فائدة نفيسة من كتاب العبودية

محمد بن علي الجوني

فائدة نفيسة من كتاب العبودية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه ورضي الله عن صحابته أجمعين.

أما بعد

كنت أقرأُ كتاب العبوديّة لتقيّ الدين ابن تيمية رحمه الله، وهو كتابٌ عظيم الفائدة، جليلُ القدر، عُني فيه مصنّفهُ رحمه الله بتقرير حقيقة العبوديّة، والإفصاح عن رُتبتها، وتجلية الأكدار عن معناها، بعد أن رانت على أنوار شمسها ضلالات المنحرفين، وتخليطات المُخلّطين الذين خاضوا فيها بغير علم، وتكلّموا عن درجاتها ومنازلها ورُتبها بغير هُدى من الله.

ومن الفوائد الغِزار، والمنافع الكثار من ذخائر هذا الكتاب النّفيس، الذي أكاد أجزم أنّهُ لا يستغني عنهُ طالب علم، بل هو محتاجٌ من حين لآخر إلى مراجعته واستشراحه وإدامة النّظر فيه، لتعلُّقه بأهمّ المهمات، وأجلّ المطالب التي خلق الله الخلق لأجلها، وأوجدهم لتحقيقها وهي عبودية الله سبحانه وتعالى وتوحيده.

والذي دعاني للحديث عن هذا الكتاب في هذا المقام، أنني رأيت الشيخ تقيّ الدين رحمه الله في حال ردّه على المخالفين، لا يغلقُ الأبواب المفتوحة المُفضية لدعوة المخالفين إلى الحقّ الذي يدينُ الله به، ولا يُقفل -ما استطاع- منافذ وقنوات المجادلة والمناظرة معهم بالتي هي أحسن.

بل كان رحمهُ الله يُغير عليهم في معاقلهم وهم غارّون، ويقتحم عليهم حصونهم، ثم يعمل على إفسادها من الداخل، وذلك بالتفتيش عن مصطلحاتهم الحادثة، وعباراتهم المُخترعة، وتفكيكها، ورفع الإجمال والغموض عنها، ثم القبول بها، بعد أن يملأ فراغاتها بمعانٍ ومضامين مقبولة في الشرع، من غير احتياجٍ إلى إبطالٍ لها من أصلها، وإنكار وجود معنى صحيح مقبول لها في مدوّنات أهل العلم المتقدمين وكنانيشهم.

فالفناء، مصطلحٌ حادث لم يأت به الشرع، لكنّ القوم تتابعوا على اعتباره والدعوة إلى تحقيق رُتبته، والتدرّج في منازله، فلم يُبطله رحمه الله من أصله، ولم يدخل في خصومة ومنازعة مع أهله في سبيل البحث عن معرفة من أول من سبك هذا المصطلح، بل أقرّهم على وجوده، وتسامح معهم في التّسالم عليه.

لكنهُ انتقل بهم إلى مساحة أخرى من الجدال، وفضاء آخر يتمكّن من إلزامهم بالحقّ من طريقه، بتبيين المقصود من الفناء، وأنهُ مصطلحٌ فيه إجمال واشتراك، لابدّ من إعادة النظر فيه، وإيضاح المعنى المراد منه.

فإذا أُريد بالفناء، فناء القلب عن إرادة ما سوى الربّ سبحانه، بالتوكل عليه وحده وعبادته، وما يتبع ذلك من ثمرات طيبة للعبادة والإقبال على الله، فهذا حقّ وهو محضُ التوحيد والإخلاص، فلا يعبد المكلّف إلا الله ولا يرجو ولا يحبّ ولا يخاف إلا الله، فهذا معنىً حقّ لا ينبغي إنكاره.

أما إذا أُريد به فناء القلب عن شهود ما سوى الرب، فيفنى بمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده، فهذا فناء ناقص، لتعلّقهُ بالنظر إلى مقام الربوبية دون غيره.

أما إذا أُريد به فناء القلب عن وجود ما سوى الله، فذاك معنى باطل، لا يقول به مسلمٌ يعلمُ حقيقة ما يقول، وهذا هو الفناء الذي كان يُفيض في تقريره والاستشهاد له الضال المنحرف ابن عربي الطائي في الفصوص وفي الهو، وتبعهُ على ذلك تلميذهُ صدر الدين القونوي في الفكوك.

فلم يكن الشيخ تقي الدين رحمه الله يُعنى بالهدم والإطاحة بكل ما وجده في طريقه من مقالات حادثة، ومعان مخترعة، لأنّ ذلك قد يأخذ وقتا يطول أمدهُ، ويُشغلُ عن تحقيق المقصود الأعظم والمطلوب الأهمّ وهو هداية الخلق إلى الله وردّهم إلى الجادة التي ضلّوا عنها، أو قد يتعذّر تحصيل مطلبٍ كهذا، فلم يجنح ابتداء إلى المنع، وردّ كل ما جاء به الخصوم، واصطلحوا عليه في كتبهم ومصنفاتهم.

فبنى ردّهُ على ضلالتهم، ودفع شُبهتهم على التسليم بقبول مصطلحهم، مع توجيهه إلى معانٍ صحيحة لا تُصادم الشريعة، ولا تتخالف مع حقائقها ومُسلّماتها.

وقُل مثلَ ذلك في مصطلحات كثيرة حادثة، كالتحيّز والحدّ والمماسة والجهة والجوهر والعرض وقيام الحوادث بالله وقدم العالم وغير ذلك من المعاني والمفاهيم التي تحتمل حقّا محضا وباطلا صِرفا.

رحم الله هذا الإمام الجليل، وأجزل مثوبته، ونفعنا بعلومه.

كتبه محمد بن علي الجوني الألمعي


Tags:

شارك المحتوى: