حال الدنيا

د. يوسف بن محمد السعيد

حال الدنيا

إن الحمد لله …

أما بعد : فاتقوا الله عباد الله ، واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا .

عباد الله : إن كلَّ يومٍ يمرُ بنا في هذه الحياةِ ، فإنما هو مرحلةٌ مِن المراحلِ التي نقطعُها إلى الدارِ الآخرةِ ؛ واليومُ الذي يمرُّ بنا لا يعودُ أبدا ، والعبدُ يمرُّ بأطوار لايدري أَيُتِمُّها أم لا {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وإن امتدَّ بالعبدِ العمرُ ، وصار إلى أرذلِه فقد رُد إلى حالٍ ضعيفةٍ كحالِه في صِغره : {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} ، ويقولُ تعالى : { وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} ؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم يستعيذُ بالله من أن يُرد إلى أرذلِ العُمُرِ ، فقد أخرج البخاريُّ في صحيحِه عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله تعالى عنه أنه قال : «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ» ، وأخرج البخاريُّ عن سعدِ بنِ أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال : «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ» .

عبادَ الله : هذه حالُ الدنيا ، وهي الحياةُ عاش فيها خَلْقٌ كثيرٌ ، وعمرتها أممٌ قد خلت مِن قبلنا ، وظهرت فيها حضاراتٌ كثيرةٌ ، منها ما عرفها الناسُ ومنها وهو الكثيرُ لم يعرفوها : {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا . وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا}

ومَن قرأ التاريخَ عَرف أنه مَيِّتٌ يعيشُ بين أمواتٍ { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}

مَن علم هذه الحالَ هان عنده أمر الدنيا ، فلم يعملْ فيها بغيرِ طاعةِ الله تعالى ، وأعرض عن كلِّ عملٍ يباعدُه من ربه ، ومن رَكَنَ إليها فقد رَكَن إلى ما لا ينفعُه :{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

فاتقوا الله عباد الله ، واعتبروا بِمَن مضى ، وكونوا على استعدادٍ للآخرة ، فقد اقتربت .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم …

الحمد لله على إحسانه …

أما بعد : فاتقوا اللهَ عبادَ الله ، واعلموا رحمكم الله أن هذه الحياةَ مَن استعان بها على أمر آخرته نفعته وكانت نِعْمَ المطيةُ له ، وكان فيها مُطمئنا مهما أصابه ، ومَن رَكَن إليها عُذِّب بها ، ولمْ ينلْ منها إِلا ما كُتب له ، وخسر آخرتَه ، {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }

فاتقوا الله عباد الله ، وإياكم والاغترار بزهرتها ، فإن رزق الله لا يجرُّه حرص حريص . هذا وصلوا وسلموا …


شارك المحتوى: