همسة في أذن الأئمة والمؤذنين

العلامة د. صالح بن سعد السحيمي

بسم الله الرحمن الرحيم

همسة في أذن الأئمة والمؤذنين

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:

فهذا نداء إلى إخوتي المشايخ أئمة المساجد والمؤذنين -وفقهم الله ورزقنا وإياهم الإخلاص والصواب في القول والعمل-، ثم ليسمح لي إخوتي بالنصيحة في مسائل تتعلق بالإمامة والأذان؛ لعلمي أنهم يحرصون على السنة في أقوالهم وأفعالهم وأنهم يقبلون الحق بدليله؛ لذا أحببت أن أوجه لهم هذه المناصحة رغبة فيما عند الله، ومحبة لهم، وتعاونًا على البر والتقوى، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الدين النصيحة…» قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم.

وهذه النصيحة عبارة عن تنبيهات تتعلق بصلاة التراويح والقيام وهي كالآتي:

أولاً: حبذا لو أنَّ الأئمة الكرام يطيلون بعض الشيء في الركوع والسجود لتمكين المأمومين من إكمال التسبيح والدعاء؛ حيث إنَّ الأمر يصل أحيانًا إلى عدم الطمأنينة في الركوع والسجود، لا سيما مع تمطيط المكبرين المبلغين في الحرمين والمساجد الكبيرة، حيث يبالغون برفع الأصوات ومدِّها وقد تمتد إلى قريب رفع الإمام من الركوع والسجود، فحبذا لو وجهوا بتلافي ذلك.

ثانيًا: يلاحظ في دعاء القنوت ما يأتي:

1/ الإطالة المملة التي ينتج عنها إلحاق المشقة بالمأمومين، مع ما فيها من تكلف لأدعية غير ثابتة وقد قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ خير دينكم أيسره» رواه أحمد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإنَّ نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حَرُم» رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

2/ التغني بالدعاء إلى درجة أنَّه يشبه تلاوة القرآن، وهذا خطأ وبدعة لم يكن معروفًا عن السلف، بل هو منافٍ للضراعة والابتهال، وفيه مدعاة للرياء والإعجاب بالنفس، وغير ذلك من المحظورات الشرعية.

3/ التكلف بذكر أدعية مسجوعة مع أنَّ هناك أدعيةً ثابتةً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تُغني عنه ذلك، فعلى الداعي في القنوت أن ينتقي الأدعية الثابتة في الكتاب والسنة، وأن يختار جوامع الكلم وما أكثرها في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا داعي للتكلف مع وجود الأدعية النبوية وكثرتها، والسجع من الاعتداء في الدعاء، والله لا يحب المعتدين في الدعاء وفي غيره، ويخشى أن يكون السجع من موانع قبول الدعاء.

4/ المبالغة في اللحن والتطريب في الدعاء مما جعل كثيرًا من العوام يتعلقون بأصوات الأئمة الذين تحولت أدعيتهم إلى ما يشبه الغناء، فيذهبون لتلك المساجد ولو كانت بعيدة، ويتركون الأئمة المتقنين الملتزمين بالسنة، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنَّ إدخال الألحان في الصلوات من شعار النصارى.

5/ التكلف بإظهار البكاء، ولا بأس إذا كان ذلك بسبب الخشوع مع عدم التكلف، ونبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه كان يُسمع له أزيز في صدره، ولم يكن يتكلف البكاء أمام الناس، وهو -صلى الله عليه وسلم- القدوة في هذا الباب وفي غيره.

6/ الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والموضوعة الواردة في الدعاء مع كثرة الأحاديث الصحيحة التي تغني عن ذلك، وربما كان في بعض الأدعية شيء من التوسلات البدعية.

7/ المداومة على القنوت والدعاء بصفة مستمرة مما يوهم الناس أنَّ ذلك سنة، وقد ثبت عن أبي ابن كعب -رضي الله عنه- حين كان يصلي بالصحابة -رضي الله عنهم- في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يترك القنوت في بعض الليالي، ولعل فعله محمول على تعليم الناس أنه ليس بواجب.

وإليكم إخوتي الكرام بعض الآثار النبوية والسلفية الواردة في التحذير من الاعتداء في الدعاء:

عن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- أنه سمع ابنًا له يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» رواه أبو داود (96) وصححه الألباني.

وعن ابنٍ لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، أنه قال: سمعني أبي، وأنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة، ونعيمها، وبهجتها، وكذا، وكذا، وأعوذ بك من النار، وسلاسلها، وأغلالها، وكذا، وكذا، فقال: يا بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء، فإياك أن تكون منهم، إنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن أعذت من النار أعذت منها، وما فيها من الشر» رواه أحمد (1488) وأبو داود (1480) وصححه الألباني.

ومن الاعتداء في الدعاء أيضًا تكلف السجع، فقد أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه وصَّى مولاه عكرمة رحمه الله بقوله: “فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب“، وترجم البخاري لهذا الحديث بعنوان: [باب ما يكره من السجع في الدعاء].

وذكر الطرطوشي رحمه الله في كتابه “الحوادث والبدع” ص (157) عن عروة بن الزبير -رضي الله عنه- أنه إذا عرض عليه دعاء فيه سجع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه -رضي الله عنهم- قال: “كذبوا لم يكن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه سجاعين“.

ومثله المبالغة في الجهر بالتأمين والصياح به بصرخات تشبه الهتافات، وهذا من المنكرات والبدع المحدثة.

وقال الألوسي رحمه الله في روح المعاني (8/139): “وترى كثيرًا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء، خصوصًا في الجوامع، حتى يعظم اللغط ويشتدّ، وتستكّ المسامع وتستدُّ، ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين: رفع الصوت في الدعاء، وكون ذلك في المسجد”.اهـ.

وقد رفع الصحابة أصواتهم بالدعاء فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: أنهم كانوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم».

وقال ابن جريج في تفسير قوله تعالى {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين}: “من الاعتداء: رفع الصوت والنداء في الدعاء والصياح، وكانوا يؤمرون بالتضرع والاستكانة“. تفسير القرطبي (8/207).

وقال النووي -رحمه الله- في المجموع (3/479): “قال البغوي: يكره إطالة القنوت كما يكره إطالة التشهد”.

وقال الكمال ابن الهمام الحنفي -رحمه الله-: “لا أرى تحرير النغم في الدعاء كما يفعله القراء في هذا الزمان يصدر ممن فهم معنى الدعاء والسؤال، وما ذلك إلا نوع لعب، فإنه لو قدر في الشاهد -أي الواقع- سائل حاجة من مَلِك أدى سؤاله وطلبه بتحرير النغم فيه من الرفع والخفض والتغريب والرجوع كالتغني نُسب ألبتة إلى قصد السخرية واللعب؛ إذ مقام طلب الحاجة التضرع لا التغني”. فتح القدير (1/370-371).

وقال أيضًا في المصدر نفسه (1/261-263): “ما تعارفه الناس في هذا الزمان من التمطيط والمبالغة في الصياح، والاشتغال بتحريرات النغم -يعني في الدعاء- إظهارًا للصناعة النَّغمية لا إقامة للعبودية، فإنه لا يقتضي الإجابة بل هو من مقتضيات الرد”.

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء المجموعة الثانية (5/396): “على أئمة المساجد -وفقهم الله- الاجتهاد في معرفة السنة والحرص على العمل بها في جميع الأمور فالناس بهم يقتدون وعنهم يأخذون فالحذر الحذر من مخالفة السنة غلوا أو تقصيرا ، ومن ذلك الدعاء في قنوت الوتر والنوازل: فالمشروع الدعاء بجوامع الكلمات والأدعية الواردة في حال من السكون والخشوع وترك الإطالة والإطناب والمشقة على المأمومين”.

وجاء فيها أيضًا (9/76) رقم (263/2) وتاريخ 20/12/1420ه ما نصّه: “وعلى الداعي ألا يشبّه الدعاء بالقرآن، فليتزم قواعد التجويد والتغني بالقرآن فإنَّ ذلك لا يعرف من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-ولا من هدي أصحابه -رضي الله عنهم-“.

وقد نبَّه الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد -رحمه الله- في كتابه “تصحيح الدعاء” على بعض المخالفات في دعاء القنوت من قِبَل بعض الأئمة، أختار منها الآتي:

1/ أنَّ التلحين والتطريب والتغني والتقعر والتمطيط في أداء الدعاء منكر عظيم ينافي الضراعة والابتهال والعبودية، وداعية للرياء والإعجاب، وتكثير جمع المعجبين به.

وقد أنكر أهل العلم على من يفعل ذلك في القديم والحديث، فعلى من وفقه الله تعالى وصار إمامًا للناس في الصلوات وقنت في الوتر أن يجتهد في تصحيح النية، وأن يلقي الدعاء بصوته المعتاد بضراعة وابتهال، متخلصًا مما ذُكِرَ، مجتنبًا هذه التكلفات الصارفة لقلبه عن التعلق بربه.

2/ يُجتنب جلب أدعية مخترعة لا أصل لها، فيها إغراب في صيغتها وسجعها وتكلفها، حتى إن الإمام ليتكلف حفظها ويتصيَّدها تصيّدًا، ولذا يُكثر غلطه في إلقائها، ومع ذلك تجده يلتزمها ويتخذها شعارًا.

3/ ويُجتنب التزام أدعية وردت في روايات لا تصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن في سندها كذَّابًا أو متهمًا، أو ضعيفًا لا يُقبل حديثه.

4/ ويُجتنب قصد السَّجع في الدعاء، والبحث عن غرائب الأدعية المسجوعة على حرف واحد، وقد ثبت في صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال له: ((فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب)).

ومن أمثلة الأدعية المخترعة المسجوعة: “اللهم ارحمنا فوق والأرض، وارحمنا تحت الأرض، وارحمنا يوم العرض”.

ولا يرد على ذلك ما جاء في بعض الأدعية النبوية من ألفاظ متوالية فهي غير مقصودة ولا متكلفة، ولهذا فهي في غاية الانسجام.

5/ ويُجتنب اختراع أدعية فيها تفصيل أو تشقيق في العبارة؛ لما تحدثه من تحريك للعواطف وإزعاج للمصلين، والبكاء والشهيق والضجيج والصَّعق إلى غير ذلك مما يحدث لبعض الناس حسب أحوالهم وقدراتهم وطاقاتهم قوةً وضعفًا.

6/ ومنه تضمين الاستعاذة بالله من عذاب القبر ومن أهوال يوم القيامة أوصافًا وتفصيلات، ورص كلمات مترادفات يُخرجُ عن مقصود الاستعاذة والدعاء إلى الوعظ والتخويف والترهيب، وكل هذا خروج عن حدِّ المشروع، واعتداء على الدعاء المشروع وهجر له، واستدراك عليه، وأخشى أن تكون ظاهرة ملل، وربما كان له حكم الكلام المتعمد غير المشروع في الصلاة فَيُبْطِلهُا.

7/ ويُجتنب التطويل بما يشق على المأمومين، ويزيد أضعافًا على الدعاء الوارد، فيحصل من المشقة واستنكار القلوب وفتور المأمومين، مما يؤدي إلى خطر عظيم يُخشى على الإمام أن يلحقه منه إثم.

8/ ليس من حق الإمام أن يراغم المأمومين، ولا أن يضارَّهم بوقوف طويل يشق عليهم، ويؤمّنون على دعاء مخترع لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو يكونوا في شك من مشروعيته، وبينما هو في حال التغريد والانبساط فهم في غاية التحرج والانزعاج.

ولو سمع بعض الأئمة ما يكون من بعض المأمومين بعد السلام من تألم وشكوىمن التطويل، وسماع أدعية يؤمنون عليها ولا يعرفون معناها، وتستنكرها القلوب؛ لرجع إلى السنة من فوره.

فيجب على من وفقه الله وأمَّ الناس في الصلاة أن يتقيد بالسنة، وأن لا يوظف مزاجه واجتهاداته مع قصور أهليته.

وأن يستحضر رهبة الموقف وأنه يقف بين يدي الله تعالى -وفي مناجاته-، وأنه في مقام القدوة وتلقين المسلمين المشروع من القنوت، ونشره بينهم وتوارثهم له.

وكان دأب العلماء الاقتصاد في الدعاء، ويرون الإسهاب فيه من جملة الاعتداء.

أما النَّصيحة الموجهة للأخوة المؤذنين فهي:

أولاً: أبشرهم بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ المؤذنين أطول الناس أعناقًا يوم القيامة»، فأسأل الله تعالى أن يجعلكم منهم.

ثم ليسمح لي الأخوة المؤذنون أن أنبهم على الآتي:

1/ المبالغة في الإلحان والتطريب في الأذان إلى درجة تشبه الغناء أحيانًا أمرٌ غير سديد ألبتة.

2/ نتج عن هذه المبالغة زيادة أحرف ومدود ليست موجودة في الأذان، كقول بعضهم: (أَشهدو أن لا إله إلا الله)، فيزيد واوًا بسبب اللحن، والبعض يزيد مدًا في التكبير فيقول: (الله أكبار)، والبعض يزيد حرف ألفٍ في حي على الصلاة وحي على الفلاح، فتصير: (حيَّا على الصلاة، حيَّا على الفلاح)، والبعض يزيد واوًا في: الصلاة خير من النوم بسبب اللحن، فتصير: (الصلاتو خير من النوم)، وبعضهم يزيد واوًا بسبب اللحن أيضًا في: الله أكبر، فيقول: (اللهو أكبر)، والبعض يزيد ألفاً في: لا إله إلا الله بعد الهاء فيقول: (لا إلها إلا الله).

وهذا كله نتيجة للمبالغة في التلحين والتطريب.

هذه نصيحة أقدمها لإخوتي أئمة المساجد والمؤذنين مبتهلاً إلى الله تبارك وتعالى أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن تجد آذانًا مصغية وقلوبًا واعية.

وإني لأدعو الله مخلصًا أن يوفقنا وإياكم لاتباع السنة الذي هو طريق الجنة في جميع أمورنا وأحوالنا، وأن يجمعنا وإياكم في جنته، وأن يجعلنا جميعًا من عتقائه من النار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

أخوكم: صالح بن سعد السحيمي


شارك المحتوى: