مقدمة التحذير من التساهل في الدماء المعصومة


مقدمة التحذير من التساهل في الدماء المعصومة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.

{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا}.

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا}.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

هذا؛ وإنه قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيمَ قتل، ولا المقتول فيمَ قُتل. فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج؛ القاتل والمقتول في النار)) [أخرجه مسلم].

وفي لفظ: ((والذي نفسي بيده ليأتيَنَّ على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا المقتول على أي شيء قُتل)) [أخرجه مسلم].

والمقصود في هذا الحديث ما يكون من القتل بين المسلمين أنفسهم، يُبَيِّن هذا قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: ((إنَّ بين يدي الساعة لهرجًا. قلت: يا رسول الله؛ ما الهرج؟ قال: القتل. فقال بعض المسلمين: يا رسول الله؛ إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليس بقتل المشركين، ولكن يقتل بعضكم بعضًا، حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته. فقال بعض القوم: يا رسول الله؛ ومعنا عقولنا ذلك اليوم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا، تُنزَع عقول أكثر ذلك الزمان، يخلف له هباءٌ من الناس لا عقول لهم)) [أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني].

وفي لفظ: قال أبو موسى الأشعري: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدثنا أن بين يدي الساعة الهرج. قيل: ما الهرج؟ قال: الكذب والقتل. قالوا: أكثر مما نقتل الآن؟ قال: إنه ليس بقتلكم الكفار، ولكنه قتل بعضكم بعضًا، حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه. قالوا: سبحان الله! ومعنا عقولنا؟! قال: لا، إلا أنه تُنزَع عقول أهل ذاك الزمان حتى يحسب أحدكم أنه على شيء وليس على شيء)) [أخرجه أحمد في “مسنده” وصححه الألباني في “السلسلة الصحيحة”].

وفي لفظ: ((يقتل أخاه ويقتل أباه)) [رواه ابن المبارك في “مسنده”].

والمتبصر في أحوال كثير من أهل هذا الزمان يرى تساهلهم في الدماء، إذ صارت الأنفس تزهق بأدنى ظِنَّة، ونُزِع التثبت، وكلٌّ منهم يرى أنه على شيء، وما هو على شيء، وكلُّ منهم يرى أنه يحسن صنعًا، وما هو بمحسن صنعًا.

تُفجر مساجد، ومعاهد علم وتعليم، ومشافٍ، وأسواقٌ ومصانعُ، ومطارات وطائرات، وقطارات، ومركبات، وأنفاق، ولا يدري القاتل فيمَ قتل، ولا المقتول فيمَ قُتل، يُقتَل فيها الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والمسلم والمعاهد.

ويفتخر من فعلها، ويرى ذلك غزوًا وجهادًا، ونكاية بعدو، وكسرًا لشوكتهم، ومنعًا لهم من دخول جزيرة العرب، وإخراجًا لهم من بلاد المسلمين.

وهذه كلها أمور ظنية، بل باطلة، إنما يقع ضررها على أهل الإسلام، ويفرح العدو بها، ويُعطى من يقوم بها في بلاد المسلمين بسخاء من غير أن يشعر هؤلاء الضعفاء القائمون بها أنهم بمنزلة الآلة التي يحركها عدوهم متى شاء.

قتلوا علماء المسلمين وقضاتهم، واعتدوا على أمراء المسلمين ووزرائهم، وقاتلوا جند الإسلام.

ورأى الناس في هذا الزمان مَن يقتل أباه وأخاه وأخته وعمه وعمته وابن عمه وجاره، يقتلهم تارة مستحلًا لدمائهم لكونهم كفارًا فيما يزعم، وتارة يقتلهم بدعوى أن العدو “المتوهَّم” متترس بهم، وتارة يقتلهم بدعوى أنهم صائلون؛ لأنهم جند للسلطان -والسلطان من قبلُ قد حكموا بكفره- إلى غير ذلك.

“لا يدري القاتل فيمَ قتل” وهذا تراه عيانًا بيانًا في الذين يقومون بالتفجير والقتل دون أن يعرفوا سبب القتل والتفجير؛ زعمًا منهم أن الأمر جاءهم من أميرهم، وتقتضي “أمنياتهم” عدم السؤال، وإنما عليه أن يفعل ما أمر به.

فتاوى تصدر، وبيانات تنشر تدعو إلى الجهاد والإعداد، ثم تجد وقود هذه التفجيرات شبابًا ظنوا أن من يقوم بنشرها هم من أهل العلم والإيمان، وما عملوا أن هؤلاء من أعظم الناس جبنًا وركونًا إلى الدنيا، وإلا فَلِمَ يقومون بالتحريض ويقبعون في منازلهم، ويشتغلون بأهليهم وأموالهم وحرثهم؟ لِمَ لا يكونون في المقدمة إن كانوا صادقين؟

خالفوا كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والله تعالى يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}، ويقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تُقَدِّموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}، وزعموا أنهم بأفعالهم المخالفة للشرع ينصرون الدين وأهله، وقد ضلوا في ذلك ضلالًا مبينًا، فما جعل الله تعالى شفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما حرم الله عليها، وإنما نصر هذه الأمة بالإمان والعمل الصالح، وهما شرط كل عمل: الإخلاص والمتابعة، فبهذا تنتصر الأمة وتقوى، ويرهبها عدوها، كما قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليُمَكننَّم دينهم الذي ارتضى لهم وليُبدِّلنَّهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.

ومن أشد ما يُعاقب به المرء: أن يُملى له، وأن يُزَيَّن له فعله فيراه حسنًا، فيبقى عليه حتى يموت ويوافي ربه بفعل ابتدعه وجُرم استحله..

وكثير من أهل البدع في قديم الزمان وحديثه لما أعرضوا عن الوحي، واعتاضوا عنه بآراء الرجال وعقولهم، لم يُوَفَّقوا، فلم يعرفوا حقًّا، فضلًا عن أن يرجعوا إليه.

وهذا كما قال الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين}، وكما قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}.

ولما رأيت ما كدر خواطرَ أهلِ الإيمان والصلاح من تساهل في الدماء المعصومة، رغبت أن أكتب في هذا بحثًا لعل الله تعالى أن ينفع به، وأن يجعله سبب هدى وإصلاح.

وإني لا أخاطب بهذا البحث إلا من كان عنده تعظيم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأخص بذلك مَن عَميت عليهم الأنباء، ممن هرفوا عقيدة أهل السنة والجماعة، فكان من مباحثها: “وجوب تقديم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل قول ورأي”، لكن سُلك بهم مسالك غير محمودة ، أدعو هؤلاء الإخوة إلى التبصر في الكتاب والسنة، والرجوع إليهما، وترك الغَيرة غير المضبوطة بالشرع؛ لأنها تستحيل غلوًّا، والغلو مذموم قد نهانا الله تعالى عنه في كتابه، ونهانا عنه نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وهلكت الأمم قبلنا به.

{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل}.

كما إنني أدعو إخواني الذين يسارعون إلى إصدار الفتاوى والبيانات إلى التعقل والروِيَّة، وتقوى الله تعالى ومراقبته، فالرفق ((لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه))؛ صح بهذا الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليعلموا أن كثيرًا من الشباب ضلوا الطريق، وسلكوا طرقًا أهلكتهم وأهلكت غيرهم بسبب فتوى مَن لم ينظر إلى عواقب الأمور، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا مَن أفتى بغير علم فكان سبب هلاك المستفتي، فقال: ((قتلوه قتلهم الله)).

وإنني أدعو إخواني الذين أضلتهم هذه البيانات والفتاوى التي تصدر إلى النظر: هل فعل هؤلاء الموقعون عليها ما يريدون من هؤلاء الشباب أن يفعلوه؟ هل هم دعوا إلى الخروج إلى مواطن الفتن بزعم نصرة المسلمين والمجاهدين خرجوا؟ أو بقوا في حرثهم وأهلهم؟ مع أنه يكاد يوجد بين هؤلاء الموقعين من هو من أهل الأعذار، فأدعو هؤلاء جميعًا وأدعو نفسي قبلهم إلى الاطراح بين يدي الله، ودعائه بأن يهدينا إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا وأن يرزقنا اجتنابه، والله المستعان.

خطة البحث:

جعلت هذا البحث في مقدمة وتمهيد وعشرة فصول وفهارس.

المقدمة: وتحدثت فيها عن أهمية الموضوع، وسبب الكتابة فيه، وخطة البحث ومنهجه.

التمهيد: في وجوب تعظيم النصوص الشرعية.

الفصل الأول: وجوب لزوم السمع والطاعة في المعروف لولاة أمر المسلمين.

الفصل الثاني: أثر البدعة في استحلال الدماء المعصومة.

الفصل الثالث: اتفاق الشرائع على حفظ الضروريات الخمس ومنها الأنفس المعصومة.

الفصل الرابع: أسباب عصمة الدم، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: أسباب عصمة دم المؤمن.

المبحث الثاني: أسباب عصمة دم الكافر.

الفصل الخامس: تحريم الاعتداء على الأنفس المعصومة على وجه العموم.

الفصل السادس: وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: تحريم قتل الإنسان نفسه.

المبحث الثاني: سد الذرائع المفضية إلى قتل النفس.

المبحث الثالث: بعض صور قتل النفس المعاصرة:

الصورة الأول: العمليات الإنتحارية.

الصورة الثانية: الإضراب عن الطعام حتى الموت.

الفصل السابع: تحريم دماء المؤمنين، وسد الذرائع المفضية إليها، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: تحريم دماء المؤمنين.

المبحث الثاني: سد الذرائع المفضية إلى القتل.

الفصل الثامن: تحريم دماء المعاهدين، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: وجوب الوفاء بالعهد.

المبحث الثاني: حرمة دم المعاهد.

الفصل التاسع: دماء السفر والسفراء:

المبحث الأول: تحريم قتل الرسل والسفراء.

المبحث الثاني: شبه ترد في مسألة السفراء والجواب عنها.

الفصل العاشر: قتل المسلمين أو المعاهدين من النساء والأطفال بدعوى أنهم في حكم المتترس بهم أو في حكم البيات.

الفصل الحادي عشر: قتل رجال الأمن ومن في حكمهم بدعوى أنهم صائلون.

الفصل الثاني عشر: الفتنة المنهي عن القتال فيها.

الفصل الثالث عشر: وجوب إنكار قتل الأنفس المعصمومة.

الفهارس:

فهرس الآيات.

فهرس الأحاديث والآثار.

فهرس المصادر والمراجع.

فهرس الموضوعات.

منهج البحث:

سلكت في هذا البحث المنهج التالي:

أولًا: عزو الآيات إلى سورها.

ثانيًا: تخريج الأحاديث، فما كان منها في “الصحيحين” اكتفيت بالعزو إليهما عن الحكم عليهما، وما كان في غيرهما اجتهدت في تخريجه ونقل أقوال أئمة الشأن فيه: تصحيحًا وتضعيفًا.

ثالثًا: تخريج الآثار المنقولة عن السلف.

رابعًا: شرح الغريب.

هذا؛ وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأسأله تعالى إذا أراد بعباده فتنة أن يقبضنا إليه غير مفتونين، وأن يتوفانا على الإسلام، وأن يوفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح البلاد والعباد، وأن يحفظنا وإياهم من كيد الكائدين، وإفساد المفسدين، كما أسأله تعالى أن يهدينا وشبابنا للخير والبر والتقى، وأن يهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه: أ.د. يوسف بن محمد بن عبدالعزيز السعيد

الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

رابط الكتاب:

http://islamancient.com/ressources/docs/781.pdf


شارك المحتوى: