المجموعة (855)


 

يقول السائل: رجلٌ يرتكب الحرام ثم بعد ذلك يندم على فعله ويتوب منه ويعزم على ألا يعود إليه مرة أخرى، ثم بعد مرور أسبوع أو شهر يعود إلى فعله، فماذا يفعل؟

الجواب:

يقال: ينبغي أن يُعلم أن هذا السائل في مجاهدة نفسه هو في خير بما أنه إذا عصى الله استشعر هذه المعصية وفزع إلى التوبة وعزم على ألا يعود، لكن تغلبه نفسه.

 

وهذا كمثل ما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيما يحكيه عن ربه عز وجل: «أذنب عبدٌ ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك».

 

في هذا الحديث أن هذا الرجل كلما أذنب فزع إلى الله، علم أن له ربًا كريمًا، وعلم أن الله يأخذ عبده بالذنب ويُعاقبه على الذنب لذا يفزع إلى التوبة، لكن تغلبه نفسه ويرجع.

 

ثم لا ييأس، بل يُحسن الظن بربه، مع الخوف منه، فيفزع إلى الله، كما قال تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾، وكما قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾.

 

فيجمع بين الخوف والرجاء، ومما يُشتكى منه في هذا الزمن أننا غلَّبنا الرجاء كثيرًا، فيُذنب أحدنا وهو لا يُبالي، وتراه يُذنب ثم يُذنب ولا يفزع إلى التوبة، وهو يرجو ثواب الله، وهذا من مكر الله بعبده، كما ذكره بعض السلف، ذكر أن من مكر الله بعبده أن العبد يُذنب ولا يُبالي وفي ذنبه يرجو مغفرة الله، وهذا من مكر الله بعبده أسأل الله أن يُعافينا وإياكم.

 

فينبغي لنا أن نجاهد أنفسنا على الطاعة وعلى تقوى الله، وأن نعلم أولًا أن للذنوب شؤمًا عظيمًا في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً﴾، لاحظوا في الدنيا حصل لهم الغرق، وفي الآخرة أُدخلوا النار، أسأل الله أن يُعافيني وإياكم.

 

وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾، فلاحظ كيف أن للذنب شؤمًا عظيمًا، وصدق الله القائل: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾، فالسيئة تدعو أختها، والذنب يدعو الذنب، لذا قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾، فبسبب الذنوب تولوا يوم التقى الجمعان.

 

فالذنوب شؤمها عظيم، وفسادها كبير في الدنيا والآخرة، فلذا ينبغي أن نجاهد أنفسنا على طاعة الله وترك الذنوب صغرت أو كبرت، وإن مما يُعين على ذلك مايلي:

 

أولًا: تقوية الإيمان بطاعة الله، فإن الإيمان كالبذرة، تنمو وتعمق جذورها ويكبر نباتها بطاعة الله، فطاعة الله كالماء الذي تُسقى به هذه النبتة، كلما أقبلنا على الله وجاهدنا أنفسنا على فعل الواجبات ثم على فعل المستحبات ازداد إيماننا، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾، فالحسنة تدعو أختها.

 

ثانيًا: تذكر الموت، فإن الموت هو مصير كل واحد منا، يقول ابن الجوزي: المؤمن والكافر يُقران بالموت ويؤمنان بالموت، لكن الكافر غره طول الأمل.

لذلك يجب أن نُقصر الأمل وأن نعلم أن من خطوات الشيطان أن يُطيل الأمل، وأنه يُحاول أن يُبعد عن أنفسنا وعن خواطرنا أن الموت يهجم علينا الآن، قد يهجم علينا في هذه اللحظة فضلًا عن بعد ذلك.

لكن الشيطان يستعمل طول الأمل، كما قال الله عز وجل: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً﴾، أسأل الله أن يعافيني وإياكم، فتذكر الموت من أنفع ما ينفع في صلاح القلوب، وفي تقوى الله، وفي الإقبال عليه، فهو هادم اللذات ومفرق الجماعات، وقد قال الله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ  وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

ويقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، نسأل الله الفوز برحمته وهو أرحم الراحمين.

 

ثالثًا: تذكر الآخرة، لذلك مما يجعلنا نتذكر الآخرة زيارة القبور، كما في صحيح مسلم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة».

لماذا لا نجعل من المقابر نصيبًا في حياتنا؟ نذهب وحدنا ونزور هذه المقابر ونتأمل فيها، وأننا قريبًا غير بعيد سنكون في هذه المقابر، وهي دارنا وبيتنا وسكننا الذي سنستقبله قريبًا غير بعيد.

 

رابعًا: ترك خطوات الشيطان، فإن للشيطان خطوات، ومن غفل عن هذه الخطوات وتساهل فإنه سيقع بعد ذلك في المعصية، لذلك احذر خطوات الشيطان.

ومن ذلك أن تعلم أن هناك مقاطع إذا فتحتها قد تخرج لك صور نساء، ففي بداية الأمر قف، فإنه أسهل عليك في ترك هذه المعصية، بخلاف إذا تقدمت ثم تقدمت صعُب وزاد أثره عليك، وزاد نكدها في قلبك، لذلك لا تتبعوا خطوات الشيطان كما أمرنا الله سبحانه وتعالى.

خامسًا: إشغال الوقت بالطاعة، فإن الانسان لا بد أن يشتغل بشيء، فإن لم يشتغل بالطاعة، اشتغل بالمعصية أو بما لا ينفعه ولا بد.

هذا كان يقال قديما، فكيف مع وجود الجوالات وما فيها من معاص وملهيات.

وأخيرًا لنُصاحب الصالحين، فإن في مصاحبة الصالحين خيرًا كثيرًا، لأنهم يُعينونا على ذكر الله، والله يقول لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو محمد! -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾.

 

فأسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يُصلحنا وأن يهدينا وأن يُعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا من السبَّاقين والمسارعين على طاعته، وجزاكم الله خيرًا.


شارك المحتوى: