الذب عن الإمام البربهاري

عبدالله بن محمد الحساني

 

الحمدلله وصلى الله وسلم على مصطفاه و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فهذا دفع لبعض الاعتراضات التي أثيرت عن الإمام البربهاري رحمه الله ورفع قدره.
وقبل ذكر الاعتراضات والرد عليها أقول : من المعلوم أن كلام العلماء يحمل على أفضل المحامل وإذا كان ظاهر كلام أحدهم خطأ فإن هذا الظاهر ينتقل عنه إلى معنى آخر وهو الموؤل وإذا كان هذا الانتقال بقرينة صحيحة فهو مقبول عند العلماء وهذا مثال وهو قول الله عزَ وجل : {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} الإسراء.
فالجناح في الحقيقة هو ماذا؟ الجناح المعروف جناح الطائر فهل يمكن لنا أن نأتي ونقول أن الجناح هنا يُحمل على ظاهره بحيث يكون للإنسان جناح ويخفضه هل هذا هو المراد ؟ أو أن يخفض مثلاً جانبه لوالديه هذا هو المراد؟ الثاني هو المراد فيكون هذا المعنى المؤول من هذا النص،.
وهكذا بعض ظواهر كلام الإمام البربهاري توؤل إلى معانٍ صحيحة إذا تأملها الناظر ، لذلك لا يتعجل المنكر في إنكار كلام الأئمة حتى يجمع كلامهم وينظر لطريقتهم ، قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (287): (وأخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم وما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبييحة).

وهذا بيان لبعض تلك المسائل يغني الكلام فيها عن الكلام في غيرها.
أولاً : كلامه المذكور في الوعيد وأن مخالف مافي كتابه صاحب هوى أو كافر فبيانه أن يقال أن نصوص الوعيد في كلام العلماء لها تخريجات كثيرة جداً وكلام البربهاري أولاً لم ينفرد به فقد ذكر مثله ابن بطة في الإبانة وكلامه يحمل على المسائل العظيمة التي ذكرها في أول كتابه أن من لم يؤمن بها فقد كفر، كالسنة والاسلام والصفات ونحوها والمسائل المذكورة كلها أصول أو فروع عن أصول متواترة وهو رحمه صحت لديه آثار بذلك يرى أنه لا يسع خلافها للمسلم فمثلاً مسألة الحوض هي شيء واحد عنده وتحته تفاصيل فمن أنكر الحوض كفر وليس مقصوده التفاصيل داخل هذا الأمر.
ثانياً : التبديع بمسألة قصر الصلاة هذه المسألة لم ينفرد بها أو يقلها بلا سند فهي مرورية عن ابن عمر رضي الله عنه، قال البيهقي في الكبرى ( 5043 ): أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه ، أنبأ أبو محمد بن حيان الأصبهاني ، ثنا ابن منيع ، ثنا أبو الربيع الزهراني ، ثنا عبد الوارث ، ثنا أبو التياح ، عن مورق العجلي ، عن صفوان بن محرز قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ، قال : ” ركعتان ، من خالف السنة كفر ”
فابن عمر كفر من خالف هنا فهلا شنعت على ابن عمر رضي الله عنه أو اتعبت نفسك بالبحث قبل الكلام الذي قلته
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
“ولهذا قال ابن عمر ” صلاة السفر ركعتان ، من خالف السنة كفر ”
أي: من اعتقد أن صلاة ركعتين ليس بمسنون ولا مشروع فقد كفر .” مجموع الفتاوى ” ( 22 / 79 ) .

وقال أيضاً في ( 22 / 225 ) من مجموع الفتاوى :
“وفى ” صحيح مسلم ” ( !! ) عن ابن عمر أنه قال : ” صلاة السفر ركعتان ، فمن خالف السنة كفر ” .

أي : من اعتقد أن الركعتين فى السفر لا تجزىء المسافر كفر .

وفي ( 24 / 108 ): ” وأيضا : فقد قال صفوان بن محرز قلت لابن عمر : حدثنى عن صلاة السفر ، قال : أتخشى أن يكذب علي ؟ قلت : لا ، قال : ركعتان من خالف السنة كفر .
وهذا معروف رواه أبو التياح عن مورق العجلي عنه وهو مشهور فى كتب الآثار وفي لفظ ” صلاة السفر ركعتان ، ومن خالف السنة كفر ”
وبعضهم رفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم فبيَّن أن صلاة السفر ركعتان ، وأن ذلك من السنة التى من خالفها فاعتقد خلافها : فقد كفر . ”
فمن هنا يفهم قول البربهاري رحمه الله وأنه قال بمقتضى العلم ويفهم معنى كلامه ويعلم أنه لا مطعن في ذلك البتة بل من يطعن فيه أوتي من قبل جهله.
ثالثاً : قولك أن من الأباطيل صلاة ست ركعات بعد الجمعة من أبطل الباطل ويدل على جهلك بالسنة والآثار والقول أنها ستُّ ركعات،قد نسبه الترمذي إلى علي رضي الله عنه، ركعتان ثم أربع، وكذا منسوب إلى أبي موسى وابن عمر ومجاهد وعطاء، وهو قول لأبي حنيفة ورواية عن أحمد، وقول أبي يوسف، إلا أنه يرى تقديم الأربع على الركعتين؛كيلا يصير متطوعًا بعد صلاة الفرض بمثلها.
رابعاً : ما يتعلق ببئر برهوت فالإمام رحمه الله مستند على آثار عن السلف ومن هذه الآثار :
قال عبد الرزاق في المصنف 9118 – عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: ” خَيْرُ وَادِيَيْنِ فِي النَّاسِ ذِي مَكَّةُ، وَوَادٍ فِي الْهِنْدِ هَبَطَ بِهِ آدَمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ هَذَا الطِّيبُ الَّذِي تَطَّيَّبُونَ بِهِ، وَشَرُّ وَادِيَيْنِ فِي النَّاسِ وَادِي الْأَحْقَافِ، وَوَادٍ بِحَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهُ: بَرَهَوْتُ، وَخَيْرُ بِئْرٍ فِي النَّاسِ زَمْزَمُ، وَشَرُّ بِئْرٍ فِي النَّاسِ بَلَهَوْتُ، وَهِيَ بِئْرٌ فِي بَرَهَوْتَ تَجْتَمِعُ فِيهِ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ ” وهذا إسناد صحيح.
قال الآلوسي في الآيات البينات :” وَقَالَ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه قَالَ طَائِفَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِن التَّابِعين إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بالجابية وأرواح الْكفَّار ب (برهوت) بِئْر ب (حَضرمَوْت)”

قال ابن القيم في الروح :” فصل وَأما قَول من قَالَ إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بالجابية وأرواح الْكفَّار بحضرموت ببرهوت فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم هَذَا من قَول الرافضة وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بل قد قَالَه جمَاعَة من أهل السّنة
وَقَالَ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه وروى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بالجابية ثمَّ قَالَ أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن يُونُس حَدثنَا احْمَد بن عَاصِم حَدثنَا أَبُو دَاوُد سُلَيْمَان ابْن دَاوُد حَدثنَا همام حَدثنِي قَتَادَة حَدثنِي رجل عَن سعيد بن الْمسيب عَن عبد الله بن عَمْرو وَأَنه قَالَ إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ تَجْتَمِع بالجابية وان أَرْوَاح الْكفَّار تَجْتَمِع فِي سبخَة بحضرموت يُقَال لَهَا برهوت
ثمَّ سَاق من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن عبد الْجَلِيل بن عَطِيَّة عَن شهر بن حَوْشَب أَن كَعْبًا رأى عبد الله بن عَمْرو وَقد تكالب النَّاس عَلَيْهِ يسألونه فَقَالَ لرجل سَله أَيْن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ وأرواح الْكفَّار فَسَأَلَهُ فَقَالَ أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بالجابية وأرواح الْكفَّار ببرهوت
قَالَ ابْن مَنْدَه وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره عَن عبد الْجَلِيل ثمَّ سَاق من حَدِيث سُفْيَان عَن فرات الْقَزاز عَن أَبى الطُّفَيْل عَن على قَالَ خير بِئْر فِي الأَرْض زَمْزَم وَشر بِئْر فِي الأَرْض برهوت فِي حَضرمَوْت وَخير وَاد فِي الأَرْض وَادي مَكَّة والوادي الَّذِي أهبط فِيهِ آدم بِالْهِنْدِ مِنْهُ طيبكم وَشر وَاد فِي الأَرْض الْأَحْقَاف وَهُوَ فِي حَضرمَوْت ترده أَرْوَاح الْكفَّار
قَالَ ابْن مَنْدَه وروى حَمَّاد بن سَلمَة عَن على بن زيد عَن يُوسُف بن مهْرَان عَن ابْن عَبَّاس عَن على أبْغض بقْعَة فِي الأَرْض وَاد بحضرموت يُقَال لَهُ برهوت فِيهِ أَرْوَاح الْكفَّار وَفِيه بِئْر مَاؤُهَا بِالنَّهَارِ أسود كَأَنَّهُ قيح تأوي إِلَيْهِ الْهَوَام
ثمَّ سَاق من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق القَاضِي حَدثنَا على بن عبد الله حَدثنَا سُفْيَان حَدثنَا إبان بن تغلب قَالَ قَالَ رجل بت فِيهِ يعْنى وَادي برهوت فَكَأَنَّمَا حشرت فِيهِ أصوات النَّاس وهم يَقُولُونَ يَا دومه يَا دومه قَالَ إبان فحدثنا رجل من أهل الْكتاب أَن دومة هُوَ الْملك الَّذِي على أَرْوَاح الْكفَّار”

وقال مقاتل بن سليمان في تفسيره :” وترتفع أروح الكفار من تحت الأرض السفلى إلى واد يقال له برهوت وهو بحضرموت”

وكثير من الفقهاء من جميع المذاهب ينصون على كراهية الوضوء بماء برهوت لهذا الداعي.
فهذا أثر موجود في كل هذه المصادر ولم يقل أحد أنه باطل إلا هذا الدعي ومن نقل عنه.

خامساً : مسألة الدعاء على السلطان هذه المسألة كسابقاتها للإمام فيها استناد على أقوال أئمة السلف قال الإمام البربهاري رحمه الله في شرح السنة : 3_ [127] وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله.
لقول فضيل: لو كانت لي دعوة ما جعلتها الا في السلطان.
أنا أحمد بن كامل قال: نا الحسين بن محمد الطبري، نا مردويه الصائغ، قال:: سمعت فضيلا يقول: لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في السلطان. ”

قال أبو نعيم في الحلية (8/91) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنا أَبُو يَعْلَى , ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ الْبَغْدَادِيُّ , وَلَقَّبَهُ مَنْ دَوَّنَهُ قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ , يَقُولُ: ” لَوْ أَنَّ لِيَ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً مَا صَيَّرْتُهَا إِلَّا فِي الْإِمَامِ قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ؟ قَالَ: مَتَى مَا صَيَّرْتُهَا فِي نَفْسِي لَمْ تُجْزِنِي وَمَتَى صَيَّرْتُهَا فِي الْإِمَامِ فَصَلَاحُ الْإِمَامِ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ فَسِّرْ لَنَا هَذَا قَالَ: أَمَّا صَلَاحُ الْبِلَادِ فَإِذَا أَمِنَ النَّاسُ ظَلَمَ الْإِمَامِ عَمَّرُوا الْخَرَابَاتِ وَنَزَلُوا الْأَرْضَ وَأَمَّا الْعِبَادُ فَيَنْظُرُ إِلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ فَيَقُولُ: قَدْ شَغَلَهُمْ طَلَبُ الْمَعِيشَةَ عَنْ طَلَبِ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ فَيَجْمَعُهُمْ فِي دَارٍ خَمْسِينَ خَمْسِينَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: لَكَ مَا يُصْلِحُكَ وَعَلِّمْ هَؤُلَاءِ أَمْرَ دِينِهِمْ وَانْظُرْ مَا وَانْظُرْ مَا أَخْرَجَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فِيهِمْ مِمَّا يُزَكِّي الْأَرْضَ فَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَكَانَ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ ” فَقَبَّلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ جَبْهَتَهُ , وَقَالَ: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ مَنْ يُحْسِنُ هَذَا غَيْرُكَ.
فابن المبارك يستحسن هذا وهو من أئمة السلف.
قال ابن أبي شيبة في المصنف 32706- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إدْرِيسَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ , عَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ , قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُكَيْمٍ : لاَ أُعِينُ عَلَى قَتْلِ خَلِيفَةٍ بَعْدَ عُثْمَانَ أَبَدًا , قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : وَأَعَنْت عَلَى دَمِهِ , قَالَ : إنِّي أَعُدُّ ذِكْرَ مَسَاوِئِهِ عَوْنًا عَلَى دَمِهِ. ”
وهذا الذي ذكره الإمام البربهاري من المنع من ثلبهم بالدعاء عليهم من هذا الباب ، وعدم ذكر مساوئه عند الغوغاء لا يعني الثناء عليه بما ليس فيه.
والبربهاري رحمه الله قد آذاه السلطان في وقته وكان له شعبية عظيمة عند العامة حتى أن رجةً تحصل في الأفق إذا شمت عاطس في مجلسه فلو كان من هؤلاء السفلة الذين نراهم اليوم لاستغل ذلك في التهييج على الحاكم ، ولكنه كان يتبع الآثار قال أبو الحسين بن الفراء: ” كان للبربهاري مجالدات ومقامات في الدين كبيرة، وكان المخالفون يغيظون قلب السلطان عليه. ففي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة أرادوا حبسه، فاستتر وقبض على جماعة من كبار أصحابه، وحملوا إلى البصرة، فعاقب الله الوزير ابن مقلة وسخط عليه الخليفة وأحرق داره، ثم سملت عينا الخليفة في جمادى الآخرى سنة اثنتين وعشرين. وأعاد الله البربهاري إلى حشمته وزادت، حتى أنه لما حضر جنازة نفطويه النحوي تقدم في الصلاة عليه، وعظم جاهه، وكثر أصحابه، فبلغنا أنه اجتاز بالجانب الغربي، فعطس، فشمته أصحابه، فارتفعت صيحتهم حتى سمعها الخليفة وهو في روشن فسأل: ما هذا؟ فأخبر بالحال، فاستهولها.
ثم لم تزل المبتدعة يوحشون قلب الراضي بالله عليه إلى أن نودي في بغداد أن لا يجتمع من أصحاب البربهاري نفسان. فاختفى البربهاري إلى أن توفي مستتراً في رجب من هذه السنة، ودفن بدار أخت توزون مختفياً ( نقله الذهبي في تواريخه )

ومما يتعلق بهذه المسألة أن كثيراً ممن يطعن في البربهاري قد جمع بين متناقضات وهذه المسألة بالذات يطعن فيها من يرى الخروج على الحاكم وتجده مع يعتذر للترابي وسيد قطب في كثير من أمورهم المستشنعة التي خالفوا فيها الكتاب والسنة ولا تجده يعتذر للإمام البربهاري مع أنه أحق بالعذر لكن البدعة تعمي وتصم في عقيدة السلف أصحاب الحديث (109) لأبي عثمان الصابوني – بسنده- إلى أحمد بن سعيد الرِّباطيِّ، أنَّه قال: قال لي عبد الله بن طاهر: ( يا أحمد! أنّكم تبغضون هؤلاء القوم [ أي: المرجئة ] جهلاً !
وأنا أبغضهم عن معرفة؛ إنّهم لا يرون للسلطان طاعة …)

سادساً : مسألة تفضيل عثمان على علي وأنها لا يبدع فيها هذه أضفها لجهالاتك وخذ العلم من منبعه.
فالقول في أساسه بدعة لمخالفته اتفاق الصحابة على تقديم عثمان لذا اعتبر الدارقطني تفضيل علي إزراء على المهاجرين والأنصار ، غير أن هذه المسألة كان فيها خفاء في بعض الأمكنة والأزمنة فكان يتخلف الحكم على بعض الأعيان لما يعلم من أحوالهم قال الخلال في السنة 530 – وَأَخْبَرَنِي زُهَيْرُ بْنُ صَالِحِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سُئِلَ أَبِي وَأَنَا أَسْمَعُ، عَنْ مَنْ يُقَدِّمُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ مُبْتَدِعٌ؟ قَالَ: «هَذَا أَهْلٌ أَنْ يُبَدَّعَ، أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِّمُوا عُثْمَانَ»

وقال الخلال أيضاً 531 – وَأَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، أَنَّ حَنْبَلًا حَدَّثَهُمْ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَسُئِلَ عَنْ مَنْ يُقَدِّمُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ هُوَ عِنْدَكَ مُبْتَدِعٌ؟ قَالَ: «هَذَا أَهْلٌ أَنْ يُبَدَّعَ، أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِّمُوا عُثْمَانَ بِالتَّفْضِيلِ» ، وَقَالَ حَنْبَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ قَالَ: عَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ عِدَّةً مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الرَّوَافِضِ ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ أُولَئِكَ، يَعْنِي الَّذِينَ قَدَّمُوا عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ، قَدْ خَالَفُوا مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مَنْ قَالَ: عَلِيٌّ ثُمَّ عُثْمَانُ، وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى أَنَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٌّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ”

وقال الخلال أيضاً قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا صَالِحٌ، أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: «أَهْلٌ أَنْ يُبَدَّعَ، أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِّمُوا عُثْمَانَ»

فتأمل أنه جعل علة التبديع مخالفة اتفاق الصحابة
وقال الخلال في السنة 563 – أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، قَالَ: ذَكَرْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي التَّفْضِيلِ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، فَعَجِبَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، قُلْتُ: إِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ يَذْهَبُونَ إِلَى هَذَا، فَقَالَ: ” لَيْسَ يَقُولُ هَذَا أَحَدٌ إِلَّا مَزْكُومٌ، وَاحْتَجَّ بِمَنْ فَضَّلَ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ فَذَكَرَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَقَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «أَمَّرْنَا خَيْرَ مَنْ بَقِيَ، وَلَمْ نَأْلُ» وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلَ عَائِشَةَ رَحِمَهَا اللَّهُ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ: «أَنَّهَا فَضَّلْتُهُ عَلَى عَلِيٍّ»

وقال الخلال في السنة 562 – ثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي الْحَارِثِ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ الدَّوْرَقِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَيْتُونِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ، رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: قُلْتُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ: إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَالَ ذَا»
قد جمع الخلال بين روايات التبديع والروايات الأخرى بقوله :” 535 – قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: لَا نَرَى فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ تَوَقُّفِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: مُبْتَدِعٌ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا لَوْ قَالَ لَهُ: مُبْتَدِعٌ”

من الخطأ أن يقال بأن هذه المسألة لا تبديع فيها ولا وصف بالتشيع فأحمد نفسه لا يقول هذا ولكنه لا ينكر على من قاله
قال أبو زرعة الدمشقي في تاريخه وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ قال: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: كُنْتُ أُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَقَالَ لِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ رَجُلٌ أَسْرَعَ فِي كَذَا، أَوْ رَجُلٌ أَسْرَعَ فِي الْمَالِ؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ، وَقُلْتُ: لا أعود.”
فهذا عمر يناصح في هذه المسألة ويستتيب ويقيم الأدلة.

سابعاً :مسألة تنزل قطرة مع كل ملك فيها آثار عن التابعين بل ذكرها أبو حامد الغزالي في كتابه الاقتصاد وقد ذُكرت في بعض كتب التفسير بدون سند عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من قوله، قال الإمام البغوي في تفسيره: ويقال: لا تنزل من السماء قطرة إلا ومعها ملك يسوقها حيث يريد الله عز وجل ويشاء. اهـ.
وجاء في البداية والنهاية “أَنَّهُ مَا مِنْ قَطْرَةٍ تنزل من السَّماء إلاّ ومعها ملكٌ يقرِّرها فِي مَوْضِعِهَا مِنَ الْأَرْضِ”] البداية والنهاية ط إحياء التراث (1/ 49)
عن علي رضي الله عنه قال: (لم يُنزلْ قطرةً من ماء إلا بكَيل علي يد ملك إلا يوم نوح عليه السلام فإنه أذن للماء دون الخزان، فطغي الماء علي الخزان، فخرج فذلك قوله تعالي: {إِنّا لَمّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}، ولم ينزل شيء من الريحِ إلا بكيل علي يدي ملك، إلا يوم عاد فإنه أذن له دون الخزان، فذلك قوله تعالي:{وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}
كنز العمال (4679)، أخرجه ابن جرير (29/500).

ثامناً : من أعجب المسائل جعل المعترض مسألة اللفظية والواقفة مما لا يبدع فيه وهذا أمر يجعل المرء في حيرة بل يجعله يكاد يجزم أن هذا الكلام إما لأشعري أو مبتدع آخر وإلا فقد نطقت بجهل عظيم وبيان المسألة أن يقال :
قال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/172) :” شاهين بْن السميذع أَبُو سلمة العبدي نقل عَنْ إمامنا أشياء:
منها ما قرأته بخط أبي حفص البرمكي قال: قرأت عَلَى أبي مردك حدثك عَلِيّ بْن سعيد الخفاف حَدَّثَنَا شاهين بْن السميذع قَالَ: سمعت أبا عَبْدِ اللَّهِ أحمد بن حنبل يقول الواقفة شر من الجهمية ومن قَالَ: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر قَالَ: وسمعت أبا عَبْد اللَّهِ يقول إِسْحَاق بْن إسرائيل واقفي مشئوم
وسالت أبا عَبْد اللَّهِ عمن يقول أنا أقف فِي القرآن تورعًا قَالَ: ذاك شاك فِي الدين إجماع العلماء والأئمة المتقدمين عَلَى إن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق هذا الدين الذي أدركت عليه الشيوخ وأدرك من كان قبلهم عَلَى هذا”
فهنا الإمام أحمد رحمه الله يحكم على من يقول لفظي مخلوق أنه كافر فأي جرم ارتكبته أن تجعل هذه المسألة خلافية بين السلف مما لا يبدع فيه

قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان في عقيدتهما :” من قال لفظي في القرآن مخلوق فهو جهمي أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي”
والجهمي كافر عندهم بل إن جماعة من السلف شددوا النكير على من لم يكفره
قال الخطيب في تاريخ بغداد (8/351) : أخبرنا أَبُو بَكْرٍ البرقاني، قَالَ: قرأت عَلَى بشر بن أَحْمَد الإسفراييني، قَالَ لكم أَبُو سُلَيْمَان داود بن الْحُسَيْن البيهقي: بلغني أن الحلواني الْحَسَن بن عَلِيّ، قَالَ: إني لا أكفر من وقف فِي القرآن، فتركوا علمه. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: سألت سَلَمَة بن شبيب عَنْ علم الحلواني، قَالَ: يرمى فِي الحش، قَالَ أَبُو سَلَمَة: من لم يشهد بكفر الكافر فهو كافر. ”
وهذا إسناد صحيح
ونقل حرب الإجماع على تكفير الواقفة ، ونقل الرازيان الاتفاق على تكفير من يفهم منهم.
قال اللالكائي في السنة 287 : ووجدت في بعض كتب أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي رحمه الله مما سمع منه ، يقول :
مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم بإحسان ، وترك النظر في موضع بدعهم ، والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إبراهيم ، وأبي عبيد القاسم بن سلام ، والشافعي .
ولزوم الكتاب والسنة ، والذب عن الأئمة المتبعة لآثار السلف
واختيار ما اختاره أهل السنة من الأئمة في الأمصار مثل : مالك بن أنس في المدينة ، والأوزاعي بالشام ، والليث بن سعد بمصر ، وسفيان الثوري ، وحماد بن زياد بالعراق من الحوادث مما لا يوجد فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين .
وترك رأي الملبسين المموهين المزخرفين الممخرقين الكذابين ، وترك النظر في كتب الكرابيسي ، ومجانبة من يناضل عنه من أصحابه وشاجر فيه مثل داود الأصبهاني وأشكاله ومتبعيه .
والقرآن كلام الله وعلمه وأسماؤه وصفاته وأمره ونهيه ، ليس بمخلوق بجهة من الجهات .
ومن زعم أنه مخلوق مجعول فهو كافر بالله كفرا ينقل عن الملة ، ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر . والواقفة واللفظية جهمية ، جهمهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل .
والاتباع للأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان . وترك كلام المتكلمين ، وترك مجالستهم وهجرانهم ، وترك مجالسة من وضع الكتب بالرأي بلا آثار.”
قال الآجري في الشريعة :” احذروا رحمكم الله هؤلاء الذين يقولون : إن لفظه بالقرآن مخلوق ، وهذا عند أحمد بن حنبل ، ومن كان على طريقته منكر عظيم
وقائل هذا مبتدع ، خبيث ولا يكلم ، ولا يجالس ، ويحذر منه الناس ، لا يعرف العلماء غير ما تقدم ذكرنا له ، وهو أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، ومن قال مخلوق ، فقد كفر
ومن قال : القرآن كلام الله ووقف فهو جهمي ، ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي أيضا
كذا قال أحمد بن حنبل ، وغلظ فيه القول جدا”.

قال الطبري في صريح السنة :” وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن ، فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ، ولا تابعي قضى ، إلا عمن في قوله الغناء والشفاء رحمة الله عليه ورضوانه ، وفي اتباعه الرشد والهدى ، ومن يقوم قوله لدينا مقام قول الأئمة الأولى : أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : « اللفظية جهمية ؛ لقول الله جل اسمه : ( حتى يسمع كلام الله ) ، فممن يسمع » . ثم سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يذكرون عنه أنه كان يقول : « من قال : لفظي بالقرآن مخلوق ، فهو جهمي ، ومن قال : هو غير مخلوق ، فهو مبتدع».
قال الذهبي في تاريخ الإسلام (4/ 376) :” وقال المروذي في كتاب القصص: عزم حسن بن البزاز، وأبو نصر بن عبد المجيد، وغيرهما على أن يجيئوا بكتاب المدلسين الذي وضعه الكرابيسي يطعن فيه على الأعمش، وسليمان التيمي. فمضيت إليه في سنة أربع وثلاثين فقلت: إن كتابك يريد قوم أن يعرضوه على عبد الله، فأظهر أنك قد ندمت عليه.
فقال: إن أبا عبد الله رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق. قد رضيت أن يعرض عليه. لقد سألني أبو ثور أن أمحوه، فأبيت.
فجيء بالكتاب إلى عبد الله، وهو لا يعلم لمن هو، فعلموا على مستبشعات من الكتاب، وموضع فيه وضع على الأعمش، وفيه: إن زعمتم أن الحسن بن صالح كان يرى السيف فهذا ابن الزبير قد خرج.
فقال أبو عبد الله: هذا أراد نصرة الحسن بن صالح، فوضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جمع للروافض أحاديث في هذا الكتاب.
فقال أبو نصر: إن فتياننا يختلفون إلى صاحب هذا الكتاب.
فقال: حذروا عنه. ثم انكشف أمره، فبلغ الكرابيسي، فبلغني أنه قال: سمعت حسينا الصايغ يقول: قال الكرابيسي: لأقولن مقالة حتى يقول أحمد بن حنبل بخلافها فيكفر، فقال: لفظي بالقرآن مخلوق.
فقلت لأبي عبد الله: إن الكرابيسي قال: لفظي بالقرآن مخلوق. وقال أيضا: أقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق من كل الجهات، إلا أن لفظي بالقرآن مخلوق. ومن لم يقل إن لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر.
فقال أبو عبد الله: بل هو الكافر، قاتله الله، وأي شيء قالت الجهمية إلا هذا؟
قالوا كلام الله، ثم قالوا: مخلوق. وما ينفعه وقد نقض كلامه الأخير كلامه الأول حين قال: لفظي بالقرآن مخلوق.
ثم قال أحمد: ما كان الله ليدعه وهو يقصد إلى التابعين مثل سليمان الأعمش، وغيره، يتكلم فيهم. مات بشر المريسي، وخلفه حسين الكرابيسي.
ثم قال: أيش خبر ابي ثور؟ وافقه على هذا؟ قلت: قد هجره.
قال: قد أحسن.
قلت: إني سألت أبا ثور عمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: مبتدع.
فغضب أبو عبد الله وقال: أيش مبتدع؟! هذا كلام جهم بعينه. ليس يفلح أصحاب الكلام.
وقال عبد الله بن حنبل: سئل أبي وأنا أسمع عن اللفظية والواقفة فقال: من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي”
فالإمام أحمد ينكر على أبي ثور قوله في اللفظي ( مبتدع) فهذا دليل أنه يكفرهم كلهم لا الكرابيسي وحده
وفي السنة للخلال أنه اعتبر الواقفة واللفظية والجهمية الأول شيء واحد

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (12/421) :” وَأَمَّا الْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ – الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ تِلَاوَةُ الْعِبَادِ لَهُ – وَهِيَ ” مَسْأَلَةُ اللَّفْظِيَّةِ ” فَقَدْ أَنْكَرَ بِدْعَةَ ” اللَّفْظِيَّةِ ” الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتَهُ وَاللَّفْظَ بِهِ مَخْلُوقٌ أَئِمَّةُ زَمَانِهِمْ جَعَلُوهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَبَيَّنُوا أَنَّ قَوْلَهُمْ: يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ تَكْفِيرُهُمْ. وَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَنْهُ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْهُ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ وَالصُّدُورِ إلَّا كَمَا أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي مُصْعَبٍ الزُّهْرِيّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي الْوَلِيدِ الْجَارُودِيَّ وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ وَيَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الدورقي وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو الْعَدَنِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي وَمُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطوسي وَعَدَدٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَهُدَاتِهِ”
وهذا كلام حسن لشيخ الإسلام وفيه التصريح أن السلف كفروا اللفظية فلا خصوصية لأحمد
وقال حرب الكرماني في عقيدته التي ذكر فيها الإجماع السلفي :” والقرآن كلام الله تكلم به ليس بمخلوق، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أكفر من الأول وأخبث قولًا، ومن زعم إن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي خبيث مبتدع.
ومن لم يكفرها ولا القوم ولا الجهمية كلهم فهو مثلهم”
للفائدة لا يصح نسبة الإمام البخاري لهذه المسألة ولم يصح أنه قال لفظي مخلوق بل المنقول عنه خلافه رحمه الله
قال الخطيب في تاريخه (2/340) : أَخْبَرَنَا أحمد بن محمد بن غالب، قَالَ: أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، قَالَ: أخبرنا عبد الله بن محمد بن سيار، قَالَ: حَدَّثَنِي محمد بن خشنام، وسمعته يقول: سئل محمد بن إسماعيل، بنيسابور عن اللفظ، فقال: حَدَّثَنِي عبيد الله بن سعيد، يعني أبا قدامة، عن يحيى بن سعيد، قَالَ: أعمال العباد كلها مخلوقة.
فمرقوا عليه، قَالَ: فقالوا له بعد ذلك، ترجع عن هذا القول حتى يعودوا إليك؟
قَالَ: لا أفعل إلا أن تجيئوا بحجة فيما تقولون أقوى من حجتي.
وأعجبني من محمد بن إسماعيل ثباته.
فهذا الخبر صريح في أن البخاري لم يقل (لفظي بالقرآن مخلوق) اللفظ الموهم الذي ذمه أحمد
وإنما قال (أفعال العباد مخلوقة)، مع تصريحه مراراً وتكراراً بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما في كتابه خلق أفعال العباد ، وسبب قول البخاري هذا أن رأى أن بعضهم لما رأى أحمد ذم من يقول (لفظي بالقرآن مخلوق) ، قالوا (لفظي بالقرآن غير مخلوق) ، فأوهموا أن أفعال العباد غير مخلوقة.
ولهذا حقق شيخ الإسلام أن نسبة قول اللفظية للبخاري فرية فقال كما في مجموع الفتاوى ( 12/ 364): “وَكَذَلِكَ أَيْضًا افْتَرَى بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْبُخَارِيِّ الْإِمَامِ صَاحِبِ “الصَّحِيحِ” أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَجَعَلُوهُ مِنْ “اللَّفْظِيَّةِ” حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ : مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي.
وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَكَانَ فِي الْقَضِيَّةِ أَهْوَاءٌ وَظُنُونٌ حَتَّى صَنَّفَ ” كِتَابَ خَلْقِ الْأَفْعَالِ ”

