فقهاء، وخُدعوا بمثل هذا.

فضاع الفقه بين أمثال هؤلاء وبين من يُقابلهم وهم الظاهرية الذين يزعمون أنهم أهل الحديث، وقد بيَّن خطأ هذا ابن رجب في كتابه (فضل علم السلف على الخلف) وذكر ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في المجلد الخامس من كتابه (منهاج السنة) أنَّ كُلَّ قولٍ تفرَّدتْ به الظاهرية فهو خطأ.

والكلام على هذا يطول، لكن أحب أن أنبه إلى أنَّ هناك فرقًا بين التنظير وبين أن يعيش الطالب واقعه، فالتنظير أن يدرس الطالب المذهب دراسةَ تصوُّر سريعة، ثم بعد ذلك ينتقل لدراسته بالدليل، لكن مثل هذا في هذا الوقت مُتعسِّر في كثير من الأماكن والأزمان، فلذا لا يصح للطالب أن يُضيِّع عمره في دراسة متون هذه المذاهب بحجة التدرُّج في التفقُّه، بل إن وجدَ من يشرح له المذهب سريعًا ويُصوِّره له ثم ينتقل إلى من يشرحه له بالدليل فهذا خير، وإن لم يجد فليُبادر لدراسته لمن يشرحه بالدليل ولو بذكر القول الراجح بدليله حتى يشتدَّ ساعده.

فوالله لأن يَدرس الطالب كتابًا أو كتابين من الفقه ويعرفه بدليله خيرٌ من أن يدرسه على المذهب ثم يتعلق قلبه بهذه الطريقة ثم لا يتجاوز هذه الطريقة، بل ويزعم أنَّ هذا هو الفقه الحقيقي، ثم يُصادم غيره، إلى غير ذلك.

وأخيرًا مما نحمد الله عليه، أنَّ الله مَنَّ علينا سبحانه وتعالى بدعوة علماء مجددين في هذا العصر، كالإمام ابن باز، والإمام الألباني، والإمام ابن عثيمين، وقد قضوا على التعصب المذهبي، فإنَّ مِن مزايا دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- أنه حارَب التعصب المذهبي وكرر ذلك كثيرًا في رسائله، ومن ذلك رسالته إلى عبد الله بن محمد عبد اللطيف، فقد بيَّن له اتِّباع الدليل وعدم التعصب وغير ذلك.

وذكر هذا في (الأصول الستة) في الأصل السادس، وشدَّد على من دعا إلى إغلاق باب الاجتهاد، الذي هو حقيقة قول من يدعو اليوم إلى التمذهب بأسلوب غير مباشر.

وهذا من مزايا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومشا على ذلك كثير من العلماء المحققين من أئمة الدعوة، إلى أن جاء هؤلاء العلماء الثلاثة المعاصرون وقضوا على هذا التمذهب وأضعفوه جدًّا، لكنه بعد وفاتهم بدأت تخرج صيحات ونداءات شرقًا وغربًا إلى دراسة الفقه على المذهب وحقيقة حال -بعضهم لا كلهم- أنها دعوة للتعصب.

بل بلغ الحال ببعضهم أنه صار يدعو إلى ترك ذِكر أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم في المسائل المشهورة مما خالَف فيها المذهبُ الدليلَ، كمسائل التبرك وغير ذلك، وهذه خطوة خطيرة وهي فتحٌ لباب التصوف -عافاني الله وإياكم-.

أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا.

372_1


شارك المحتوى:
0