وَذَكَرَ فِيهِ مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي قدامة عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ : مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ .
وَذَكَرَ فِيهِ مَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ كِتَابِهِ “الصَّحِيحِ ” مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَيُنَادِي بِصَوْتِ .
وَسَاقَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْآثَارِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يُنَادِي اللَّهُ بِهِ وَبَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ
وَأَنَّ الصَّوْتَ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ لَيْسَ هُوَ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقَارِئِ وَبَيَّنَ دَلَائِلَ ذَلِكَ وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ مَخْلُوقَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِهِ وَكَلَامِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ”.
تاسعاً : قولك أن من باطل البربهاري أنه يقول ( لفظة التوحيد خاصة بالمعتزلة ) وهذا من الخطأ أن ينتقد عليه وببيان كلامه يتبين الصواب، قال رحمه الله :
[١٣٢] وإن سمعت الرجل يقول: [فلان] مشبه، فاعلم أنه رافضي.
وإذا سمعت الرجل يقول: تكلم بالتوحيد، واشرح لي التوحيد، فاعلم أنه خارجي معتزلي..
فهناك فرق بين عبارتك وعبارته واضح جداً ويعلم بأدنى تأمل ومعنى كلامه رحمه الله. أنه يتكلم عن أهل زمانه من المعتزلة ممن يقول لا يتكلم في شيء من العلم والشرع إلا التوحيد وهم يقصدون بالتوحيد نفي الصفات كما يعلم ذلك، وإنما مقصوده الذي يذكره الشراح هو ما تقدم ذكره فبدل أن ترميه بأنه نطق بالباطل وأن العلماء سكتوا مع كثرة من شرح كتابه من أهل العلم فلو سألت بعض العلماء مع إحسانك الظن به وبهم لتبين لك معنى كلامه.

وفيما ذكر كفاية وقد ختم الرسالة بقوله أن العلماء ساكتون عن هذه الأخطاء المنهجية والذي كان ينبغي عليك أن تكف لسانك عن مثل هذه الكلمة أتظن أن الله يجعلهم ورثة للنبي صلى الله عليه وسلم ويجعل لهم هذا الذكر ثم يسكتون عن بيان الحق ويبينه أمثالك.
ثم نطقت بكلمة اسوأ من سابقتها فطلبت تنقية كتب التراث ( وأظنك تقصد كتب السلف ) من هذه الإشكالات وجعلتها سبباً للغلو في التجريح كما يفهم من كلمتك السوقية ( مجرحاتية ) إن كان الإشكالات من جنس ما ذكرته سابقاً فواضح جداً جداً أن الإشكال هو جهلك بكتب السلف وجرأتك مع هذا الجهل وإن كان غير ما ذكرته فأخرجه لينظر فيه.
وأخيراً اتق الله عز وجل في نفسك واعلم أنك موقوف بين يديه فاسلك جادة أهل العلم والزم طريقة العلماء الراسخين لعلك تنجو.
اللهم إن كان ناشر هذا الكلام يريد حقاً فأظهره له وإن كان يريد غير ذلك فاكف المسلمين شره.
والله الموفق لا رب سواه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

سحر يوم السبت 19/6/1438
عبدالله الحساني


Tags:

شارك المحتوى: